الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ومن دخل في صوم تطوع أو صلاة تطوع استحب له إتمامهما فإن خرج منها جاز ، لما روت عائشة قالت : { دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هل عندك شيء ؟ فقلت : لا ، فقال : إذن أصوم ، ثم دخل علي يوما آخر فقال : هل عندك شيء ؟ فقلت : نعم ، فقال : إذن أفطر ، وإن كنت قد فرضت الصوم } ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث عائشة رواه مسلم بمعناه ، وسنذكر لفظه مع غيره من الأحاديث في فرع مذاهب العلماء ، ومعنى فرضت الصوم نويته ، قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى : إذا دخل في صوم تطوع أو صلاة تطوع استحب له إتمامهما ; لقوله تعالى { ولا تبطلوا أعمالكم } وللخروج من خلاف العلماء فإن خرج منهما بعذر أو بغير عذر لم يحرم عليه ذلك ولا قضاء عليه ، لكن يكره الخروج منهما بلا عذر ; لقوله تعالى { ولا تبطلوا أعمالكم } هذا هو المذهب ، وفيه وجه حكاه الرافعي أنه لا يكره الخروج بلا عذر ، ولكنه خلاف الأولى . وأما الخروج منه بعذر فلا كراهة فيه بلا خلاف ، ويستحب قضاؤه سواء خرج بعذر أم بغيره لما سنذكره من الأحاديث واختلاف العلماء في وجوب القضاء ، والأعذار معروفة ( منها ) أن يشق على ضيفه أو مضيفه صومه فيستحب أن يفطر فيأكل معه ; لقوله صلى الله عليه وسلم { وإن لزوارك عليك حقا } ; ولقوله صلى الله عليه وسلم " { من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه } رواهما البخاري ومسلم . وأما الحديث المروي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم : { من نزل على قوم فلا يصومن تطوعا إلا بإذنهم } فرواه الترمذي .

                                      [ ص: 447 ] وقال : حديث منكر ، وأما إذا لم يشق على ضيفه أو مضيفه صومه التطوع فالأفضل بقاؤه وصومه ، وسنوضح المسألة بأبسط من هذا حيث ذكرها المصنف والأصحاب في باب الوليمة إن شاء الله تعالى ، ( وأما ) إذا دخل في حج تطوع أو عمرة تطوع فإنه يلزمه إتمامها بلا خلاف ، فإن أفسدهما لزمه المضي في فاسدهما ، ويجب قضاؤهما بلا خلاف . فرع في مذاهب العلماء في الشروع في صوم تطوع أو صلاة تطوع . قد ذكرنا أن مذهبنا أنه يستحب البقاء فيهما ، وأن الخروج منهما بلا عذر ليس بحرام ، ولا يجب قضاؤهما ، وبهذا قال عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وجابر بن عبد الله وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق ، وقال أبو حنيفة : يلزمه الإتمام فإن خرج منهما لعذر لزمه القضاء ولا إثم وإن خرج بغير عذر لزمه القضاء وعليه الإثم . وقال مالك وأبو ثور : يلزمه الإتمام ، فإن خرج بلا عذر لزمه القضاء وإن خرج بعذر فلا قضاء ، واختلف أصحاب أبي حنيفة فيمن دخل في صوم أو صلاة يظنهما عليه ، ثم بان في أثنائهما أنهما ليسا عليه هل يجوز الخروج منهما أم لا ؟ واحتج لمن أوجب إتمام صوم التطوع وصلاته بمجرد الشروع فيهما بقوله تعالى { ولا تبطلوا أعمالكم } وبحديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي الذي سأله عن الإسلام : خمس صلوات في اليوم والليلة قال : هل علي غيرهن ؟ قال : لا إلا أن تطوع } إلى آخر الحديث رواه البخاري ومسلم . وسبق بيانه في أول كتاب الصلاة . قالوا : وهذا الاستثناء متصل . فمقتضاه وجوب التطوع بمجرد الشروع فيه قالوا : ولا يصح حملكم على أنه استثناء منقطع ، بمعنى أنه يقدر لكن لك أن تطوع ; لأن الأصل في الاستثناء الاتصال [ ص: 448 ] فلا تقبل دعوى الانقطاع فيه بغير دليل ، واحتجوا أيضا بالقياس على حج التطوع وعمرته ، فإنهما يلزمان بالشروع بالإجماع .

                                      واحتج أصحابنا بحديث عائشة قالت : { دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : هل عندكم شيء ؟ قلنا : لا ، قال : فإني إذن صائم ، ثم أتانا يوما آخر فقلنا : يا رسول الله ، أهدي لنا حيس فقال : أرنيه ، فلقد أصبحت صائما فأكل } رواه مسلم بهذا اللفظ ، وفي رواية لمسلم " { فأكل ثم قال : قد كنت أصبحت صائما } وفي رواية أبي داود ، وإسناده على شرط البخاري ومسلم قالت عائشة : " { فقلنا : يا رسول الله ، قد أهدي لنا حيس فحبسناه لك ، فقال : أدنيه فأصبح صائما وأفطر } هذا لفظه ، وعن عائشة أيضا قالت : { دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : أعندك شيء ؟ قلت : لا ، قال : إني إذن أصوم . قالت : ودخل علي يوما آخر فقال : أعندك شيء ؟ قلت نعم ، قال : إذن أفطر ، وإن كنت قد فرضت الصوم } رواه الدارقطني والبيهقي بهذا اللفظ ، وقال : إسناده صحيح . وعن أبي جحيفة قال : { آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء ، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة . فقال لها : ما شأنك ؟ قالت : أخوك أبو الدرداء ليس له في الدنيا حاجة ، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال : كل فإني صائم قال : ما أنا بآكل حتى تأكل ، فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم قال : نم ، فنام ثم ذهب يقوم ، فقال : نم ، فنام ثم ذهب يقوم ، فقال : نم فنام ، فلما كان من آخر الليل قال سلمان : قم الآن ، فصليا ، فقال له سلمان : إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ، فأعط كل ذي حق حقه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق سلمان . } رواه البخاري .

                                      وعن أم هانئ قالت : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر } وفي روايات { أمين أو أمير نفسه } رواه أبو داود والترمذي والنسائي والدارقطني والبيهقي وغيرهم ، وألفاظ رواياتهم متقاربة المعنى [ ص: 449 ] وإسنادها جيد ، ولم يضعفه أبو داود ، وقال الترمذي : في إسناده مقال .

                                      وعن ابن مسعود قال : " إذا أصبحت وأنت ناو الصوم فأنت بخير النظرين ، إن شئت صمت وإن شئت أفطرت " رواه البيهقي بإسناد صحيح .

                                      وعن جابر أنه " لم يكن يرى بإفطار التطوع بأسا " رواه الدارقطني والبيهقي بإسناد صحيح ، وعن ابن عباس مثله رواه الشافعي والبيهقي بإسناد صحيح .

                                      ( وأما ) الحديث المروي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم " { الصائم بالخيار ما بينه وبين نصف النهار } فليس بصحيح رفعه ، كذا قاله البيهقي وإنما هو موقوف على ابن عمر ، وروى مثله مرفوعا من رواية أبي ذر وأنس وأبي أمامة رواها كلها البيهقي وضعفها لضعف رواتها ، وكذا الحديث المروي عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا بأس أن أفطر ما لم يكن نذر أو قضاء رمضان } رواه الدارقطني وضعفه وأما الجواب عن احتجاجهم بحديث طلحة فهو من معناه لكن لك أن تطوع ويكون الاستثناء منقطعا ، وهو إن كان خلاف الأصل لكن يتعين تأويله ليجمع بينه وبين الأحاديث التي ذكرناها ، وأما القياس على الحج والعمرة فالفرق أن الحج لا يخرج منه بالإفساد لتأكد الدخول فيه بخلاف الصوم .

                                      ( فرع ) قد ذكرنا أن مذهبنا أنه لا يلزمه قضاء صوم التطوع إذا خرج منه سواء أخرج منه بعذر أم بغيره ، وبه قال أكثر العلماء كما سبق ، وقال أبو حنيفة ومن وافقه : يجب القضاء . واحتج له بحديث الزهري قال : { بلغني أن عائشة وحفصة أصبحتا صائمتين متطوعتين فأهدي لهما طعام فأفطرتا عليه ، فدخل عليهما النبي صلى الله عليه وسلم قالت عائشة : فقالت حفصة : يا رسول الله ، إني أصبحت أنا وعائشة صائمتين متطوعتين ، وقد أهدي لنا هدية فأفطرنا عليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقضيا مكانه يوما آخر } قال البيهقي : هذا الحديث رواه الثقات الحفاظ من أصحاب الزهري [ ص: 450 ] عنه هكذا منقطعا بينه وبين عائشة وحفصة ومالك بن أنس ويونس بن يزيد ومعمر وابن جريج ويحيى بن سعيد وعبيد الله بن عمر وسفيان بن عيينة ومحمد بن الوليد الزبيدي وبكر بن وائل وغيرهم ، ثم رواه البيهقي بإسناده عن جعفر بن برقان - بضم الباء الموحدة - عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : { كنت أنا وحفصة صائمتين فعرض لنا طعام فاشتهيناه فأكلنا فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدرتني حفصة وكانت بنت أبيها حقا ، فقصت عليه القصة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقضيا يوما مكانه } . قال البيهقي : وهكذا رواه جعفر بن برقان وصالح بن أبي الأخضر وسفيان بن حسين عن الزهري ووهموا فيه على الزهري ثم روى البيهقي عن ابن جريج عن الزهري قال : " قلت له : أحدثك عروة عن عائشة أنها قالت : أصبحنا أنا وحفصة صائمتين ؟ فقال : لم أسمع من عروة في هذا شيئا ، لكن حدثني ناس في خلافة سليمان بن عبد الملك عن بعض من كان يدخل على عائشة { أنها قالت : أصبحت أنا وحفصة صائمتين فأهدي لنا هدية فأكلناها فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدرتني حفصة وكانت بنت أبيها فذكرت ذلك له فقال : اقضيا يوما مكانه } وكذا رواه عبد الرزاق ومسلم بن خالد عن ابن جريج ثم رواه البيهقي عن سفيان بن عيينة عن صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن عائشة فذكروه وقال فيه : { صوما يوما مكانه } .

                                      قال سفيان : فسألوا الزهري وأنا شاهد فقالوا : أهو عن عروة ؟ فقال : لا ، ثم رواه البيهقي بإسناده عن الحميدي قال : حدثنا سفيان قال : سمعت الزهري يحدث عن عائشة فذكر هذا الحديث مرسلا ، قال سفيان فقيل للزهري : هو عن عروة ؟ قال : لا ، قال سفيان : وكنت سمعت صالح بن أبي الأخضر حدثناه عن الزهري عن عروة قال الزهري : ليس هو عن عروة فظننت أن صالحا أتي من قبل العرض ، قال الحميدي : أخبرني غير واحد عن معمر قال : لو كان من حديث عروة ما نسيته قال البيهقي : فقد شهد ابن جريج وابن عيينة على الزهري وهما شاهدا عدل بأنه لم يسمعه من عروة ، فكيف يصح وصل من [ ص: 451 ] وصله ؟ قال البيهقي : قال الترمذي : سألت البخاري عن هذا الحديث فقال : لا يصح حديث الزهري عن عروة عن عائشة قال : وكذلك قال محمد بن يحيى الذهلي ، واحتج بحكاية ابن جريج وسفيان عن الزهري وبإرسال من أرسل الحديث عن الزهري من الأئمة . قال البيهقي : وقد روي عن جرير بن حازم عن يحيى بن سعيد عن عروة عن عائشة ، وجرير بن حازم وإن كان ثقة فقد وهم فيه ، وقد خطأه فيه أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ، والمحفوظ عن يحيى بن سعيد عن الزهري عن عائشة مرسلا ، ثم روى البيهقي عن أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ما ذكره عنهما ، ثم رواه بإسناده عن زميل بن عباس مولى عروة عن عروة عن عائشة قال ابن عدي : هذا ضعيف لا تقوم به الحجة . قال البيهقي : وقد روي من أوجه أخر عن عائشة لا يصح شيء منها وقد بينتها في الخلافيات ، هذا آخر كلام البيهقي . وروى الدارقطني والبيهقي حديث عائشة السابق من طريق قالا فيه : قالت : " { دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : خبأنا لك حيسا فقال : إني كنت أريد الصوم ولكن قربيه وأقضي يوما مكانه } قال الدارقطني والبيهقي : هذه الزيادة { وأقضي يوما مكانه } ليست محفوظة .

                                      واحتج أصحابنا لعدم وجوب القضاء بما احتج به البيهقي عن أبي سعيد الخدري قال : { صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما فأتى هو وأصحابه فلما وضع الطعام قال رجل من القوم : إني صائم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعاكم أخوكم وتكلف لكم ، ثم قال له : أفطر وصم يوما مكانه إن شئت } قالوا : ولأن الأصل عدم القضاء ولم يصح في وجوبه شيء . وأما الحديث السابق عن عائشة وحفصة فجوابه من وجهين ( أحدهما ) أنه ضعيف كما سبق ( والثاني ) أنه لو ثبت لحمل القضاء على الاستحباب ، ونحن نقول به ، والله تعالى أعلم . أما الخروج من صلاة الفرض المكتوبة والقضاء والنذر وصيام القضاء والكفارة والنذر [ ص: 452 ] فسبق بيانه في آخر باب مواقيت الصلاة ، وفي أواخر كتاب الصيام قبيل هذا الباب .




                                      الخدمات العلمية