الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانوا يوجهون لكل من أفعالهم هذه وجها صالحا، بين فساد قصدهم بقوله ذاما غاية الذم بالتعبير الشح الذي هو التناهي في البخل، فهو بخل بما في اليد وأمر للغيب بالبخل فهو بخل إلى بخل خبيث قذر متمادى فيه مسارع إليه أشحة أي يفعلون ما تقدم والحال أن كلا منهم شحيح عليكم أي بحصول نفع منهم أو من غيرهم بنفس أو مال.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان التقدير: في حال الأمن، أتبعه بيان حالهم في الخوف فقال: فإذا جاء الخوف أي لمجيء أسبابه من الحرب ومقدماتها رأيتهم أي أيها المخاطب ينظرون وبين بعدهم حسا ومعنى بحرف الغاية فقال: إليك أي حال كونهم تدور يمينا وشمالا [ ص: 315 ] بإدارة الطرف أعينهم أي زائغة رعبا وخورا، تم شبهها في سرعة تقلبها لغير قصد صحيح فقال: كالذي أي كدوران عين الذي، وبين شدة العناية بتصوير ذلك بجعل المفعول عمدة ببناء الفعل له فقال: يغشى عليه مبتدئا غشيانه من الموت سنة الله في أن كل من عامل الناس بالخداع، كان قليل الثبات عند القراع; ثم ذكر خاصة أخرى لبيان جبنهم فقال: فإذا ذهب الخوف أي بذهاب أسبابه سلقوكم أي تناولوكم تناولا صعبا جرأة ووقاحة، ناسين ما وقع منهم عن قرب من الجبن والخور بألسنة حداد ذربة قاطعة فصيحة بعد أن كانت عند الخوف في غاية اللجلجة لا تقدر على الحركة من قلة الريق ويبس الشفاه، وهذا [لطلب] العرض الفاني من الغنيمة أو غيرها; ثم بين المراد بقوله: أشحة أي شحا مستعليا على الخير أي المال الذي عندهم، وفي اعتقادهم أنه لا خير غيره، شحا لا يريدون أن يصل شيء منه إليكم ولا يفوتهم شيء منه، وهذه [سنة] أخرى في أن من كان صلبا في الرخاء كان رخوا حال الشدة وعند اللقاء، وإنما فسرت الشح بهذا لأن مادته بترتيبها تدور على الجمع الذي انتهى [ ص: 316 ] فأشرف على الفساد، من الحشيش والمحشة، وهي الدبر، فهو جمع يتبعه في الأغلب نكد وأذى، ومن لوازم مطلق الجمع القوة فتتبعها الصلابة، فربما نشأت القساوة، وربما نشأت عن الجمع الفرقة فلزمها الرخاوة، فمن الجمع النكد الشح وهو البخل والحرص، وشح النفس حرصها على ما ملكت، قال القزاز: وجمع الشحيح في أقل العدد أشحة، ولم أسمع غيره، وحكى أبو يوسف: أشحاء - بالمد في الكثير، والرجلان يتشاحان عن الأمر - إذا كان كل منهما يريد أن لا يفوته، وزند شحاح: لا يورى، وماء شحاح: نكد غير غمر - لأنه اشتد اجتماعه في مكانه، واشتدت أرضه باجتماع أجزائها فصلبت جدا فضنت به.

                                                                                                                                                                                                                                      وأرض شحاح: صلبة، قال القزاز: وبه شبه الزند، والشحشاح: الحاد والسيئ الخلق والماضي في كلام أو سير، والمواظب على الشيء، لأن ذلك من لوازم الحدة الناشئة عن القوة الناشئة عن الجمع، ومن هنا قيل للخطيب البليغ والشجاع والغيور: شحشح وشحشاح، والشحشح من الغربان: الكثير الصوت، ومن الحمير: الخفيف، ومن القطا: السريعة، والشحشاح: الطويل - كأنه جمع طولين، وشحشح البعير [ ص: 317 ] في الهدير - إذا لم يخلصه، كأنه [جمع] إلى الهدير ما ليس بهدير، والشحشحة: صوت الصرد - لكثرة اتصالها، فهي ترجع إلى الحدة التي ترجع إلى القوة الناشئة عن الجمع، وترديد البعير في الهدير والطيران السريع والحذر، فإنه يدل على اجتماع القلب وثقوب الذهن، وامرأة شحشاح - كأنها رجل في قوتها، والمشحشح - كالمسلسل: القليل الخير، وإبل شحائح: قليلة الدر، وذلك من الجمع والصلابة الناشئة عن القساوة والنكد، والشحيح من الأرض ما يسيل من أدنى مطر، لصلابتها وشدة اجتماع بعضها إلى بعض، والشحشح أيضا من الأرض ما لا يسيل إلا من مطر كثير ضد الأول، وذلك ناظر إلى جمعها للنظر لغوره فيها لما في أجزائها من التفرق الذي تقدم أنه من لوازم الجمع، ومن مطلق الجمع: الفلاة الواسعة - لأنها جامعة لما يراد جمعه، والشحاح: شعاب صغار تدفع الماء إلى الوادي، فهي بمدها جامعة، وبكونها صغارا نكدة ومجتمعة في نفسها، ومن الجمع: الحشيش، وهو اليابس من العشب، وأصله ما جمع منه.

                                                                                                                                                                                                                                      والمحش: الموضع الكثير الحشيش والخير، لأن الجمع ربما نشأ عنه رفق، وكثرة الحشيش يلزمها الرفق بعلفه للدواب، ويكون أرضه طيبة، ومن حش الحشيش: قطعه، [ ص: 318 ] وفلانا: أصلح من حاله، والمال: كثره، وزيدا بعيرا أو ببعير: أعطاه إياه، والحش - بالفتح: المخرج، والمحشة: الدبر، والحش: البستان ذو النخل المجتمع، سمي الخلاء به لأن العرب كانت تقضي الحاجة فيه، وحش طلحة وحش كوكب: موضعان بالمدينة، وحش الولد في البطن: يبس، وأحشت المرأة فهي محش - إذا يبس الولد في جوفها، والحش- بالضم: الولد الهالك في البطن، وحششت الفرس: جمعت له الحشيش، [وأحششت الرجل: أعنته على جمع الحشيش، والحشاش: الجوالق فيه الحشيش]، وأحش الكلأ: أمكن لأن يحش، والمستحشة من النوق التي دقت أوظفتها، أي ما فوق رسغها إلى ساقها، وذلك من من عظمها وكثرة شحمها، واستحش الغصن: طال - كأنه جمع طولين، أو صار بحيث يجمع ورقا كثيرا، الشيء بالشيء، وحش الودي من النخل: يبس، ومن الجمع: حش الصيد: جمعه من جانبيه، والفرس: ألقى له حشيشا، قال القزاز: وهو يبس الكلأ، وأصله ما جمع، ومنه: أحشك وتروثني - يضرب لمن أساء إلى من أحسن إليه، [ ص: 319 ] ومرت الإبل تحش الأرض. أي تجمع الحشيش، وقيل: هو من سرعة مرها، وفيه مع كثرة الجمع للخطى بتقاربها معنى الحدة، ومنه حش الفرس: أسرع، ومن الإشراف على الفساد: الحش - بالفتح وهو النخل الناقص القصير ليس بمسقي ولا معمور، والحشاشة: رمق النفس، يقال: ما بقي من فلان إلا حشاشة أي رمق يسير يحيا به، وعبارة القاموس، والحشاش والحشاشة، بقية الروح في المريض والجريح فهذا بين في الإشراف على الفساد كما تقدم وهو أيضا من الفرقة التي قد تلزم الجمع ومنه تحشحشوا أي تفرقوا، ومنه قلة الاستحشاش، وهو قلة القوم، ومن الحدة الناشئة عن القوة الناشئة: عن الجمع حششت النار أي أوقدتها وجمعت الحطب إليها، وكل ما قوي بشيء فقد حش به، والمحش: حديدة توقد بها النار أي تحرك، والشجاع، قال القزاز، وهو محش حرب - إذا كان يسعرها بشجاعته، وحش فلان الحرب - إذا هيجها، ومنه تحشحشوا أي تحركوا، ومن مطلق الحدة: أحششته عن حاجته: أعجلته عنها، ومن الجمع والقوة: حش سهمه بالقذذ - إذا راشه فألزقها من نواحيه، وحشاشاك أن تفعل كذا أي قصاراك أي نهاية جمعك لكل ما تقوى به، وحشاشا كل شيء: جانباه، والحشة - بالضم: القبة العظيمة، لكثرة [ ص: 320 ] جمعها وقوة تراصها.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما وصفهم سبحانه بهذه الدنايا.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبر بأن أساسها وأصلها الذي نشأت عنه عدم الوثوق بالله لعدم الإيمان فقال: أولئك أي البغضاء البعداء الذين محط أمرهم الدنيا لم يؤمنوا أي لم يوجد منهم إيمان بقلوبهم وإن أقرت به ألسنتهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان العمل لا يصح بدون الإيمان، سبب عن ذلك قوله: فأحبط الله أي بجلاله وتفرده في كبريائه وكماله أعمالهم أي أبطل أرواحها، فصارت أجسادا لا أرواح لها، فلا نفع لهم بشيء منها لأنها كانت في الدنيا صورا مجردة عن الأرواح التي هي القصود الصالحة، فإنهم لا قصد لهم بها إلا التوصل إلى الأعراض الدنيوية، وهذا إعلام بأن من كانت الدنيا أكبر همه فهو غير مؤمن، وأنه يكون خوارا عند الهزاهز، ميالا إلى دنايا الشجايا والغرائز.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان من عمل عملا لم يقدر غيره وإن كان أعظم منه أن يبطل نفعه به إلا بسعر شديد، قال تعالى: وكان ذلك أي الإحباط العظيم مع ما لهم من الجرأة في الطلب والإلحاف [عند السؤال] وقلة الأدب على الله بما له من صفات العظمة التي تخشع لها الأصوات، وتخرس الألسن الذربات يسيرا لأنه لا نفع [إلا منه] [ ص: 321 ] وهو الواحد القهار، وأما غيره فإنما عسر عليه ذلك، لأن النفع من غيره - وإن كان منه حقيقة - قهره غيره بالشفاعات ووجود النكد أو غيرها عليه، وكأنهم لما ذهب استمروا خاضعين لم يطلقوا ألسنتهم ولا أعلوا كلمتهم، فأخبر تعالى تحقيقا لقوله الماضي في جبنهم أن المانع الذي ذكره لم يزل من عندهم لفرط جبنهم، فقال تحقيقا لذلك وجوابا لمن ربما قال: قد ذهب الخوف فما لهم ما سلقوا؟ :

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية