الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      نزل عليك الكتاب أي القرآن الجامع للأصول والفروع ولما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وفي التعبير عنه باسم الجنس إيذان بتفوقه على بقية الأفراد في الانطواء على كمالات [ ص: 76 ] الجنس كأنه هو الحقيق بأن يطلق عليه اسم الكتاب دون ما عداه كما يلوح إليه التصريح باسم التوراة والإنجيل، وفي الإتيان بالظرف وتقديمه على المفعول الصريح واختيار ضمير الخطاب وإيثار (على) إلى ما لا يخفى من تعظيمه صلى الله عليه وسلم والتنويه برفعة شأنه عليه الصلاة والسلام; والجملة إما مستأنفة أو خبر آخر للاسم الجليل أو هي الخبر، وما قبل كله اعتراض أو حال، و الحي القيوم صفة أو بدل، وقرأ الأعمش نزل بالتخفيف ورفع الكتاب، والجملة حينئذ منقطعة عما قبلها، وقيل: متعلقة به بتقدير (من عنده)، بالحق أي بالصدق في أخباره أو بالعدل كما نص عليه الراغب أو بما يحقق أنه من عند الله تعالى من الحجج القطعية وهو في موضع الحال أي متلبسا بالحق أو محقا، وفي «البحر» يحتمل أن تكون الباء للسببية أي بسبب إثبات الحق مصدقا حال من الكتاب إثر حال أو بدل من موضع الحال الأول، أو حال من الضمير في المجرور وعلى كل حال فهي حال مؤكدة لما بين يديه أي الكتب السالفة والظرف مفعول (مصدقا) واللام لتقوية العمل، وكيفية تصديقه لما تقدم تقدمت.

                                                                                                                                                                                                                                      وأنزل التوراة والإنجيل [ 3 ] ذكرهما تعيينا (لما بين يديه) وتبيينا لرفعة محله بذلك تأكيد لما قبل وتمهيد لما بعد ولم يذكر المنزل عليه فيهما لأن الكلام في الكتابين لا فيمن نزلا عليه، والتعبير ب (أنزل) فيهما للإشارة إلى أنه لم يكن لهما إلا نزول واحد وهذا بخلاف القرآن فإن له نزولين، نزولا من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من سماء الدنيا جملة واحدة، ونزولا من ذلك إليه صلى الله عليه وسلم منجما في ثلاث وعشرين سنة على المشهور، ولهذا يقال فيه: نزل وأنزل، وهذا أولى مما قيل: إن نزل يقتضي التدريج وأنزل يقتضي الإنزال الدفعي إذ يشكل عليه لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة حيث قرن نزل بكونه جملة، وقوله تعالى: وقد نزل عليكم في الكتاب وذكر بعض المحققين لهذا المقام أن التدريج ليس هو التكثير بل الفعل شيئا فشيئا كما في تسلسل، والألفاظ لا بد فيها من ذلك، فصيغة (نزل) تدل عليه، والإنزال مطلق لكنه إذا قامت القرينة يراد بالتدريج التنجيم، وبالإنزال الذي قد قوبل به خلافه، أو المطلق بحسب ما يقتضيه المقام.

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف في اشتقاق «التوراة» و «الإنجيل» فقيل: اشتقاق الأول من ورى الزناد إذا قدح فظهر منه النار لأنها ضياء ونور بالنسبة لما عدا القرآن تجلو ظلمة الضلال، وقيل من ورى في كلام إذا عرض لأن فيها رموزا كثيرة وتلويحات جليلة، ووزنها عند الخليل وسيبويه فوعلة كصومعة، وأصله (وورية) بواوين فأبدلت الأولى تاء وتحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا فصارت توراة وكتبت بالياء تنبيها على الأصل ولذلك أميلت، وقال الفراء: وزنها تفعلة بكسر العين فأبدلت الكسرة فتحة وقلبت الياء ألفا وفعل ذلك تخفيفا كما قالوا في توصية توصاة، واعترضه البصريون بأن هذا البناء قليل وبأنه يلزم منه زيادة التاء أولا وهي لا تزاد كذلك إلا في مواضع ليس هذا منها، وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنها تفعلة بفتح العين فقلبت الياء ألفا، وقيل: اشتقاق الثاني من النجل بفتح فسكون وهو الماء الذي ينز من الأرض، ومنه النجيل لما ينبت فيه، ويطلق على الوالد والولد وهو أعرف فهو ضد كما قاله الزجاج وهو من نجل بمعنى ظهر سمي به لأنه مستخرج من اللوح المحفوظ وظاهر منه أو من التوراة، وقيل: من النجل وهو التوسعة، ومنه عين نجلاء لسعتها لأن فيه توسعة ما لم تكن في التوراة إذ حلل فيه بعض ما حرم فيها، وقيل: مشتق من التناجل وهو التنازع يقال تناجل الناس إذا تنازعوا وسمي [ ص: 77 ] به لكثرة التنازع فيه كذا قيل ولا يخفى أن أمر الاشتقاق والوزن على تقدير عربية اللفظين ظاهر، وأما على تقدير أنهما أعجميان أولهما عبراني والآخر سرياني وهو الظاهر فلا معنى له على الحقيقة لأن الاشتقاق من ألفاظ أخر أعجمية مما لا مجال لإثباته، ومن ألفاظ عربية كما سمعت استنتاج للضب من الحوت فلم يبق إلا أنه بعد التعريب أجروه مجرى أبنيتهم في الزيادة والأصالة وفرضوا له أصلا ليتعرف ذلك كما أشرنا إليه فيما قبل، والاستدلال على عربيتهما بدخول اللام لأن دخولها في الأعلام العجمية محل نظر لأنهم ألزموا بعض الأعلام الأعجمية الألف واللام علامة للتعريف كما في الإسكندرية فإنأبا زكريا التبريزي قال: إنه لا يستعمل بدونها مع الاتفاق على أعجميته، ومما يؤيد أعجمية «الإنجيل» ما روي عن الحسن أنه قرأه بفتح الهمزة، وإفعيل ليس من أبنية العرب.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية