الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        129 - الحديث الثاني : عن وراد مولى المغيرة بن شعبة قال { : أملى علي المغيرة بن شعبة من كتاب إلى معاوية : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير . اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ثم وفدت بعد ذلك على معاوية فسمعته يأمر الناس بذلك . وفي لفظ كان ينهى عن قيل وقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السؤال وكان ينهى عن عقوق الأمهات ، ووأد البنات ، ومنع وهات } .

                                        التالي السابق


                                        فيه دليل على استحباب هذا الذكر المخصوص عقيب الصلاة ، وذلك لما اشتمل عليه من معاني التوحيد ، ونسبة الأفعال إلى الله تعالى ، والمنع والإعطاء ، وتمام القدرة . والثواب المرتب على الأذكار : يرد كثيرا مع خفة الأذكار على اللسان وقلتها وإنما كان ذلك باعتبار مدلولاتها ، وأن كلها راجعة إلى الإيمان الذي هو أشرف الأشياء ، " والجد " الحظ . ومعنى " لا ينفع ذا الجد منك الجد " لا ينفع ذا الحظ حظه . وإنما ينفعه العمل الصالح . و " الجد " ههنا - وإن كان مطلقا - فهو محمول على حظ الدنيا . وقوله " منك " متعلق بينفع وينبغي أن يكون " ينفع " متضمنا معنى [ ص: 324 ] يمنع " أو ما يقاربه ولا يعود " منك " إلى الجد على الوجه الذي يقال فيه : حظي منك قليل أو كثير ، بمعنى عنايتك بي ، أو رعايتك لي . فإن ذلك نافع . وفي أمر معاوية بذلك . المبادرة إلى امتثال السنن وإشاعتها ، وفيه جواز العمل بالمكاتبة بالأحاديث ، وإجرائها مجرى المسموع ، والعمل بالخط في مثل ذلك إذا أمن تغييره . وفيه قبول خبر الواحد . وهو فرد من أفراد لا تحصى ، كما قررناه فيما تقدم . وقوله " عن قيل وقال " الأشهر فيه : بفتح اللام على سبيل الحكاية . وهذا النهي لا بد من تقييده بالكثرة التي لا يؤمن معها وقوع الخطل والخطأ ، والتسبب إلى وقوع المفاسد من غير تعيين ، والإخبار بالأمور الباطلة ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " كفى بالمرء إثما : أن يحدث بكل ما سمع " وقال بعض السلف : لا يكون إماما من حدث بكل ما سمع .



                                        وأما " إضاعة المال " فحقيقته المتفق عليها : بذلك في غير مصلحة دينية أو دنيوية . وذلك ممنوع ، لأن الله تعالى جعل الأموال قياما لمصالح العباد . وفي تبذيرها تفويت لتلك المصالح ، إما في حق مضيعها ، أو في حق غيره . وأما بذله وكثرة إنفاقه في تحصيل مصالح الأخرى فلا يمتنع من حيث هو وقد قالوا : لا سرف في الخير . وأما إنفاقه في مصالح الدنيا ، وملاذ النفس على وجه لا يليق بحال المنفق ، وقدر ماله : ففي كونه سفها خلاف ، والمشهور : أنه سفه . وقال بعض الشافعية : ليس بسفه . لأنه يقوم به مصالح البدن وملاذه ، وهو غرض صحيح . وظاهر القرآن يمنع من ذلك . والأشهر في مثل هذا : أنه مباح ، أعني إذا كان الإنفاق في غير معصية . وقد نوزع فيه . .



                                        وأما " كثرة السؤال " ففيه وجهان :

                                        أحدهما : أن يكون ذلك راجعا إلى الأمور العلمية . وقد كانوا يكرهون تكلف المسائل التي لا تدعو الحاجة إليها . وقال النبي صلى الله عليه وسلم " أعظم الناس جرما عند الله من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين ، فحرم عليهم من أجل مسألته " وفي حديث اللعان لما سئل عن الرجل يجد مع امرأته رجلا . فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها ، وفي حديث معاوية [ ص: 325 ] " نهي عن الأغلوطات " وهي شداد المسائل وصعابها . وإنما كان ذلك مكروها : لما يتضمن كثير منه من التكلف في الدين والتنطع . والرجم بالظن من غير ضرورة تدعو إليه ، مع عدم الأمن من العثار ، وخطأ الظن ، والأصل المنع من الحكم بالظن ، إلا حيث تدعو الضرورة إليه .

                                        الوجه الثاني : أن يكون ذلك راجعا إلى سؤال المال . وقد وردت أحاديث في تعظيم مسألة الناس ، ولا شك أن بعض سؤال الناس أموالهم ممنوع . وذلك حيث يكون الإعطاء بناء على ظاهر الحال ، ويكون الباطن خلافه ، أو يكون السائل مخبرا عن أمر هو كاذب فيه : قد جاء في السنة ما يدل على اعتبار ظاهر الحال في هذا ، وهو ما روي " أنه مات رجل من أهل الصفة وترك دينارين . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كيتان " وإنما كان ذلك - والله أعلم - لأنهم كانوا فقراء مجردين ، يأخذون ويتصدق عليهم ، بناء على الفقر والعدم . وظهر أن معه هذين الدينارين ، على خلاف ظاهر حاله . والمنقول عن مذهب الشافعي : جواز السؤال . فإذا قيل بذلك : فينبغي النظر في تخصيص المنع بالكثرة . فإنه إن كانت الصورة تقتضي المنع . فالسؤال ممنوع كثيره وقليله . وإن لم تقتض المنع فينبغي حمل هذا النهي على الكراهة للكثير من السؤال ، مع أنه لا يخلو السؤال من غير حاجة عن كراهة . فتكون الكراهة في الكثرة أشد . وتكون هي المخصوصة بالنهي . وتبين من هذا : أن من يكره السؤال مطلقا - حيث لا يحرم - ينبغي أن لا يحمل قوله " كثرة السؤال " على الوجه الأول المتعلق بالمسائل الدينية ، أو يجعل النهي دالا على المرتبة الأشدية من الكراهة .



                                        وتخصيص العقوق بالأمهات ، مع امتناعه في الآباء أيضا ، لأجل شدة حقوقهن ، ورجحان الأمر ببرهن بالنسبة إلى الآباء . وهذا من باب تخصيص الشيء بالذكر لإظهار عظمه في المنع ، إن كان ممنوعا ، وشرفه إن كان مأمورا به . وقد يراعى في موضع آخر التنبيه بذكر الأدنى على الأعلى . فيخص الأدنى بالذكر ، وذلك بحسب اختلاف المقصود .



                                        [ ص: 326 ] و " وأد البنات " عبارة عن دفنهن مع الحياة . وهذا التخصيص بالذكر لأنه كان هو الواقع في الجاهلية . فتوجه النهي إليه لأن الحكم مخصوص بالبنات .



                                        " ومنع وهات " راجع إلى السؤال مع ضميمة النهي عن المنع ، وهذا يحتمل وجهين .

                                        أحدهما : أن يكون المنع حيث يؤمر بالإعطاء ، وعن السؤال حيث يمنع منه . فيكون كل واحد مخصوصا بصورة غير صورة الآخر .

                                        والثاني أن يجتمعا في صورة واحدة . ولا تعارض بينهما . فيكون وظيفة الطالب : أن لا يسأل ، ووظيفة المعطي : أن لا يمنع إن وقع السؤال . وهذا لا بد أن يستثنى منه ما إذا كان المطلوب محرما على الطالب . فإنه يمتنع على المعطي إعطاؤه لكونه معينا على الإثم . ويحتمل أن يكون الحديث محمولا على الكثرة من السؤال ، والله أعلم . .




                                        الخدمات العلمية