الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3234 [ 1806 ] وعن عائشة قالت: جاءت هند إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، والله! وما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يذلهم الله من أهل خبائك، وما على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي من أن يعزهم الله من أهل خبائك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأيضا، والذي نفسي بيده. ثم قالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل ممسك - وفي أخرى: مسيك - فهل علي حرج أن أنفق على عياله من ماله بغير إذنه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا حرج عليك أن تنفقي عليهم بالمعروف.

                                                                                              وفي رواية: فقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، ولا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك.

                                                                                              رواه أحمد (6 \ 39) والبخاري (2211) ومسلم (1714) (7 و 8) وأبو داود (3532) والنسائي (5 \ 246) وابن ماجه (2293).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و(قول هند : يا رسول الله! والله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء ) أي: أهل بيت، كما قد جاء مفسرا في بعض طرقه، وسمي البيت خباء; لأنه يخبأ ما فيه. والخباء في الأصل: مصدر. تقول: خبأت الشيء خبئا، وخباء.

                                                                                              ووصف هند في هذا الحديث حالها في الكفر، وما كانت عليه من بغض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبغض أهل بيته، وما آلت إليه حالها لما أسلمت - تذكر لنعمة الله عليها بما أنقذها الله منه، وبما أوصلها إليه، وتعظيم لحرمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولتنبسط فيما تريد أن تسأل عنه، ولتزول آلام القلوب لما كان منها يوم أحد في شأن حمزة وغير ذلك.

                                                                                              و(قولها: إن أبا سفيان رجل ممسك ) وفي أخرى: (مسيك) وكلاهما بمعنى: شحيح، كما جاء في الرواية الأخرى، ولم ترد: أنه شحيح مطلقا، فتذمه [ ص: 160 ] بذلك، وإنما وصفت حاله معها، فإنه كان يقتر عليها، وعلى أولادها، كما قالت: ( لا يعطيني وبني ما يكفيني ) وهذا لا يدل على البخل مطلقا، فقد يفعل الإنسان مع أهل بيته؛ لأنه يرى غيرهم أحوج وأولى؛ ليعطي غيرهم، فعلى هذا فلا يجوز أن يستدل بهذا الحديث على أن أبا سفيان كان بخيلا، فإنه لم يكن معروفا بهذا.

                                                                                              و( مسيك ) يروى بفتح الميم، وكسر السين، وتخفيفها. وبكسر الميم وتشديد السين مكسورة، وكلاهما للمبالغة، الأول: كعليم وكبير، والثاني: كسكير، وخمير.

                                                                                              و(قوله - صلى الله عليه وسلم - لهند : وأيضا; والذي نفسي بيده ) أي: سيتمكن الإيمان من قلبك، ويزيد حبك لله ولرسوله، ويقوى رجوعك عن بغضه. وأصل ( أيضا ): أنه مصدر: آض إلى كذا، يئيض، أيضا، أي: رجع رجوعا.

                                                                                              و(قوله: خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك، ويكفي بنيك ) هذا الأمر على جهة الإباحة; بدليل قوله في الرواية الأخرى: ( لا جناح عليك أن تنفقي [ ص: 161 ] عليهم بالمعروف ) ويعني بالمعروف: القدر الذي عرف بالعادة أنه كفاية، وهذه الإباحة وإن كانت مطلقة لفظا فهي مقيدة معنى، فكأنه قال: إن صح أو ثبت ما ذكرت فخذي.

                                                                                              وفي هذا الحديث أبواب من الفقه:

                                                                                              فمنها: وجوب نفقة الزوجة والأولاد على أبيهم، وإن لأمهم طلب ذلك عند الحاكم، وسماع الدعوى على الغائب، والحكم عليه، وإن كان قريب الغيبة; إذا دعت حاجة الوقت إلى ذلك، وهو قول الجمهور، وقال الكوفيون: لا يقضى عليه بشيء.

                                                                                              وفيه دليل: على أن النفقة ليست مقدرة بمقدار مخصوص; وإنما ذلك بحسب الكفاية المعتادة، خلافا لمن ذهب: إلى أنها مقدرة.

                                                                                              وفيه دليل: على اعتبار العرف في الأحكام الشرعية خلافا للشافعية وغيرهم من المنكرين له لفظا، الآخذين به عملا.

                                                                                              وقد استنبط البخاري منه: جواز حكم الحاكم بعلمه فيما اشتهر وعرف، فقال: باب حكم الحاكم بعلمه إذا لم يخف الظنون والتهم، وكان أمرا مشهورا وقد تقدم.

                                                                                              وفيه دليل: على أن من تعذر عليه أخذ حقه من غريمه، ووصل من مال الغريم إلى شيء; كان له أخذه بأي وجه توصل إليه، واختلف فيما إذا ائتمنه الغريم على مال، فهل يأخذ منه حقه أم لا؟ على قولين، حكاهما الداودي عن مالك ، ومشهور مذهبه المنع، وبه قال أبو حنيفة تمسكا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) وإلى الإجازة ذهب الشافعي ، وابن المنذر ، [ ص: 162 ] بناء على أن ذلك ليس بخيانة، وإنما هو وصول إلى حق.

                                                                                              وفيه دليل: على أن المرأة لا يجوز لها أن تأخذ من مال زوجها شيئا بغير إذنه، قل ذلك أو كثر، وهذا لا يختلف فيه. ألا ترى: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لهند في الرواية الأخرى - لما قالت له: فهل علي جناح أن أطعم من الذي له عيالنا؟- قال: (لا)، ثم استثنى فقال: ( إلا بالمعروف ) فمنعها من أن تأخذ من ماله شيئا إلا القدر الذي يجب لها.




                                                                                              الخدمات العلمية