الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل الملأ من القوم: وجوههم وأشرافهم، وهو اسم للجماعة، لا واحد له من لفظه، وأصل الباب الاجتماع فيما لا يحتمل المزيد، وإنما سمي الأشراف بذلك؛ لأن هيبتهم تملأ الصدور، أو لأنهم يتمالئون؛ أي: يتعاونون بما لا مزيد عليه، و ( من ) للتبعيض، والجار والمجرور متعلق بمحذوف، وقع حالا من الملإ من بعد موسى أي: من بعد وفاته _ عليه السلام _ و ( من ) للابتداء، وهي متعلقة بما تعلق به ما قبله، ولا يضر اتحاد الحرفين لفظا؛ لاختلافهما معنى إذ قالوا لنبي لهم قال أبو عبيدة: هو أشمويل بن حنة بن العاقر، وعليه الأكثر، وعن السدي: أنه شمعون، وقال قتادة: هو يوشع بن نون لمكان من بعد من قبل، وهي ظاهرة في الاتصال، ورد بأن يوشع هذا فتى موسى _ عليهما السلام _ وكان بينه وبين داود قرون كثيرة، والاتصال غير لازم، و ( إذ ) متعلقة بمضمر يستدعيه المقام؛ أي: ( ألم تر ) قصة الملإ أو حديثهم حين قالوا: ابعث لنا ملكا أي: أقم لنا أميرا، وأصل البعث إرسال المبعوث من المكان الذي هو فيه، لكن يختلف باختلاف متعلقه، يقال: بعث البعير من مبركه: إذا أثاره، وبعثته في السير: إذا هيجته، وبعث الله تعالى الميت: إذا أحياه، وضرب البعث على الجند: إذا أمروا بالارتحال [ ص: 165 ] نقاتل في سبيل الله مجذوم بالأمر، وقرئ بالرفع على أنه حال مقدرة؛ أي: ابعثه لنا مقدرين القتال، أو مستأنف استئنافا بيانيا؛ كأنه قيل: فماذا تفعلون مع الملك؟ فأجيب: نقاتل، وقرئ: يقاتل بالياء مجزوما ومرفوعا على الجواب للأمر والوصف لـ ( ملكا )، وسبب طلبهم ذلك على ما في بعض الآثار: أنه لما مات موسى خلفه يوشع؛ ليقيم فيهم أمر الله تعالى، ويحكم بالتوراة، ثم خلفه كالب كذلك، ثم حزقيل كذلك، ثم إلياس كذلك، ثم اليسع كذلك، ثم ظهر لهم عدو وهم العمالقة قوم جالوت، وكانوا سكان بحر الروم بين مصر وفلسطين، وظهروا عليهم، وغلبوا على كثير من بلادهم، وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين، وضربوا عليهم الجزية، وأخذوا توراتهم، ولم يكن لهم نبي إذ ذاك يدبر أمرهم، وكان سبط النبوة قد هلكوا إلا امرأة حبلى، فولدت غلاما فسمته أشمويل، ومعناه: إسماعيل، وقيل: شمعون، فلما كبر سلمته التوراة وتعلمها في بيت المقدس، وكفله شيخ من علمائهم، فلما كبر نبأه الله تعالى، وأرسله إليهم، فقالوا: إن كنت صادقا؛ فابعث لنا ملكا الآية، وكان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك، وطاعة أنبيائهم، وكان الملك هو الذي يسير بالجموع، والنبي هو الذي يقيم أمره، ويرشده، ويشير عليه قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا عسى من النواسخ، وخبرها ( أن لا تقاتلوا ) وفصل بالشرط اعتناء به، والمعنى: هل قاربتم أن لا تقاتلوا كما أتوقعه منكم، والمراد: تقرير أن المتوقع كائن وتثبيته على ما قيل، واعترض بأن عسيتم أن لا تقاتلوا معناه: توقع عدم القتال، و ( هل ) لا يستفهم بها إلا عما دخلته، فيكون الاستفهام عن التوقع لا المتوقع، ولا يلزم من تقرير الاستفهام أن المتوقع ثابت، بل إن التوقع كائن، وأين هذا من ذاك؟! وأجيب بأن الاستفهام دخل على جملة مشتملة على توقع ومتوقع، ولا سبيل إلى الأول؛ لأن الرجل لا يستفهم عن توقعه، فتعين أن يكون عن المتوقع، ولما كان الاستفهام على سبيل التقرير؛ كان المراد أن المتوقع كائن، وقيل: لما كانت عسى لإنشاء التوقع، ولا تخرج عنه؛ جعل الاستفهام التقريري متوجها إلى المتوقع، وهو الخبر الذي هو محل الفائدة، فقرره وثبته، وكون المستفهم عنه يلي الهمزة ليس أمرا كليا، وقيل: إن عسى ليست من النواسخ، وقد تضمنت معنى قارب، وأن وما بعدها مفعول لها، وهذا معنى قول بعضهم: إنها خبر لا إنشاء، واستدل على ذلك بدخول الاستفهام عليها، ووقوعها خبرا في قوله:

                                                                                                                                                                                                                                      لا تكثرن إني عسيت صائما

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يخفى ما فيه، وإنما ذكر في معرض الشرط كتابة القتال دون ما التمسوه، مع أنه أظهر تعلقا بكلامهم؛ مبالغة في بيان تخلفهم عنه، فإنهم إذا لم يقاتلوا عند فرضية القتال عليهم، بإيجاب الله تعالى؛ فلأن لا يقاتلوا عند عدم فرضيته أولى، ولأن ما ذكروه ربما يوهم أن سبب تخلفهم هو المبعوث، لا نفس القتال، ويحتمل أنه أقام هذا مقام ذلك؛ إيماء إلى أن ذلك البعث المترتب عليه القتال إذا وقع فإنما يقع على وجه يترتب عليه للفرضية، وقرئ: عسيتم بكسر السين، وهي لغة قليلة، قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله أي: ما الداعي لنا إلى أن لا نقاتل؟ أي: إلى ترك القتال، والجار والمجرور متعلق بما تعلق به ( لنا )، أو به نفسه، وهو خبر عن ( ما )، ودخلت الواو لتدل على ربط هذا الكلام بما قبله، ولو حذفت لجاز أن يكون منقطعا عنه، قاله أبو البقاء، وجوز أن تكون عاطفة على محذوف؛ كأنهم قالوا: عدم القتال غير متوقع منا، وما لنا أن لا نقاتل، وإنما لم يصرحوا به تحاشيا عن مشافهة نبيهم بما هو ظاهر في رد كلامه، والشائع في مثل هذا التركيب: ما لنا نفعل أو لا نفعل، على أن الجملة حال، ولما منع من ذلك هنا أن المصدرية إذ لا توافقه التزم فيه ما التزم، والأخفش ادعى [ ص: 166 ] زيادة ( أن ) وأن العمل لا ينافيها، والجملة نصب على الحال، كما في الشائع، وقيل: إنه على حذف الواو، ويؤول إلى: ما لنا ولأن لا نقاتل؛ كقولك: إياك وأن تتكلم، وقد يقال: إياك أن تتكلم، والمعنى على الواو، وقيل: إن ما هنا نافية؛ أي: ليس لنا ترك القتال وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا في موضع الحال، والعامل ( نقاتل ) والغرض الإخبار بأنهم يقاتلون لا محالة، إذ قد عرض لهم ما يوجب المقاتلة إيجابا قويا، وهو الإخراج عن الأوطان، والاغتراب من الأهل والأولاد، وإفراد الأبناء بالذكر؛ لمزيد تقوية أسباب القتال، وهو معطوف على الديار، وفيه حذف مضاف عند أبي البقاء؛ أي: ومن بين أبنائنا، وقيل: لا حذف، والعطف على حد

                                                                                                                                                                                                                                      علقتها تبنا وماء باردا

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الكلام إسناد ما للبعض لا للكل، إذ المخرج بعضهم لا كلهم

                                                                                                                                                                                                                                      فلما كتب عليهم القتال بعد سؤال النبي وبعث الملك؛ تولوا أعرضوا وضيعوا أمر الله تعالى، ولكن لا في ابتداء الأمر، بل بعد مشاهدة كثرة العدو وشوكته، كما سيجيء، وإنما ذكر ههنا مآل أمرهم إجمالا؛ إظهارا لما بين قولهم وفعلهم من التنافي والتباين إلا قليلا منهم وهم الذين جاوزوا النهر، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشرة عدة أهل بدر، على ما أخرجه البخاري، عن البراء _ رضي الله تعالى عنه _ والقلة إضافية، فلا يرد وصف هذا العدد أحيانا بأنه جم غفير والله عليم بالظالمين ومنهم الذين ظلموا بالتولي عن القتال وترك الجهاد، وتنافت أقوالهم وأفعالهم، والجملة تذييل أريد منها الوعيد على ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية