الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 265 ] فصل القسم الثاني من الأمانات : الأموال كما قال تعالى في الديون : { فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه } .

                ويدخل في هذا القسم : الأعيان والديون الخاصة والعامة : مثل رد الودائع ومال الشريك والموكل والمضارب ومال المولى من اليتيم وأهل الوقف ونحو ذلك وكذلك وفاء الديون من أثمان المبيعات وبدل القرض وصدقات النساء وأجور المنافع ونحو ذلك . وقد قال الله تعالى : { إن الإنسان خلق هلوعا } { إذا مسه الشر جزوعا } { وإذا مسه الخير منوعا } { إلا المصلين } { الذين هم على صلاتهم دائمون } { والذين في أموالهم حق معلوم } { للسائل والمحروم } إلى قوله : { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } وقال تعالى : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما } أي لا تخاصم عنهم . وقال النبي صلى الله عليه وسلم { أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك } وقال النبي صلى الله عليه وسلم { المؤمن من أمنه المسلمون على دمائهم وأمولهم والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما [ ص: 266 ] نهى الله عنه والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله } . وهو حديث صحيح بعضه في الصحيحين وبعضه في سنن الترمذي وقال صلى الله عليه وسلم { من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله } رواه البخاري .

                وإذا كان الله قد أوجب أداء الأمانات التي قبضت بحق ; ففيه تنبيه على وجوب أداء الغصب والسرقة والخيانة ونحو ذلك من المظالم كذلك أداء العارية . وقد { خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وقال في خطبته : العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم ; إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث } .

                وهذا القسم يتناول الولاة والرعية فعلى كل منهما : أن يؤدي إلى الآخر ما يجب أداؤه إليه فعلى ذي السلطان ونوابه في العطاء أن يؤتوا كل ذي حق حقه . وعلى جباة الأموال كأهل الديوان أن يؤدوا إلى ذي السلطان ما يجب إيتاؤه إليه ; كذلك على الرعية الذين تجب عليهم الحقوق ; وليس للرعية أن يطلبوا من ولاة الأموال ما لا يستحقونه فيكونون من جنس من قال الله تعالى فيه : { ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } ثم بين سبحانه لمن تكون [ ص: 267 ] بقوله : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم } .

                ولا لهم أن يمنعوا السلطان ما يجب دفعه إليه من الحقوق وإن كان ظالما ; كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر جور الولاة فقال : { أدوا إليهم الذي لهم ; فإن الله سائلهم عما استرعاهم } . ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وأنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء ويكثرون . قالوا : فما تأمرنا ؟ فقال : أوفوا ببيعة الأول فالأول ; ثم أعطوهم حقهم ; فإن الله سائلهم عما استرعاهم } .

                وفيهما عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها قالوا : فما تأمرنا به يا رسول الله ؟ قال : أدوا إليهم حقهم ; واسألوا الله حقكم } .

                وليس لولاة الأمور أن يقسموها بحسب أهوائهم كما يقسم المالك ملكه ; فإنما هم أمناء ونواب ووكلاء ليسوا ملاكا ; كما قال رسول الله [ ص: 268 ] صلى الله عليه وسلم { إني - والله - لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا ; وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت } . رواه البخاري وعن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه . فهذا رسول رب العالمين قد أخبر أنه ليس المنع والعطاء بإرادته واختياره كما يفعل ذلك المالك الذي أبيح له التصرف في ماله وكما يفعل ذلك الملوك الذين يعطون من أحبوا ويمنعون من أبغضوا وإنما هو عبد الله يقسم المال بأمره فيضعه حيث أمره الله تعالى .

                وهكذا قال رجل لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين - لو وسعت على نفسك في النفقة من مال الله تعالى . فقال له عمر : أتدري ما مثلي ومثل هؤلاء ؟ كمثل قوم كانوا في سفر فجمعوا منهم مالا وسلموه إلى واحد ينفقه عليهم فهل يحل لذلك الرجل أن يستأثر عنهم من أموالهم ؟ . وحمل مرة إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مال عظيم من الخمس ; فقال : إن قوما أدوا الأمانة في هذا لأمناء . فقال له بعض الحاضرين : إنك أديت الأمانة إلى الله تعالى فأدوا إليك الأمانة ولو رتعت لرتعوا .

                وينبغي أن يعرف أن أولي الأمر كالسوق ما نفق فيه جلب إليه ; هكذا قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه . فإن نفق فيه الصدق والبر والعدل والأمانة جلب إليه ذلك ; وإن نفق فيه الكذب والفجور [ ص: 269 ] والجور والخيانة جلب إليه ذلك . والذي على ولي الأمر أن يأخذ المال من حله ويضعه في حقه ولا يمنعه من مستحقه ; وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا بلغه أن بعض نوابه ظلم يقول : اللهم إني لم آمرهم أن يظلموا خلقك ولا يتركوا حقك .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية