الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                [ ص: 3 ] فصل ) :

                                                                                                                                وأما بيان من يصلح للقضاء فنقول : الصلاحية للقضاء لها شرائط ( منها ) : العقل ، ( ومنها ) البلوغ ، ( ومنها ) : الإسلام ، ( ومنها ) : الحرية ، ( ومنها ) : البصر ( ومنها ) : النطق ، ( ومنها ) : السلامة عن حد القذف ; لما قلنا في الشهادة ، فلا يجوز تقليد المجنون والصبي ، والكافر والعبد ، والأعمى والأخرس ، والمحدود في القذف ; لأن القضاء من باب الولاية ، بل هو أعظم الولايات ، وهؤلاء ليست لهم أهلية أدنى الولايات - وهي الشهادة - فلأن لا يكون لهم أهلية أعلاها أولى ، وأما الذكورة فليست من شرط جواز التقليد في الجملة ; لأن المرأة من أهل الشهادات في الجملة ، إلا أنها لا تقضي بالحدود والقصاص ; لأنه لا شهادة لها في ذلك ، وأهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة .

                                                                                                                                ( وأما ) العلم بالحلال والحرام وسائر الأحكام : فهل هو شرط جواز التقليد ؟ عندنا ليس بشرط الجواز ، بل شرط الندب والاستحباب ، وعند أصحاب الحديث كونه عالما بالحلال والحرام ; وسائر الأحكام ; مع بلوغ درجة الاجتهاد في ذلك شرط جواز التقليد ، كما قالوا في الإمام الأعظم .

                                                                                                                                وعندنا هذا ليس بشرط الجواز في الإمام الأعظم ; لأنه يمكنه أن يقضي بعلم غيره ، بالرجوع إلى فتوى غيره من العلماء ، فكذا في القاضي ، لكن مع هذا لا ينبغي أن يقلد الجاهل بالأحكام ; لأن الجاهل بنفسه ما يفسد أكثر مما يصلح ، بل يقضي بالباطل من حيث لا يشعر به ، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { : القضاة ثلاثة : قاض في الجنة ، وقاضيان في النار ، رجل علم علما فقضى بما علم ; فهو في الجنة ، ورجل علم فقضى بغير ما علم ; فهو في النار ، ورجل جهل فقضى بالجهل ; فهو في النار ، } إلا أنه لو قلد جاز عندنا ; لأنه يقدر على القضاء بالحق ، بعلم غيره بالاستفتاء من الفقهاء ، فكان تقليده جائزا في نفسه ، فاسدا لمعنى في غيره ، والفاسد لمعنى في غيره يصلح للحكم عندنا ، مثل الجائز حتى ينفذ قضاياه التي لم يجاوز فيها حد الشرع ، وهو كالبيع الفاسد ، أنه مثل الجائز عندنا في حق الحكم ، كذا هذا ، وكذا العدالة عندنا ، ليست بشرط لجواز التقليد ، لكنها شرط الكمال ، فيجوز تقليد الفاسق وتنفذ قضاياه ; إذا لم يجاوز فيها حد الشرع .

                                                                                                                                وعند الشافعي - رحمه الله - شرط الجواز ، فلا يصلح الفاسق قاضيا عنده ، بناء على أن الفاسق ليس من أهل الشهادة عنده ، فلا يكون من أهل القضاء ، وعندنا هو من أهل الشهادة ، فيكون من أهل القضاء ، لكن لا ينبغي أن يقلد الفاسق ; لأن القضاء أمانة عظيمة ، وهي أمانة الأموال ، والأبضاع والنفوس ، فلا يقوم بوفائها إلا من كمل ورعه ، وتم تقواه ، إلا أنه مع هذا لو قلد ; جاز التقليد في نفسه وصار قاضيا ; لأن الفساد لمعنى في غيره ، فلا يمنع جواز تقليده القضاء في نفسه ; لما مر .

                                                                                                                                ( وأما ) ترك الطلب : فليس بشرط ; لجواز التقليد بالإجماع ، فيجوز تقليد الطالب بلا خلاف ; لأنه يقدر على القضاء بالحق ، لكن لا ينبغي أن يقلد ; لأن الطالب يكون متهما .

                                                                                                                                وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : { إنا لا نولي أمرنا هذا من كان له طالبا } وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : { من سأل القضاء وكل إلى نفسه ، ومن أجبر عليه نزل عليه ملك يسدده ، } وهذا إشارة إلى أن الطالب ، لا يوفق لإصابة الحق ، والمجبر عليه يوفق .

                                                                                                                                وأما شرائط الفضيلة والكمال : فهو أن يكون القاضي عالما بالحلال والحرام وسائر الأحكام ، قد بلغ في علمه ذلك حد الاجتهاد ، عالما بمعاشرة الناس ومعاملتهم ، عدلا ورعا ، عفيفا عن التهمة ، صائن النفس عن الطمع ; لأن القضاء : هو الحكم بين الناس بالحق ، فإذا كان المقلد بهذه الصفات ، فالظاهر أنه لا يقضي إلا بالحق ، ثم ما ذكرنا أنه شرط جواز التقليد ، فهو شرط جواز التحكيم ; لأن التحكيم مشروع ، قال الله تعالى - عز شأنه - : { فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها } فكان الحكم من الحكمين بمنزلة حكم القاضي المقلد ، إلا أنهما يفترقان في أشياء مخصوصة .

                                                                                                                                ( منها ) : أن الحكم في الحدود والقصاص لا يصح .

                                                                                                                                ( ومنها ) : أنه ليس بلازم ما لم يتصل به الحكم ، حتى لو رجع أحد المتحاكمين قبل الحكم ; يصح رجوعه ، وإذا حكم صار لازما .

                                                                                                                                ( ومنها ) : أنه إذا حكم في فصل مجتهد فيه ، ثم رفع حكمه إلى القاضي ، ورأيه يخالف رأي الحاكم المحكم ، له أن يفسخ حكمه ، والفرق بين هذه الجملة يعرف في موضعه ، إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية