الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المقام الثالث : وهو أن بتقدير كون النظر مفيدا للعلم ومقدورا للمكلف ، لكنه يقبح من الله أن يأمر المكلف به ، وبيانه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن النظر في أكثر الأمر يفضي بصاحبه إلى الجهل ، فالمقدم عليه مقدم على أمر يفضي به غالبا إلى الجهل . وما يكون كذلك يكون قبيحا ، فوجب أن يكون الفكر [ ص: 87 ] قبيحا ، والله تعالى لا يأمر بالقبيح .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن الواحد منا مع ما هو عليه من النقص وضعف الخاطر وما يعتريه من الشبهات الكثيرة المتعارضة ، لا يجوز أن يعتمد على عقله في التمييز بين الحق والباطل . فلما رأينا أرباب المذاهب كل واحد منهم يدعي أن الحق معه ، وأن الباطل مع خصمه ، ثم إذا تركوا التعصب واللجاج وأنصفوا وجدوا الكلمات متعارضة ، وذلك يدل على عجز العقل عن إدراك هذه الحقائق .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن مدار الدين لو كان على النظر في حقائق الدلائل لوجب أن لا يستقر الإنسان على الإيمان ساعة واحدة ؛ لأن صاحب النظر إذا خطر بباله سؤال على مقدمة من مقدمات دليل الدين ، فقد صار بسبب ذلك السؤال شاكا في تلك المقدمة ، وإذا صار بعض مقدمات الدليل مشكوكا فيه صارت النتيجة ظنية ؛ لأن المظنون لا يفيد اليقين ، فيلزم أن يخرج الإنسان في كل ساعة عن الدين بسبب كل ما يخطر بباله من الأسئلة والمباحث . ورابعها : أنه اشتهر في الألسنة أن من طلب المال بالكيمياء أفلس ، ومن طلب الدين بالكلام تزندق ، وذلك يدل على أنه لا يجوز فتح الباب فيه .

                                                                                                                                                                                                                                            المقام الرابع : أن بتقدير أنه في نفسه غير قبيح ، ولكنا نقيم الدلالة على أن الله ورسوله ما أمرا بذلك ، والذي يدل عليه أن هذه المطالب لا تخلو ، إما أن يكون العلم بدلائلها علما ضروريا غنيا عن التعلم والاستفادة ، وإما أن لا يكون كذلك ، بل يحتاج في تحصيلها إلى التأمل والتدبر والاستفادة ، والأول باطل ، وإلا لوجب أن يحصل ذلك لكل الناس وهو مكابرة ، ولأنا نجرب أذكى الناس في هذا العلم فلا يمكنه تحصيله في السنين المتطاولة بعد الاستعانة بالأستاذ والتصانيف . وإن كان الثاني وجب أن لا يحصل ذلك العلم للإنسان إلا بعد الممارسة الشديدة والمباحثة الكثيرة ، فلو كان الدين مبنيا عليه لوجب أن لا يحكم الرسول بصحة إسلام الرجل إلا بعد أن يسأله عن هذه المسائل ويجربه في معرفة هذه الدلائل على الاستقصاء . ولو فعل الرسول ذلك لاشتهر ، ولما لم يشتهر - بل المشهور المنقول عنه بالتواتر أنه كان يحكم بإسلام من يعلم بالضرورة أنه لم يخطر بباله شيء من ذلك - علمنا أن ذلك غير معتبر في صحة الدين .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : معرفة أصول الدلائل حاصلة لأكثر العقلاء ، إنما المحتاج إلى التدقيق دفع الأسئلة والجواب عن الشبهات ، وذلك غير معتبر في صحة أصل الدين ، قلنا : هذا ضعيف ؛ لأن الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان البتة ، وذلك لأن الدليل إذا كان مبنيا على مقدمات عشرة ، فإن كان الرجل جازما بصحة تلك المقدمات كان عارفا بالدليل معرفة لا يمكن الزيادة عليها ؛ لأن الزيادة على تلك العشرة إن كان معتبرا في تحقق ذلك الدليل بطل قولنا : إن ذلك الدليل مركب من العشرة فقط ، وإن لم يكن معتبرا لم يكن العلم به علما بزيادة شيء في الدليل ، بل يكون علما منفصلا . فثبت بهذا أن الدليل لا يقبل الزيادة ولا يقبل النقصان أيضا ؛ لأن تسعة منها لو كانت يقينية وكانت المقدمة العاشرة ظنية استحال كون المطلوب يقينيا لأن المبني على الظني أولى أن يكون ظنيا ، فثبت بهذا أن الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان وبطل ببطلانه ذلك السؤال .

                                                                                                                                                                                                                                            مثاله : إذا رأى الإنسان حدوث مطر ورعد وبرق بعد أن كان الهواء صافيا قال : سبحان الله ، فمن الناس من قال : إن قوله : سبحان الله ، يدل على أنه عرف الله بدليله ، وهذا باطل لأنه إنما يكون عارفا بالله إذا عرف بالدليل أن ذلك الحادث لا بد له من مؤثر ثم يعرف بالدليل أنه يستحيل أن يكون المؤثر فيه سوى الله تعالى . وهذه المقدمة الثانية إنما تستقيم لو عرف بالدليل أنه يستحيل إسناد هذا الحدوث إلى الفلك والنجوم ، والطبيعة والعلة الموجبة . فإنه لو لم يعرف بطلان ذلك بالدليل لكان معتقدا [ ص: 88 ] لهذه المقدمة الثانية من غير دليل فتكون المقدمة تقليدية ويكون المبني عليها تقليدا لا يقينا ، فثبت بهذا فساد ما قلتموه .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية