الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المقام الثاني : في بيان أن تحصيل هذا العلم من الواجبات ، ويدل عليه المعقول والمنقول :

                                                                                                                                                                                                                                            أما المعقول : فهو أنه ليس تقليد البعض أولى من تقليد الباقي ، فإما أن يجوز تقليد الكل فيلزمنا تقليد الكفار ، وإما أن يوجب تقليد البعض دون البعض فيلزم أن يصير الرجل مكلفا بتقليد البعض دون البعض من غير أن يكون له سبيل إلى أنه لم قلد أحدهما دون الآخر ، وإما أن لا يجوز التقليد أصلا ، وهو المطلوب ، فإذا بطل التقليد لم يبق إلا هذه الطريقة النظرية .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما المنقول فيدل عليه الآيات والأخبار ، أما الآيات :

                                                                                                                                                                                                                                            فأحدها : قوله : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) [ النحل : 125 ] ، ولا شك أن المراد بقوله : بالحكمة ؛ أي بالبرهان والحجة ، فكانت الدعوة بالحجة والبرهان إلى الله تعالى مأمورا بها . وقوله : ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) ليس المراد منه المجادلة في فروع الشرع ؛ لأن من أنكر نبوته فلا فائدة في الخوض معه في تفاريع الشرع ، ومن أثبت نبوته فإنه لا يخالفه ، فعلمنا أن هذا الجدال كان في التوحيد والنبوة ، فكان الجدال فيه مأمورا به ثم إنا مأمورون باتباعه - عليه السلام - لقوله : ( فاتبعوني يحببكم الله ) [ آل عمران : 31 ] ، ولقوله : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) [ الأحزاب : 21 ] ، فوجب كوننا مأمورين بذلك الجدال .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قوله تعالى : ( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ) [ الحج : 3 ، 8 ، لقمان : 20 ] ، ذم من يجادل في الله بغير علم ، وذلك يقتضي أن المجادل بالعلم لا يكون مذموما بل يكون ممدوحا ، وأيضا حكى الله تعالى ذلك عن نوح في قوله : ( قالوا يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ) [ هود : 32 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن الله تعالى أمر بالنظر فقال : ( أفلا يتدبرون القرآن ) [ النساء : 82 ] ، ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ) [ الغاشية : 17 ] ، ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) [ فصلت : 53 ] ، ( أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) [ الرعد : 41 ] ، ( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ) [ يونس : 10 ] ، ( أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ) . [ الأعراف : 185 ]

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن الله تعالى ذكر التفكر في معرض المدح فقال : ( إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ) [ الزمر : 21 ] ، ( إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) [ آل عمران : 13 ] ، ( إن في ذلك لآيات لأولي النهى ) [ ص: 84 ] [ طه : 54 ، 128 ] ، وأيضا ذم المعرضين فقال : ( وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ) [ يوسف : 105 ] ، ( لهم قلوب لا يفقهون بها ) [ الأعراف : 179 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : أنه تعالى ذم التقليد ، فقال حكاية عن الكفار : ( وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير ) [ الزخرف : 23 ] ، وقال : ( بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ) [ لقمان : 21 ] ، وقال : ( بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ) [ الشعراء : 74 ] ، وقال : ( إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها ) [ الفرقان : 42 ] ، وقال عن والد إبراهيم - عليه السلام - : ( لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا ) وكل ذلك يدل على وجوب النظر والاستدلال والتفكر وذم التقليد ، فمن دعا إلى النظر والاستدلال كان على وفق القرآن ودين الأنبياء ، ومن دعا إلى التقليد كان على خلاف القرآن وعلى وفاق دين الكفار .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الأخبار ففيها كثرة ، ولنذكر منها وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : ما روى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : " جاء رجل من بني فزارة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن امرأتي وضعت غلاما أسود ، فقال له : هل لك من إبل ؟ فقال : نعم ، قال : فما ألوانها ؟ قال : حمر ، قال : فهل فيها من أورق ؟ قال : نعم . قال : فأنى ذلك ؟ قال : عسى أن يكون قد نزعه عرق ، قال : وهذا عسى أن يكون نزعه عرق " . واعلم أن هذا هو التمسك بالإلزام والقياس .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : عن أبي هريرة قال : قال - عليه الصلاة والسلام - : " قال الله تعالى : كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني ، وشتمني ابن آدم ولم يكن له أن يشتمني . أما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول خلقه بأهون علي من إعادته ، وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدا وأنا الله الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد " فانظر كيف احتج الله تعالى في المقام الأول بالقدرة على الابتداء على القدرة على الإعادة ، وفي المقام الثاني احتج بالأحدية على نفي الجسمية والوالدية والمولودية .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : روى عبادة بن الصامت أنه - عليه السلام - قال : " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه " فقالت عائشة : يا رسول الله إنا نكره الموت فذاك كراهتنا لقاء الله ؟ فقال - عليه السلام - : " لا ؛ ولكن المؤمن أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه ، والكافر كره لقاء الله فكره الله لقاءه " وكل ذلك يدل على أن النظر والفكر في الدلائل مأمور به .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية