nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=136وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا . فقالوا : هذا لله - بزعمهم - وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله ، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم . ساء ما يحكمون ! . .
يقرر السياق - وهو يصف تصورات الجاهلية وتقاليدها في الحرث والأنعام - أن الله هو الذي أنشأ لهم هذه الزروع والأنعام ; فما من أحد غير الله يرزق الناس من الأرض والسماء . . ثم يذكر بعد هذا التقرير ما يفعلونه بما رزقهم . إذ يجعلون له منه سبحانه جزءا ، ويجعلون لأوثانهم وأصنامهم جزءا (وطبيعي أن سدنة الأوثان هم الذين ينتهي إليهم هذا الجزء الأخير !) . ثم هم بعد ذلك يجورون على الجزء الذي جعلوه لله . على النحو الذي تقرره الآية !
عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال : كانوا إذا أدخلوا الطعام فجعلوه حزما ، جعلوا منه لله سهما وسهما لآلهتهم . وكانت إذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لآلهتهم إلى الذي جعلوه لله ، ردوه إلى الذي جعلوه لآلهتهم . وإذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لله إلى الذي جعلوه لآلهتهم ، أقروه ولم يردوه . فذلك قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=136ساء ما يحكمون .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد قال : يسمون لله جزءا من الحرث ، ولشركائهم وأوثانهم جزءا . فما ذهبت به الريح مما سموا لله إلى جزء أوثانهم تركوه . وما ذهب من جزء أوثانهم إلى جزء الله ردوه . وقالوا : " الله عن هذا غني " ! والأنعام : السائبة والبحيرة التي سموا .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة قال : عمد ناس من أهل الضلالة فجزأوا من حروثهم ومواشيهم جزءا لله وجزءا لشركائهم وكانوا إذا خالط شيء مما جزأوا لله فيما جزأوا لشركائهم خلوه . فإذا خالط شيء مما جزأوا لشركائهم فيما جزأوا لله ردوه على شركائهم . وكانوا إذا أصابتهم السنة (يعني الجدب ) استعانوا بما جزأوا لله ، وأقروا ما جزأوا لشركائهم . قال الله ،
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=136ساء ما يحكمون .
[ ص: 1218 ] وعن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي قال : كانوا يقسمون من أموالهم قسما فيجعلونه لله ، ويزرعون زرعا فيجعلونه لله . ويجعلون لآلهتهم مثل ذلك . . فما خرج للآلهة أنفقوه عليها ، وما خرج لله تصدقوا به . فإذا هلك الذي يصنعون لشركائهم ، وكثر الذي لله ، قالوا : " ليس بد لآلهتنا من نفقة " ! وأخذوا الذي لله فأنفقوه على آلهتهم . وإذا أجدب الذي لله ، وكثر الذي لآلهتهم ، قالوا : " لو شاء أزكى الذي له " ! فلا يردون عليه شيئا مما للآلهة . قال الله . . لو كانوا صادقين فيما قسموا لبئس إذن ما حكموا : أن يأخذوا مني ولا يعطوني ! فذلك حين يقول :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=136ساء ما يحكمون .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير : وأما قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=136ساء ما يحكمون فإنه خبر من الله جل ثناؤه عن فعل هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم . يقول جل ثناؤه : وقد أساءوا في حكمهم ، إذ أخذوا من نصيبي لشركائهم ، ولم يعطوني من نصيب شركائهم . وإنما عنى بذلك - تعالى ذكره - الخبر عن جهلهم وضلالتهم ، وذهابهم عن سبيل الحق ، بأنهم لم يرضوا أن عدلوا بمن خلقهم وغذاهم ، وأنعم عليهم بالنعم التي لا تحصى ، ما لا يضرهم ولا ينفعهم ، حتى فضلوه في أقسامهم عن أنفسهم بالقسم عليه !
هذا هو ما كان شياطين الإنس والجن يوحون به إلى أوليائهم ليجادلوا به المؤمنين في الأنعام والزروع . وظاهر في هذه التصورات والتصرفات أثر المصلحة للشياطين في هذا الذي يزينونه لأوليائهم . فأما مصلحة شياطين الإنس - من الكهنة والسدنة والرؤساء - فهي متمثلة أولا في الاستيلاء على قلوب الأتباع والأولياء ، وتحريكهم على هواهم وفق ما يزينونه لهم من تصورات باطلة وعقائد فاسدة ! ومتمثلة ثانيا في المصالح المادية التي تتحقق لهم من وراء هذا التزيين والاستهواء لجماهير الناس ; وهو ما يعود عليهم مما يقسمه هؤلاء الأغرار المغفلون للآلهة ! . . وأما مصلحة شياطين الجن فتتمثل في نجاح الإغواء والوسوسة لبني آدم حتى يفسدوا عليهم حياتهم ، ويفسدوا عليهم دينهم ، ويقودوهم ذللا إلى الدمار في الدنيا والنار في الآخرة !
وهذه الصورة التي كانت تقع في جاهلية العرب ، وكانت تقع نظائرها في الجاهليات الأخرى : للإغريق والفرس
والرومان ، والتي ما تزال تقع في
الهند وإفريقية وآسيا . . . هذه الصور كلها ليست إلا صورا من التصرف في المال لا تقتصر عليها الجاهلية ! فالجاهلية الحاضرة تتصرف كذلك في الأموال بما لم يأذن به الله . وعندئذ تلتقي في الشرك مع تلك الجاهليات القديمة . تلتقي في الأصل والقاعدة . فالجاهلية هي كل وضع يتصرف في شؤون الناس بغير شريعة من الله . ولا عبرة بعد ذلك باختلاف الأشكال التي يتمثل فيها هذا التصرف . . فإن هي إلا أشكال . .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=137وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم ، وليلبسوا عليهم دينهم . ولو شاء الله ما فعلوه . فذرهم وما يفترون .
يقول : وكما زين الشركاء والشياطين لهم ذلك التصرف في أموالهم كذلك زينوا لهم قتل أولادهم . . وذلك ما كانوا يفعلونه من وأد البنات خشية الإملاق - أو خشية السبي والعار - ومن قتل بعض الأبناء في النذر للآلهة كالذي روي عن عبد المطلب من نذره ذبح أحد ولده ، إن رزقه الله بعشرة منهم يحمونه ويمنعونه !
وظاهر أن هذا وذاك كان يوحي به عرف الجاهلية . العرف الذي وضعه الناس للناس . والشركاء المذكورون هنا هم شياطين الإنس والجن . . من الكهنة والسدنة والرؤساء من الإنس ، ومن القرناء الموسوسين من الجن ، بالتعاون والموالاة فيما بينهم !
والنص يصرح بالهدف الكامن وراء التزيين :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=137ليردوهم ، وليلبسوا عليهم دينهم .
[ ص: 1219 ] ليهلكوهم وليجعلوا دينهم عليهم ملتبسا غامضا لا يقفون منه على تصور واضح . . فأما الهلاك فيتمثل ابتداء في قتلهم لأولادهم ; ويتمثل أخيرا في فساد الحياة الاجتماعية بجملتها ، وصيرورة الناس ماشية ضالة يوجهها رعاتها المفسدون حيثما شاءوا ، وفق أهوائهم ومصالحهم ! حتى ليتحكمون في أنفسهم وأولادهم وأموالهم بالقتل والهلاك ، فلا تجد هذه الغنم الضالة لها مفرا من الخضوع . لأن التصورات المتلبسة بالدين والعقيدة - وما هي منها - بكل ثقلها وعمقها ، تتعاون مع العرف الاجتماعي المنبثق منها ، وتنشئ ثقلا ساحقا لا تقف له جماهير الناس . ما لم تعتصم منه بدين واضح ; وما لم ترجع في أمرها كله إلى ميزان ثابت .
وهذه التصورات المبهمة الغامضة ; وهذا العرف الاجتماعي الذي ينبثق منها ، ويضغط على جمهرة الناس بثقله الساحق . . لا ينحصر في تلك الصور التي عرفتها الجاهليات القديمة . فنحن نشهده اليوم بصورة أوضح في الجاهليات الحديثة . . هذه العادات والتقاليد التي تكلف الناس العنت الشديد في حياتهم ، ثم لا يجدون لأنفسهم منها مفرا . . هذه الأزياء والمراسم التي تفرض نفسها على الناس فرضا ، وتكلفهم أحيانا ما لا يطيقون من النفقة ، وتأكل حياتهم واهتماماتهم ، ثم تفسد أخلاقهم وحياتهم . ومع ذلك لا يملكون إلا الخضوع لها . . أزياء الصباح ، وأزياء بعد الظهر ، وأزياء المساء . . الأزياء القصيرة ، والأزياء الضيقة ، والأزياء المضحكة ! وأنواع الزينة والتجميل والتصفيف . . . إلى آخر هذا الاسترقاق المذل . . من الذي يصنعه ومن الذي يقف وراءه؟ تقف وراءه بيوت الأزياء . وتقف وراءه شركات الإنتاج ! ويقف وراءه المرابون في بيوت المال والبنوك من الذين يعطون أموالهم للصناعات ليأخذوا هم حصيلة كدها ! ويقف وراءه اليهود الذين يعملون لتدمير البشرية كلها ليحكموها ! . . ولكنهم لا يقفون بالسلاح الظاهر والجند المكشوف ، إنما يقفون بالتصورات والقيم التي ينشئونها ، ويؤصلونها بنظريات وثقافات ويطلقونها تضغط على الناس في صورة (عرف اجتماعي ) . فهم يعلمون أن النظريات وحدها لا تكفي ما لم تتمثل في أنظمة حكم ، وأوضاع مجتمع ، وفي عرف اجتماعي غامض لا يناقشه الناس ، لأنه ملتبس عليهم متشابكة جذوره وفروعه !
إنه فعل الشياطين . . شياطين الإنس والجن . . وإنها الجاهلية تختلف أشكالها وصورها ، وتتحد جذورها ومنابعها ، وتتماثل قوائمها وقواعدها . .
وإننا لنبخس القرآن قدره ، إذا نحن قرأناه وفهمناه على أنه حديث عن جاهليات كانت ! إنما هو حديث عن شتى الجاهليات في كل أعصار الحياة . ومواجهة للواقع المنحرف دائما ورده إلى صراط الله المستقيم . .
ومع ضخامة الكيد ، وثقل الواقع ، فإن السياق القرآني يهون أمر الجاهلية ، ويكشف عن الحقيقة الكبرى التي قد يخدع عنها هذا الجانب الظاهر . . إن هؤلاء الشياطين وأولياءهم لفي قبضة الله وسلطانه . وهم لا يفعلون ما يفعلونه بقدرة ذاتية فيهم . ولكن بترك الحبل ممدودا لهم قليلا ; بمشيئة الله وقدره ، تحقيقا لحكمة الله في ابتلاء عباده . ولو شاء ألا يفعلوه ما فعلوه . ولكنه شاء للابتلاء . فلا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا على المؤمنين . فليمضوا في طريقهم وليدعوا له الشياطين وما يفترون على الله وما يكيدون :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=137ولو شاء الله ما فعلوه . فذرهم وما يفترون . .
ولا بد أن نذكر أنهم ما كانوا يجرؤون على أن يقولوا : إن هذه التصورات والتصرفات من عند أنفسهم . إنما يفترون على الله ، فيزعمون أنه هو شرعها لهم . . ينسبونها بذلك إلى شريعة
إبراهيم وإسماعيل - بزعمهم !
كذلك يفعل الشياطين اليوم في الجاهليات الحديثة . . إن معظمهم لا يستطيع أن يتبجح تبجح الشيوعيين الملحدين ;
[ ص: 1220 ] فينفي وجود الله جملة ويتنكر للدين علانية . إنما يلجأ إلى نفس الأسلوب الذي كان يلجأ إليه الشياطين في جاهلية
العرب ! يقولون : إنهم يحترمون الدين ! ويزعمون أن ما يشرعونه للناس له أصل من هذا الدين ! . . إنه أسلوب ألأم وأخبث من أسلوب الشيوعيين الملحدين ! إنه يخدر العاطفة الدينية الغامضة التي لا تزال تعيش في قرارات النفوس - وإن لم تكن هي الإسلام ، فالإسلام منهج واضح عملي واقع وليس هذه العاطفة المبهمة الغامضة - ويفرغ الطاقة الفطرية الدينية في قوالب جاهلية لا إسلامية . وهذا أخبث الكيد وألأم الأساليب !
ثم يجيء " المتحمسون " لهذا الدين فيفرغون جهدهم في استنكار جزئيات هزيلة على هامش الحقيقة الإسلامية ، لا تروق لهم في هذه الأوضاع الجاهلية المشركة ، المغتصبة لألوهية الله وسلطانه بالجملة . وبهذه الغيرة الغبية يسبغون على هذه الأوضاع الجاهلية المشركة طابع الإسلام . ويشهدون لها شهادة ضمنية خطيرة بأنها تقوم على أصل من الدين حقا ، ولكنها تخالف عنه في هذه الجزئيات الهزيلة !
ويؤدي هؤلاء المتحمسون دورهم لتثبيت هذه الأوضاع وتطهيرها . وهو نفس الدور الذي تؤديه الأجهزة الدينية المحترفة ، التي تلبس مسوح الدين ! وإن كان الإسلام بالذات لا يعرف المسوح ولا ينطق باسمه كاهن ولا سادن !
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=138وقالوا : هذه أنعام وحرث حجر ، لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها - افتراء عليه - سيجزيهم بما كانوا يفترون . .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16935أبو جعفر بن جرير الطبري : " وهذا خبر من الله - تعالى ذكره - عن هؤلاء الجهلة من المشركين . إنهم كانوا يحرمون ويحللون من قبل أنفسهم ، من غير أن يكون الله أذن لهم بشيء من ذلك " .
والحجر : الحرام . . فهؤلاء المعتدون على سلطان الله ، الذين يدعون - مع ذلك - أن ما يشرعونه هو شريعة الله ، قد عمدوا إلى بعض الزروع وبعض الأنعام ، فعزلوها لآلهتهم - كما تقدم - وقالوا : هذه الأنعام وهذه الثمار محرمة عليهم لا يطعمونها . لا يطعمها إلا من شاء الله ! - بزعمهم ! - والذي يقرر ما يقرر في هذا الشأن هم بطبيعة الحال الكهنة والسدنة والرؤساء ! وعمدوا إلى أنعام قيل : إنها هي الأنواع المسماة في آية المائدة :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=103ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام فجعلوا ظهورها حراما على الركوب . كما عمدوا إلى أنعام فقالوا : هذه لا يذكر اسم الله عليها عند ركوبها ولا عند حلبها ، ولا عند ذبحها . . إنما تذكر أسماء الآلهة وتخلص لها ! كل ذلك " افتراء على الله " !
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16935أبو جعفر بن جرير : " وأما قوله " افتراء على الله " فإنه يقول : فعل هؤلاء المشركون ما فعلوا من تحريمهم ما حرموا ، وقالوا ما قالوا من ذلك ، كذبا على الله ، وتخرصا بالباطل عليه ، لأنهم أضافوا ما كانوا يحرمون من ذلك ، على ما وصفه عنهم جل ثناؤه في كتابه ، إلى أن الله هو الذي حرمه ، فنفى الله ذلك عن نفسه ، وأكذبهم . وأخبر نبيه والمؤمنين أنهم كذبة فيما يدعون " .
وهنا كذلك تبدو لنا أساليب الجاهلية ، التي تتكرر في معظم الجاهليات ، وذلك قبل أن يبلغ التبجح بناس من البشر أن يقولوا بمادية الوجود ! وقبل أن يبلغ التبجح ببعض من لا ينكرون الله ألبتة ، أن يجهروا بأن " الدين " مجرد " عقيدة " وليس نظاما اجتماعيا أو اقتصاديا أو سياسيا ، يهيمن على الحياة !
وإن كان ينبغي أن ندرك دائما أن أسلوب الجاهلية التي تقيم نظاما أرضيا ، الحاكمية فيه للبشر لا لله ، ثم
[ ص: 1221 ] تزعم أنها تحترم الدين وتستمد منه أوضاعها الجاهلية . . أن ندرك أن هذا الأسلوب هو أخبث الأساليب وأمهرها على الإطلاق ! ولقد عمدت الصليبية العالمية والصهيونية العالمية إلى هذا الأسلوب في المنطقة التي كانت يوما دار إسلام تحكم بشريعة الله . بعد ما تبين لها فشل التجربة التركية التي قام بها البطل الذي صنعوه هناك ! . . لقد أدت لهم هذه التجربة دورا هاما في تحطيم الخلافة كآخر مظهر للتجمع الإسلامي في الأرض ، ولكنها بعلمانيتها السافرة قد عجزت عن أن تكون نموذجا يؤثر في بقية المنطقة . لقد انخلعت من الدين ، فأصبحت أجنبية عن الجميع ، الذين ما يزال الدين عاطفة غامضة في قرارات نفوسهم . . ومن ثم عمدت الصليبية العالمية والصهيونية في التجارب التالية ، التي تستهدف نفس الهدف ، أن تتدارك غلطة التجربة الكمالية التركية . فتضع على هذه التجارب ستارا من الدين وتقيم له أجهزة دينية تضفي عليه هذه الصفة ، سواء بالدعاية المباشرة ; أو باستنكار جزئيات هزيلة يوهم استنكارها أن ما عداها سليم ! وكان هذا من أخبث الكيد الذي تكيده شياطين الإنس والجن لهذا الدين . .
على أن الأجهزة الصليبية والصهيونية التي تعمل بكل ثقلها في هذه الفترة ، وبكل تضامنها وتجمعها ، وبكل تجاربها وخبرتها ، تحاول أن تسترد الغلطة في التجربة التركية ذاتها ، بأن تزعم أن هذه التجربة ذاتها كانت حركة من حركات البعث الإسلامي ! وأننا يجب ألا نصدقها فيما أعلنته عن نفسها من أنها (علمانية ) تنبذ الدين وتعزله عن الحياة عزلا !
ويجهد المستشرقون (وهم الأداة الفكرية للاستعمار الصليبي الصهيوني ) في تطهير التجربة الكمالية من تهمة الإلحاد جهدا كبيرا . . ذلك أن انكشاف إلحادها جعلها تؤدي دورا محدودا . . وهو سحق آخر مظهر للتجمع الإسلامي في الأرض . . ولكنها عجزت بعد ذلك أن تؤدي الدور الآخر - الذي تحاول أن تؤديه التجارب التالية في المنطقة - من تفريغ المفهومات الدينية والحماسة الدينية في أوضاع وأشكال جاهلية ! ومن تبديل الدين باسم الدين ! ومن إفساد الخلق والمقومات الفطرية الأصيلة باسم الدين أيضا . ومن إلباس الجاهلية ثوب الإسلام لتؤدي به دورها في كل البقاع التي ما يزال فيها عاطفة دينية غامضة ; وقيادتها بهذا الخطام المزور الخادع إلى محاضن الصليبية والصهيونية . . الأمر الذي عجزت عنه الحملات الصليبية والصهيونية طوال ألف وثلاث مائة عام ، من الكيد للإسلام ! . .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=138سيجزيهم بما كانوا يفترون . .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=139وقالوا : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء . سيجزيهم وصفهم ، إنه حكيم عليم . .
لقد استطردوا في أوهام التصورات والتصرفات ، النابعة من انحرافات الشرك والوثنية ، ومن ترك أمر التحليل والتحريم للرجال ; مع الادعاء بأن ما يشرعه الرجال هو الذي شرعه الله . استطردوا في هذه الأوهام فقالوا عن الأجنة التي في بطون بعض الأنعام - ولعلها تلك المسماة البحيرة والسائبة والوصيلة - إنها خالصة للذكور منهم حين تنتج ، محرمة على الإناث ، إلا أن تكون ميتة فيشارك فيها الإناث الذكور . . هكذا بلا سبب ولا دليل ولا تعليل ، إلا أهواء الرجال التي يصوغون منها دينا غامضا ملتبسا في الأفهام .
ويعقب السياق القرآني تعقيب التهديد ; لمن صاغوا هذه الشرائع وكذبوا على الله فوصفوها بأنها من شرع الله :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=139سيجزيهم وصفهم . .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=139إنه حكيم عليم . .
[ ص: 1222 ] يعلم حقائق الأحوال ، ويتصرف فيها بحكمة ، لا كما يتصرف هؤلاء المشركون الجهال .
وإن الإنسان ليعجب ، وهو يستعرض مع السياق القرآني هذه الضلالات ، وما تحمله أصحابها من أعباء وخسائر وتضحيات . . يعجب لتكاليف الانحراف عن شرع الله ونهجه ، تلك التي يتحملها المنحرفون عن صراط الله المستقيم . ولأثقال الخرافة والغموض والوهم التي يتبعها الضالون . ولأغلال العقيدة الفاسدة في المجتمع والضمير . . نعم يعجب للعقيدة المنحرفة تكلف الناس حتى فلذات أكبادهم ، فوق ما تكلفهم من تعقيد الحياة واضطرابها ، والسير فيها بلا ضابط ، سوى الوهم والهوى والتقليد . وأمامهم التوحيد البسيط الواضح ; يطلق الضمير البشري من أوهام الوهم والخرافة ; ويطلق العقل البشري من عقال التقليد الأعمى ; ويطلق المجتمع البشري من الجاهلية وتكاليفها ; ويطلق " الإنسان " من العبودية للعبيد - سواء فيما يشترعونه من قوانين ، وما يصنعونه من قيم وموازين - ويحل محل هذا كله عقيدة واضحة مفهومة مضبوطة ، وتصورا واضحا ميسرا مريحا ، ورؤية لحقائق الوجود والحياة كاملة عميقة ، وانطلاقا من العبودية للعبيد ، وارتفاعا إلى
nindex.php?page=treesubj&link=28662_28666مقام العبودية لله وحده . . المقام الذي لا يرتقي إلى أعلى درجاته إلا الأنبياء !
ألا إنها الخسارة الفادحة - هنا في الدنيا قبل الآخرة - حين تنحرف البشرية عن صراط الله المستقيم ; وتتردى في حمأة الجاهلية ; وترجع إلى العبودية الذليلة لأرباب من العبيد :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=140قد خسر الذين قتلوا أولادهم - سفها بغير علم - وحرموا ما رزقهم الله - افتراء على الله - قد ضلوا وما كانوا مهتدين . .
خسروا الخسارة المطلقة . خسروا في الدنيا والآخرة . خسروا أنفسهم وخسروا أولادهم . خسروا عقولهم وخسروا أرواحهم . خسروا الكرامة التي جعلها الله لهم بإطلاقهم من العبودية لغيره ; وأسلموا أنفسهم لربوبية العبيد ; حين أسلموها لحاكمية العبيد ! وقبل ذلك كله خسروا الهدى بخسارة العقيدة ، خسروا الخسارة المؤكدة ، وضلوا الضلال الذي لا هداية فيه :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=140قد ضلوا وما كانوا مهتدين .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=136وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا . فَقَالُوا : هَذَا لِلَّهِ - بِزَعْمِهِمْ - وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ، وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ . سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ! . .
يُقَرِّرُ السِّيَاقُ - وَهُوَ يَصِفُ تَصَوُّرَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَقَالِيدَهَا فِي الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ - أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَهُمْ هَذِهِ الزُّرُوعَ وَالْأَنْعَامَ ; فَمَا مِنْ أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ يَرْزُقُ النَّاسَ مِنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ . . ثُمَّ يَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا التَّقْرِيرِ مَا يَفْعَلُونَهُ بِمَا رَزَقَهُمْ . إِذْ يَجْعَلُونَ لَهُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ جُزْءًا ، وَيَجْعَلُونَ لِأَوْثَانِهِمْ وَأَصْنَامِهِمْ جُزْءًا (وَطَبِيعِيٌّ أَنَّ سَدَنَةَ الْأَوْثَانِ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَهِي إِلَيْهِمْ هَذَا الْجُزْءُ الْأَخِيرُ !) . ثُمَّ هُمْ بَعْدَ ذَلِكَ يَجُورُونَ عَلَى الْجُزْءِ الَّذِي جَعَلُوهُ لِلَّهِ . عَلَى النَّحْوِ الَّذِي تُقَرِّرُهُ الْآيَةُ !
عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانُوا إِذَا أَدْخَلُوا الطَّعَامَ فَجَعَلُوهُ حُزَمًا ، جَعَلُوا مِنْهُ لِلَّهِ سَهْمًا وَسَهْمًا لِآلِهَتِهِمْ . وَكَانَتْ إِذَا هَبَّتِ الرِّيحُ مِنْ نَحْوِ الَّذِي جَعَلُوهُ لِآلِهَتِهِمْ إِلَى الَّذِي جَعَلُوهُ لِلَّهِ ، رَدُّوهُ إِلَى الَّذِي جَعَلُوهُ لِآلِهَتِهِمْ . وَإِذَا هَبَّتِ الرِّيحُ مِنْ نَحْوِ الَّذِي جَعَلُوهُ لِلَّهِ إِلَى الَّذِي جَعَلُوهُ لِآلِهَتِهِمْ ، أَقَرُّوهُ وَلَمْ يَرُدُّوهُ . فَذَلِكَ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=136سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ .
وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16879مُجَاهِدٍ قَالَ : يُسَمُّونَ لِلَّهِ جُزْءًا مِنَ الْحَرْثِ ، وَلِشُرَكَائِهِمْ وَأَوْثَانِهِمْ جُزْءًا . فَمَا ذَهَبَتْ بِهِ الرِّيحُ مِمَّا سَمَّوْا لِلَّهِ إِلَى جُزْءِ أَوْثَانِهِمْ تَرَكُوهُ . وَمَا ذَهَبَ مِنْ جُزْءِ أَوْثَانِهِمْ إِلَى جُزْءِ اللَّهِ رَدُّوهُ . وَقَالُوا : " اللَّهُ عَنْ هَذَا غَنِيٌّ " ! وَالْأَنْعَامُ : السَّائِبَةُ وَالْبَحِيرَةُ الَّتِي سَمَّوْا .
وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16815قَتَادَةَ قَالَ : عَمَدَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ فَجَزَّأُوا مِنْ حُرُوثِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ جُزْءًا لِلَّهِ وَجُزْءًا لِشُرَكَائِهِمْ وَكَانُوا إِذَا خَالَطَ شَيْءٌ مِمَّا جَزَّأُوا لِلَّهِ فِيمَا جَزَّأُوا لِشُرَكَائِهِمْ خَلُّوهُ . فَإِذَا خَالَطَ شَيْءٌ مِمَّا جَزَّأُوا لِشُرَكَائِهِمْ فِيمَا جَزَّأُوا لِلَّهِ رَدُّوهُ عَلَى شُرَكَائِهِمْ . وَكَانُوا إِذَا أَصَابَتْهُمُ السَّنَةُ (يَعْنِي الْجَدْبَ ) اسْتَعَانُوا بِمَا جَزَّأُوا لِلَّهِ ، وَأَقَرُّوا مَا جَزَّأُوا لِشُرَكَائِهِمْ . قَالَ اللَّهُ ،
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=136سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ .
[ ص: 1218 ] وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=14468السُّدِّيِّ قَالَ : كَانُوا يَقْسِمُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ قَسْمًا فَيَجْعَلُونَهُ لِلَّهِ ، وَيَزْرَعُونَ زَرْعًا فَيَجْعَلُونَهُ لِلَّهِ . وَيَجْعَلُونَ لِآلِهَتِهِمْ مِثْلَ ذَلِكَ . . فَمَا خَرَجَ لِلْآلِهَةِ أَنْفَقُوهُ عَلَيْهَا ، وَمَا خَرَجَ لِلَّهِ تَصَدَّقُوا بِهِ . فَإِذَا هَلَكَ الَّذِي يَصْنَعُونَ لِشُرَكَائِهِمْ ، وَكَثُرَ الَّذِي لِلَّهِ ، قَالُوا : " لَيْسَ بُدٌّ لِآلِهَتِنَا مِنْ نَفَقَةٍ " ! وَأَخَذُوا الَّذِي لِلَّهِ فَأَنْفَقُوهُ عَلَى آلِهَتِهِمْ . وَإِذَا أَجْدَبَ الَّذِي لِلَّهِ ، وَكَثُرَ الَّذِي لِآلِهَتِهِمْ ، قَالُوا : " لَوْ شَاءَ أَزْكَى الَّذِي لَهُ " ! فَلَا يَرُدُّونَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِمَّا لِلْآلِهَةِ . قَالَ اللَّهُ . . لَوْ كَانُوا صَادِقِينَ فِيمَا قَسَمُوا لَبِئْسَ إِذَنْ مَا حَكَمُوا : أَنْ يَأْخُذُوا مِنِّي وَلَا يُعْطُونِي ! فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=136سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ .
وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنِ جَرِيرٍ : وَأَمَّا قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=136سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ فَإِنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ فِعْلِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ . يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : وَقَدْ أَسَاءُوا فِي حُكْمِهِمْ ، إِذْ أَخَذُوا مِنْ نَصِيبِي لِشُرَكَائِهِمْ ، وَلَمْ يُعْطُونِي مِنْ نَصِيبِ شُرَكَائِهِمْ . وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ - تَعَالَى ذِكْرُهُ - الْخَبَرَ عَنْ جَهْلِهِمْ وَضَلَالَتِهِمْ ، وَذَهَابِهِمْ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ ، بِأَنَّهُمْ لَمْ يَرْضَوْا أَنْ عَدَلُوا بِمَنْ خَلَقَهُمْ وَغَذَّاهُمْ ، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ الَّتِي لَا تُحْصَى ، مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ، حَتَّى فَضَّلُوهُ فِي أَقْسَامِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالْقَسَمِ عَلَيْهِ !
هَذَا هُوَ مَا كَانَ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحُونَ بِهِ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأَنْعَامِ وَالزُّرُوعِ . وَظَاهِرٌ فِي هَذِهِ التَّصَوُّرَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ أَثَرُ الْمَصْلَحَةِ لِلشَّيَاطِينِ فِي هَذَا الَّذِي يُزَيِّنُونَهُ لِأَوْلِيَائِهِمْ . فَأَمَّا مَصْلَحَةُ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ - مِنَ الْكَهَنَةِ وَالسَّدَنَةِ وَالرُّؤَسَاءِ - فَهِيَ مُتَمَثِّلَةٌ أَوَّلًا فِي الِاسْتِيلَاءِ عَلَى قُلُوبِ الْأَتْبَاعِ وَالْأَوْلِيَاءِ ، وَتَحْرِيكِهِمْ عَلَى هَوَاهُمْ وَفْقَ مَا يُزَيِّنُونَهُ لَهُمْ مِنْ تَصَوُّرَاتٍ بَاطِلَةٍ وَعَقَائِدَ فَاسِدَةٍ ! وَمُتَمَثِّلَةٌ ثَانِيًا فِي الْمَصَالِحِ الْمَادِّيَّةِ الَّتِي تَتَحَقَّقُ لَهُمْ مِنْ وَرَاءِ هَذَا التَّزْيِينِ وَالِاسْتِهْوَاءِ لِجَمَاهِيرِ النَّاسِ ; وَهُوَ مَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ مِمَّا يَقْسِمُهُ هَؤُلَاءِ الْأَغْرَارُ الْمُغَفَّلُونَ لِلْآلِهَةِ ! . . وَأَمَّا مَصْلَحَةُ شَيَاطِينِ الْجِنِّ فَتَتَمَثَّلُ فِي نَجَاحِ الْإِغْوَاءِ وَالْوَسْوَسَةِ لِبَنِي آدَمَ حَتَّى يُفْسِدُوا عَلَيْهِمْ حَيَاتَهُمْ ، وَيُفْسِدُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ، وَيَقُودُوهُمْ ذُلُلًا إِلَى الدَّمَارِ فِي الدُّنْيَا وَالنَّارِ فِي الْآخِرَةِ !
وَهَذِهِ الصُّورَةُ الَّتِي كَانَتْ تَقَعُ فِي جَاهِلِيَّةِ الْعَرَبِ ، وَكَانَتْ تَقَعُ نَظَائِرُهَا فِي الْجَاهِلِيَّاتِ الْأُخْرَى : لِلْإِغْرِيقِ وَالْفُرْسِ
وَالرُّومَانِ ، وَالَّتِي مَا تَزَالُ تَقَعُ فِي
الْهِنْدِ وَإِفْرِيقِيَةَ وَآسْيَا . . . هَذِهِ الصُّوَرُ كُلُّهَا لَيْسَتْ إِلَّا صُوَرًا مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ لَا تَقْتَصِرُ عَلَيْهَا الْجَاهِلِيَّةُ ! فَالْجَاهِلِيَّةُ الْحَاضِرَةُ تَتَصَرَّفُ كَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ بِمَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ . وَعِنْدَئِذٍ تَلْتَقِي فِي الشِّرْكِ مَعَ تِلْكَ الْجَاهِلِيَّاتِ الْقَدِيمَةِ . تَلْتَقِي فِي الْأَصْلِ وَالْقَاعِدَةِ . فَالْجَاهِلِيَّةُ هِيَ كُلُّ وَضْعٍ يَتَصَرَّفُ فِي شُؤُونِ النَّاسِ بِغَيْرِ شَرِيعَةٍ مِنَ اللَّهِ . وَلَا عِبْرَةَ بَعْدَ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَشْكَالِ الَّتِي يَتَمَثَّلُ فِيهَا هَذَا التَّصَرُّفُ . . فَإِنْ هِيَ إِلَّا أَشْكَالٌ . .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=137وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ ، وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ . وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ . فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ .
يَقُولُ : وَكَمَا زَيَّنَ الشُّرَكَاءُ وَالشَّيَاطِينُ لَهُمْ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ فِي أَمْوَالِهِمْ كَذَلِكَ زَيَّنُوا لَهُمْ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ . . وَذَلِكَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ وَأْدِ الْبَنَاتِ خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ - أَوْ خَشْيَةَ السَّبْيِ وَالْعَارِ - وَمَنْ قَتْلِ بَعْضِ الْأَبْنَاءِ فِي النُّذُرِ لِلْآلِهَةِ كَالَّذِي رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِنْ نَذْرِهِ ذَبْحَ أَحَدِ وَلَدِهِ ، إِنْ رَزَقَهُ اللَّهُ بِعَشَرَةٍ مِنْهُمْ يَحْمُونَهُ وَيَمْنَعُونَهُ !
وَظَاهِرٌ أَنَّ هَذَا وَذَاكَ كَانَ يُوحِي بِهِ عُرْفُ الْجَاهِلِيَّةِ . الْعُرْفُ الَّذِي وَضَعَهُ النَّاسُ لِلنَّاسِ . وَالشُّرَكَاءُ الْمَذْكُورُونَ هُنَا هُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ . . مِنَ الْكَهَنَةِ وَالسَّدَنَةِ وَالرُّؤَسَاءِ مِنَ الْإِنْسِ ، وَمِنَ الْقُرَنَاءِ الْمُوَسْوِسِينَ مِنَ الْجِنِّ ، بِالتَّعَاوُنِ وَالْمُوَالَاةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ !
وَالنَّصُّ يُصَرِّحُ بِالْهَدَفِ الْكَامِنِ وَرَاءَ التَّزْيِينِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=137لِيُرْدُوهُمْ ، وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ .
[ ص: 1219 ] لِيُهْلِكُوهُمْ وَلِيَجْعَلُوا دِينَهُمْ عَلَيْهِمْ مُلْتَبِسًا غَامِضًا لَا يَقِفُونَ مِنْهُ عَلَى تَصَوُّرٍ وَاضِحٍ . . فَأَمَّا الْهَلَاكُ فَيَتَمَثَّلُ ابْتِدَاءً فِي قَتْلِهِمْ لِأَوْلَادِهِمْ ; وَيَتَمَثَّلُ أَخِيرًا فِي فَسَادِ الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ بِجُمْلَتِهَا ، وَصَيْرُورَةِ النَّاسِ مَاشِيَةً ضَالَّةً يُوَجِّهُهَا رُعَاتُهَا الْمُفْسِدُونَ حَيْثُمَا شَاءُوا ، وَفْقَ أَهْوَائِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ ! حَتَّى لَيَتَحَكَّمُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِالْقَتْلِ وَالْهَلَاكِ ، فَلَا تَجِدُ هَذِهِ الْغَنَمُ الضَّالَّةُ لَهَا مَفَرًّا مِنَ الْخُضُوعِ . لِأَنَّ التَّصَوُّرَاتِ الْمُتَلَبِّسَةَ بِالدِّينِ وَالْعَقِيدَةِ - وَمَا هِيَ مِنْهَا - بِكُلِّ ثِقَلِهَا وَعُمْقِهَا ، تَتَعَاوَنُ مَعَ الْعُرْفِ الِاجْتِمَاعِيِّ الْمُنْبَثِقِ مِنْهَا ، وَتُنْشِئُ ثِقْلًا سَاحِقًا لَا تَقِفُ لَهُ جَمَاهِيرُ النَّاسِ . مَا لَمْ تَعْتَصِمْ مِنْهُ بِدِينٍ وَاضِحٍ ; وَمَا لَمْ تَرْجِعْ فِي أَمْرِهَا كُلِّهِ إِلَى مِيزَانٍ ثَابِتٍ .
وَهَذِهِ التَّصَوُّرَاتُ الْمُبْهَمَةُ الْغَامِضَةُ ; وَهَذَا الْعُرْفُ الِاجْتِمَاعِيُّ الَّذِي يَنْبَثِقُ مِنْهَا ، وَيَضْغَطُ عَلَى جَمْهَرَةِ النَّاسِ بِثِقْلِهِ السَّاحِقِ . . لَا يَنْحَصِرُ فِي تِلْكَ الصُّوَرِ الَّتِي عَرَفَتْهَا الْجَاهِلِيَّاتُ الْقَدِيمَةُ . فَنَحْنُ نَشْهَدُهُ الْيَوْمَ بِصُورَةٍ أَوْضَحَ فِي الْجَاهِلِيَّاتِ الْحَدِيثَةِ . . هَذِهِ الْعَادَاتُ وَالتَّقَالِيدُ الَّتِي تُكَلِّفُ النَّاسَ الْعَنَتَ الشَّدِيدَ فِي حَيَاتِهِمْ ، ثُمَّ لَا يَجِدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْهَا مَفَرًّا . . هَذِهِ الْأَزْيَاءُ وَالْمَرَاسِمُ الَّتِي تَفْرِضُ نَفْسَهَا عَلَى النَّاسِ فَرْضًا ، وَتُكَلِّفُهُمْ أَحْيَانًا مَا لَا يُطِيقُونَ مِنَ النَّفَقَةِ ، وَتَأْكُلُ حَيَاتَهُمْ وَاهْتِمَامَاتِهِمْ ، ثُمَّ تُفْسِدُ أَخْلَاقَهُمْ وَحَيَاتَهُمْ . وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَمْلِكُونَ إِلَّا الْخُضُوعَ لَهَا . . أَزْيَاءُ الصَّبَاحِ ، وَأَزْيَاءُ بَعْدَ الظُّهْرِ ، وَأَزْيَاءُ الْمَسَاءِ . . الْأَزْيَاءُ الْقَصِيرَةُ ، وَالْأَزْيَاءُ الضَّيِّقَةُ ، وَالْأَزْيَاءُ الْمُضْحِكَةُ ! وَأَنْوَاعُ الزِّينَةِ وَالتَّجْمِيلِ وَالتَّصْفِيفِ . . . إِلَى آخِرِ هَذَا الِاسْتِرْقَاقِ الْمُذِلِّ . . مَنِ الَّذِي يَصْنَعُهُ وَمَنِ الَّذِي يَقِفُ وَرَاءَهُ؟ تَقِفُ وَرَاءَهُ بُيُوتُ الْأَزْيَاءِ . وَتَقِفُ وَرَاءَهُ شَرِكَاتُ الْإِنْتَاجِ ! وَيَقِفُ وَرَاءَهُ الْمُرَابُونَ فِي بُيُوتِ الْمَالِ وَالْبُنُوكِ مِنَ الَّذِينَ يُعْطُونَ أَمْوَالَهُمْ لِلصِّنَاعَاتِ لِيَأْخُذُوا هُمْ حَصِيلَةَ كَدِّهَا ! وَيَقِفُ وَرَاءَهُ الْيَهُودُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ لِتَدْمِيرِ الْبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا لِيَحْكُمُوهَا ! . . وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقِفُونَ بِالسِّلَاحِ الظَّاهِرِ وَالْجُنْدِ الْمَكْشُوفِ ، إِنَّمَا يَقِفُونَ بِالتَّصَوُّرَاتِ وَالْقِيَمِ الَّتِي يُنْشِئُونَهَا ، وَيُؤَصِّلُونَهَا بِنَظَرِيَّاتٍ وَثَقَافَاتٍ وَيُطْلِقُونَهَا تَضْغَطُ عَلَى النَّاسِ فِي صُورَةِ (عُرْفٍ اجْتِمَاعِيٍّ ) . فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ النَّظَرِيَّاتِ وَحْدَهَا لَا تَكْفِي مَا لَمْ تَتَمَثَّلْ فِي أَنْظِمَةِ حُكْمٍ ، وَأَوْضَاعِ مُجْتَمَعٍ ، وَفِي عُرْفٍ اجْتِمَاعِيٍّ غَامِضٍ لَا يُنَاقِشُهُ النَّاسُ ، لِأَنَّهُ مُلْتَبِسٌ عَلَيْهِمْ مُتَشَابِكَةٌ جُذُورُهُ وَفُرُوعُهُ !
إِنَّهُ فِعْلُ الشَّيَاطِينِ . . شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ . . وَإِنَّهَا الْجَاهِلِيَّةُ تَخْتَلِفُ أَشْكَالُهَا وَصُوَرُهَا ، وَتَتَّحِدُ جُذُورُهَا وَمَنَابِعُهَا ، وَتَتَمَاثَلُ قَوَائِمُهَا وَقَوَاعِدُهَا . .
وَإِنَّنَا لَنَبْخَسُ الْقُرْآنَ قَدْرَهُ ، إِذَا نَحْنُ قَرَأْنَاهُ وَفَهِمْنَاهُ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ عَنْ جَاهِلِيَّاتٍ كَانَتْ ! إِنَّمَا هُوَ حَدِيثٌ عَنْ شَتَّى الْجَاهِلِيَّاتِ فِي كُلِّ أَعْصَارِ الْحَيَاةِ . وَمُوَاجَهَةٌ لِلْوَاقِعِ الْمُنْحَرِفِ دَائِمًا وَرَدُّهُ إِلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ . .
وَمَعَ ضَخَامَةِ الْكَيْدِ ، وَثِقَلِ الْوَاقِعِ ، فَإِنَّ السِّيَاقَ الْقُرْآنِيَّ يُهَوِّنُ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَيَكْشِفُ عَنِ الْحَقِيقَةِ الْكُبْرَى الَّتِي قَدْ يَخْدَعُ عَنْهَا هَذَا الْجَانِبُ الظَّاهِرُ . . إِنَّ هَؤُلَاءِ الشَّيَاطِينَ وَأَوْلِيَاءَهُمْ لَفِي قَبْضَةِ اللَّهِ وَسُلْطَانِهِ . وَهُمْ لَا يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَهُ بِقُدْرَةٍ ذَاتِيَّةٍ فِيهِمْ . وَلَكِنْ بِتَرْكِ الْحَبْلِ مَمْدُودًا لَهُمْ قَلِيلًا ; بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَدْرِهِ ، تَحْقِيقًا لِحِكْمَةِ اللَّهِ فِي ابْتِلَاءِ عِبَادِهِ . وَلَوْ شَاءَ أَلَّا يَفْعَلُوهُ مَا فَعَلُوهُ . وَلَكِنَّهُ شَاءَ لِلِابْتِلَاءِ . فَلَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ . فَلْيَمْضُوا فِي طَرِيقِهِمْ وَلْيَدْعُوا لَهُ الشَّيَاطِينَ وَمَا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ وَمَا يَكِيدُونَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=137وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ . فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ . .
وَلَا بُدَّ أَنْ نَذْكُرَ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَجْرُؤُونَ عَلَى أَنْ يَقُولُوا : إِنَّ هَذِهِ التَّصَوُّرَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ . إِنَّمَا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ هُوَ شَرَعَهَا لَهُمْ . . يَنْسُبُونَهَا بِذَلِكَ إِلَى شَرِيعَةِ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ - بِزَعْمِهِمْ !
كَذَلِكَ يَفْعَلُ الشَّيَاطِينُ الْيَوْمَ فِي الْجَاهِلِيَّاتِ الْحَدِيثَةِ . . إِنَّ مُعْظَمَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَبَجَّحَ تَبَجُّحَ الشُّيُوعِيِّينَ الْمُلْحِدِينَ ;
[ ص: 1220 ] فَيَنْفِيَ وُجُودَ اللَّهِ جُمْلَةً وَيَتَنَكَّرَ لِلدِّينِ عَلَانِيَةً . إِنَّمَا يَلْجَأُ إِلَى نَفْسِ الْأُسْلُوبِ الَّذِي كَانَ يَلْجَأُ إِلَيْهِ الشَّيَاطِينُ فِي جَاهِلِيَّةِ
الْعَرَبِ ! يَقُولُونَ : إِنَّهُمْ يَحْتَرِمُونَ الدِّينَ ! وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَا يَشْرَعُونَهُ لِلنَّاسِ لَهُ أَصْلٌ مِنْ هَذَا الدِّينِ ! . . إِنَّهُ أُسْلُوبٌ أَلْأَمُ وَأَخْبَثُ مِنْ أُسْلُوبِ الشُّيُوعِيِّينَ الْمُلْحِدِينَ ! إِنَّهُ يُخَدِّرُ الْعَاطِفَةَ الدِّينِيَّةَ الْغَامِضَةَ الَّتِي لَا تَزَالُ تَعِيشُ فِي قَرَارَاتِ النُّفُوسِ - وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هِيَ الْإِسْلَامَ ، فَالْإِسْلَامُ مَنْهَجٌ وَاضِحٌ عَمَلِيٌّ وَاقِعٌ وَلَيْسَ هَذِهِ الْعَاطِفَةَ الْمُبْهَمَةَ الْغَامِضَةَ - وَيُفْرِغُ الطَّاقَةَ الْفِطْرِيَّةَ الدِّينِيَّةَ فِي قَوَالِبَ جَاهِلِيَّةٍ لَا إِسْلَامِيَّةٍ . وَهَذَا أَخْبَثُ الْكَيْدِ وَأَلْأَمُ الْأَسَالِيبِ !
ثُمَّ يَجِيءُ " الْمُتَحَمِّسُونَ " لِهَذَا الدِّينِ فَيُفْرِغُونَ جُهْدَهُمْ فِي اسْتِنْكَارِ جُزْئِيَّاتٍ هَزِيلَةٍ عَلَى هَامِشِ الْحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ ، لَا تَرُوقُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَوْضَاعِ الْجَاهِلِيَّةِ الْمُشْرِكَةِ ، الْمُغْتَصِبَةِ لِأُلُوهِيَّةِ اللَّهِ وَسُلْطَانِهِ بِالْجُمْلَةِ . وَبِهَذِهِ الْغَيْرَةِ الْغَبِيَّةِ يُسْبِغُونَ عَلَى هَذِهِ الْأَوْضَاعِ الْجَاهِلِيَّةِ الْمُشْرِكَةِ طَابَعَ الْإِسْلَامِ . وَيَشْهَدُونَ لَهَا شَهَادَةً ضِمْنِيَّةً خَطِيرَةً بِأَنَّهَا تَقُومُ عَلَى أَصْلٍ مِنَ الدِّينِ حَقًّا ، وَلَكِنَّهَا تُخَالِفُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ الْهَزِيلَةِ !
وَيُؤَدِّي هَؤُلَاءِ الْمُتَحَمِّسُونَ دَوْرَهُمْ لِتَثْبِيتِ هَذِهِ الْأَوْضَاعِ وَتَطْهِيرِهَا . وَهُوَ نَفْسُ الدَّوْرِ الَّذِي تُؤَدِّيهِ الْأَجْهِزَةُ الدِّينِيَّةُ الْمُحْتَرِفَةُ ، الَّتِي تَلْبَسُ مُسُوحَ الدِّينِ ! وَإِنْ كَانَ الْإِسْلَامُ بِالذَّاتِ لَا يَعْرِفُ الْمُسُوحَ وَلَا يَنْطِقُ بِاسْمِهِ كَاهِنٌ وَلَا سَادِنٌ !
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=138وَقَالُوا : هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ، لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ - بِزَعْمِهِمْ - وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا - افْتِرَاءً عَلَيْهِ - سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ . .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ : " وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى ذِكْرُهُ - عَنْ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ وَيُحَلِّلُونَ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَذِنَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ " .
وَالْحِجْرُ : الْحَرَامُ . . فَهَؤُلَاءِ الْمُعْتَدُونَ عَلَى سُلْطَانِ اللَّهِ ، الَّذِينَ يَدَّعُونَ - مَعَ ذَلِكَ - أَنَّ مَا يَشْرَعُونَهُ هُوَ شَرِيعَةُ اللَّهِ ، قَدْ عَمَدُوا إِلَى بَعْضِ الزُّرُوعِ وَبَعْضِ الْأَنْعَامِ ، فَعَزَلُوهَا لِآلِهَتِهِمْ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَقَالُوا : هَذِهِ الْأَنْعَامُ وَهَذِهِ الثِّمَارُ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ لَا يَطْعَمُونَهَا . لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ! - بِزَعْمِهِمْ ! - وَالَّذِي يُقَرِّرُ مَا يُقَرِّرُ فِي هَذَا الشَّأْنِ هُمْ بِطَبِيعَةِ الْحَالِ الْكَهَنَةُ وَالسَّدَنَةُ وَالرُّؤَسَاءُ ! وَعَمَدُوا إِلَى أَنْعَامٍ قِيلَ : إِنَّهَا هِيَ الْأَنْوَاعُ الْمُسَمَّاةُ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=103مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ فَجَعَلُوا ظُهُورَهَا حَرَامًا عَلَى الرُّكُوبِ . كَمَا عَمَدُوا إِلَى أَنْعَامٍ فَقَالُوا : هَذِهِ لَا يُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا عِنْدَ رُكُوبِهَا وَلَا عِنْدَ حَلْبِهَا ، وَلَا عِنْدَ ذَبْحِهَا . . إِنَّمَا تُذْكَرُ أَسْمَاءُ الْآلِهَةِ وَتُخْلَصُ لَهَا ! كُلُّ ذَلِكَ " افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ " !
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ : " وَأَمَّا قَوْلُهُ " افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ " فَإِنَّهُ يَقُولُ : فَعَلَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مَا فَعَلُوا مِنْ تَحْرِيمِهِمْ مَا حَرَّمُوا ، وَقَالُوا مَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ ، كَذِبًا عَلَى اللَّهِ ، وَتَخَرُّصًا بِالْبَاطِلِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُمْ أَضَافُوا مَا كَانُوا يُحَرِّمُونَ مِنْ ذَلِكَ ، عَلَى مَا وَصَفَهُ عَنْهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي كِتَابِهِ ، إِلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي حَرَّمَهُ ، فَنَفَى اللَّهُ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَأَكْذَبَهُمْ . وَأَخْبَرَ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ كَذَبَةٌ فِيمَا يَدَّعُونَ " .
وَهُنَا كَذَلِكَ تَبْدُو لَنَا أَسَالِيبُ الْجَاهِلِيَّةِ ، الَّتِي تَتَكَرَّرُ فِي مُعْظَمِ الْجَاهِلِيَّاتِ ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ التَّبَجُّحُ بِنَاسٍ مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يَقُولُوا بِمَادِّيَّةِ الْوُجُودِ ! وَقَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ التَّبَجُّحُ بِبَعْضِ مَنْ لَا يُنْكِرُونَ اللَّهَ أَلْبَتَّةَ ، أَنْ يَجْهَرُوا بِأَنَّ " الدِّينَ " مُجَرَّدُ " عَقِيدَةٍ " وَلَيْسَ نِظَامًا اجْتِمَاعِيًّا أَوِ اقْتِصَادِيًّا أَوْ سِيَاسِيًّا ، يُهَيْمِنُ عَلَى الْحَيَاةِ !
وَإِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نُدْرِكَ دَائِمًا أَنَّ أُسْلُوبَ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي تُقِيمُ نِظَامًا أَرْضِيًّا ، الْحَاكِمِيَّةُ فِيهِ لِلْبَشَرِ لَا لِلَّهِ ، ثُمَّ
[ ص: 1221 ] تَزْعُمُ أَنَّهَا تَحْتَرِمُ الدِّينَ وَتَسْتَمِدُّ مِنْهُ أَوْضَاعَهَا الْجَاهِلِيَّةَ . . أَنْ نُدْرِكَ أَنَّ هَذَا الْأُسْلُوبَ هُوَ أَخْبَثُ الْأَسَالِيبِ وَأَمْهَرُهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ ! وَلَقَدْ عَمَدَتِ الصَّلِيبِيَّةُ الْعَالَمِيَّةُ وَالصِّهْيُونِيَّةُ الْعَالَمِيَّةُ إِلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ فِي الْمِنْطَقَةِ الَّتِي كَانَتْ يَوْمًا دَارَ إِسْلَامٍ تَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ اللَّهِ . بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَهَا فَشَلُ التَّجْرِبَةِ التُّرْكِيَّةِ الَّتِي قَامَ بِهَا الْبَطَلُ الَّذِي صَنَعُوهُ هُنَاكَ ! . . لَقَدْ أَدَّتْ لَهُمْ هَذِهِ التَّجْرِبَةُ دَوْرًا هَامًّا فِي تَحْطِيمِ الْخِلَافَةِ كَآخِرِ مَظْهَرٍ لِلتَّجَمُّعِ الْإِسْلَامِيِّ فِي الْأَرْضِ ، وَلَكِنَّهَا بِعَلْمَانِيَّتِهَا السَّافِرَةِ قَدْ عَجَزَتْ عَنْ أَنْ تُكَوِّنَ نَمُوذَجًا يُؤَثِّرُ فِي بَقِيَّةِ الْمِنْطَقَةِ . لَقَدِ انْخَلَعَتْ مِنَ الدِّينِ ، فَأَصْبَحَتْ أَجْنَبِيَّةً عَنِ الْجَمِيعِ ، الَّذِينَ مَا يَزَالُ الدِّينُ عَاطِفَةً غَامِضَةً فِي قَرَارَاتِ نُفُوسِهِمْ . . وَمِنْ ثَمَّ عَمَدَتِ الصَّلِيبِيَّةُ الْعَالَمِيَّةُ وَالصِّهْيَوْنِيَّةُ فِي التَّجَارِبِ التَّالِيَةِ ، الَّتِي تَسْتَهْدِفُ نَفْسَ الْهَدَفِ ، أَنْ تَتَدَارَكَ غَلْطَةَ التَّجْرِبَةِ الْكَمَالِيَّةِ التُّرْكِيَّةِ . فَتَضَعَ عَلَى هَذِهِ التَّجَارِبِ سِتَارًا مِنَ الدِّينِ وَتُقِيمَ لَهُ أَجْهِزَةً دِينِيَّةً تُضْفِي عَلَيْهِ هَذِهِ الصِّفَةَ ، سَوَاءً بِالدَّعَايَةِ الْمُبَاشِرَةِ ; أَوْ بِاسْتِنْكَارِ جُزْئِيَّاتٍ هَزِيلَةٍ يُوهِمُ اسْتِنْكَارُهَا أَنَّ مَا عَدَاهَا سَلِيمٌ ! وَكَانَ هَذَا مِنْ أَخْبَثِ الْكَيْدِ الَّذِي تَكِيدُهُ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ لِهَذَا الدِّينِ . .
عَلَى أَنَّ الْأَجْهِزَةَ الصَّلِيبِيَّةَ وَالصِّهْيَوْنِيَّةَ الَّتِي تَعْمَلُ بِكُلِّ ثِقَلِهَا فِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ ، وَبِكُلِّ تَضَامُنِهَا وَتَجَمُّعِهَا ، وَبِكُلِّ تَجَارِبِهَا وَخِبْرَتِهَا ، تُحَاوِلُ أَنْ تَسْتَرِدَّ الْغَلْطَةَ فِي التَّجْرِبَةِ التُّرْكِيَّةِ ذَاتِهَا ، بِأَنْ تَزْعُمَ أَنَّ هَذِهِ التَّجْرِبَةَ ذَاتَهَا كَانَتْ حَرَكَةً مِنْ حَرَكَاتِ الْبَعْثِ الْإِسْلَامِيِّ ! وَأَنَّنَا يَجِبُ أَلَّا نُصَدِّقَهَا فِيمَا أَعْلَنَتْهُ عَنْ نَفْسِهَا مِنْ أَنَّهَا (عَلْمَانِيَّةٌ ) تَنْبِذُ الدِّينَ وَتَعْزِلُهُ عَنِ الْحَيَاةِ عَزْلًا !
وَيَجْهَدُ الْمُسْتَشْرِقُونَ (وَهُمُ الْأَدَاةُ الْفِكْرِيَّةُ لِلِاسْتِعْمَارِ الصَّلِيبِيِّ الصِّهْيَوْنِيِّ ) فِي تَطْهِيرِ التَّجْرِبَةِ الْكَمَالِيَّةِ مِنْ تُهْمَةِ الْإِلْحَادِ جَهْدًا كَبِيرًا . . ذَلِكَ أَنَّ انْكِشَافَ إِلْحَادِهَا جَعَلَهَا تُؤَدِّي دَوْرًا مَحْدُودًا . . وَهُوَ سَحْقُ آخِرِ مَظْهَرٍ لِلتَّجَمُّعِ الْإِسْلَامِيِّ فِي الْأَرْضِ . . وَلَكِنَّهَا عَجَزَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تُؤَدِّيَ الدَّوْرَ الْآخَرَ - الَّذِي تُحَاوِلُ أَنْ تُؤَدِّيَهُ التَّجَارِبُ التَّالِيَةُ فِي الْمِنْطَقَةِ - مِنْ تَفْرِيغِ الْمَفْهُومَاتِ الدِّينِيَّةِ وَالْحَمَاسَةِ الدِّينِيَّةِ فِي أَوْضَاعٍ وَأَشْكَالٍ جَاهِلِيَّةٍ ! وَمِنْ تَبْدِيلِ الدِّينِ بِاسْمِ الدِّينِ ! وَمِنْ إِفْسَادِ الْخُلُقِ وَالْمُقَوِّمَاتِ الْفِطْرِيَّةِ الْأَصِيلَةِ بِاسْمِ الدِّينِ أَيْضًا . وَمِنْ إِلْبَاسِ الْجَاهِلِيَّةِ ثَوْبَ الْإِسْلَامِ لِتُؤَدِّيَ بِهِ دَوْرَهَا فِي كُلِّ الْبِقَاعِ الَّتِي مَا يَزَالُ فِيهَا عَاطِفَةٌ دِينِيَّةٌ غَامِضَةٌ ; وَقِيَادَتِهَا بِهَذَا الْخِطَامِ الْمُزَوَّرِ الْخَادِعِ إِلَى مَحَاضِنِ الصَّلِيبِيَّةِ وَالصِّهْيَوْنِيَّةِ . . الْأَمْرُ الَّذِي عَجَزَتْ عَنْهُ الْحَمَلَاتُ الصَّلِيبِيَّةُ وَالصِّهْيَوْنِيَّةُ طَوَالَ أَلْفٍ وَثَلَاثِ مِائَةِ عَامٍ ، مِنَ الْكَيْدِ لِلْإِسْلَامِ ! . .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=138سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ . .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=139وَقَالُوا : مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا ، وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ . سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ، إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ . .
لَقَدِ اسْتَطْرَدُوا فِي أَوْهَامِ التَّصَوُّرَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ ، النَّابِعَةِ مِنِ انْحِرَافَاتِ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ ، وَمِنْ تَرْكِ أَمْرِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ لِلرِّجَالِ ; مَعَ الِادِّعَاءِ بِأَنَّ مَا يَشْرَعُهُ الرِّجَالُ هُوَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ . اسْتَطْرَدُوا فِي هَذِهِ الْأَوْهَامِ فَقَالُوا عَنِ الْأَجِنَّةِ الَّتِي فِي بُطُونِ بَعْضِ الْأَنْعَامِ - وَلَعَلَّهَا تِلْكَ الْمُسَمَّاةُ الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ وَالْوَصِيلَةَ - إِنَّهَا خَالِصَةٌ لِلذُّكُورِ مِنْهُمْ حِينَ تُنْتَجُ ، مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْإِنَاثِ ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ مَيْتَةً فَيُشَارِكُ فِيهَا الْإِنَاثُ الذُّكُورَ . . هَكَذَا بِلَا سَبَبٍ وَلَا دَلِيلٍ وَلَا تَعْلِيلٍ ، إِلَّا أَهْوَاءَ الرِّجَالِ الَّتِي يَصُوغُونَ مِنْهَا دِينًا غَامِضًا مُلْتَبِسًا فِي الْأَفْهَامِ .
وَيُعَقِّبُ السِّيَاقُ الْقُرْآنِيُّ تَعْقِيبَ التَّهْدِيدِ ; لِمَنْ صَاغُوا هَذِهِ الشَّرَائِعَ وَكَذَبُوا عَلَى اللَّهِ فَوَصَفُوهَا بِأَنَّهَا مِنْ شَرْعِ اللَّهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=139سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ . .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=139إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ . .
[ ص: 1222 ] يَعْلَمُ حَقَائِقَ الْأَحْوَالِ ، وَيَتَصَرَّفُ فِيهَا بِحِكْمَةٍ ، لَا كَمَا يَتَصَرَّفُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الْجُهَّالُ .
وَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَعْجَبُ ، وَهُوَ يَسْتَعْرِضُ مَعَ السِّيَاقِ الْقُرْآنِيِّ هَذِهِ الضَّلَالَاتِ ، وَمَا تُحَمِّلُهُ أَصْحَابَهَا مِنْ أَعْبَاءٍ وَخَسَائِرَ وَتَضْحِيَاتٍ . . يَعْجَبُ لِتَكَالِيفِ الِانْحِرَافِ عَنْ شَرْعِ اللَّهِ وَنَهْجِهِ ، تِلْكَ الَّتِي يَتَحَمَّلُهَا الْمُنْحَرِفُونَ عَنْ صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ . وَلِأَثْقَالِ الْخُرَافَةِ وَالْغُمُوضِ وَالَوَهَمِ الَّتِي يَتَّبِعُهَا الضَّالُّونَ . وَلِأَغْلَالِ الْعَقِيدَةِ الْفَاسِدَةِ فِي الْمُجْتَمَعِ وَالضَّمِيرِ . . نَعَمْ يَعْجَبُ لِلْعَقِيدَةِ الْمُنْحَرِفَةِ تُكَلِّفُ النَّاسَ حَتَّى فِلْذَاتِ أَكْبَادِهِمْ ، فَوْقَ مَا تُكَلِّفُهُمْ مِنْ تَعْقِيدِ الْحَيَاةِ وَاضْطِرَابِهَا ، وَالسَّيْرِ فِيهَا بِلَا ضَابِطٍ ، سِوَى الْوَهَمِ وَالْهَوَى وَالتَّقْلِيدِ . وَأَمَامَهُمُ التَّوْحِيدُ الْبَسِيطُ الْوَاضِحُ ; يُطْلِقُ الضَّمِيرَ الْبَشَرِيَّ مِنْ أَوْهَامِ الْوَهَمِ وَالْخُرَافَةِ ; وَيُطْلِقُ الْعَقْلَ الْبَشَرِيَّ مِنْ عِقَالِ التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى ; وَيُطْلِقُ الْمُجْتَمَعَ الْبَشَرِيَّ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَكَالِيفِهَا ; وَيُطْلِقُ " الْإِنْسَانَ " مِنَ الْعُبُودِيَّةِ لِلْعَبِيدِ - سَوَاءٌ فِيمَا يَشْتَرِعُونَهُ مِنْ قَوَانِينَ ، وَمَا يَصْنَعُونَهُ مِنْ قِيَمٍ وَمَوَازِينَ - وَيُحِلُّ مَحِلَّ هَذَا كُلِّهِ عَقِيدَةً وَاضِحَةً مَفْهُومَةً مَضْبُوطَةً ، وَتَصَوُّرًا وَاضِحًا مُيَسَّرًا مُرِيحًا ، وَرُؤْيَةً لِحَقَائِقِ الْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ كَامِلَةً عَمِيقَةً ، وَانْطِلَاقًا مِنَ الْعُبُودِيَّةِ لِلْعَبِيدِ ، وَارْتِفَاعًا إِلَى
nindex.php?page=treesubj&link=28662_28666مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ . . الْمَقَامُ الَّذِي لَا يَرْتَقِي إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِهِ إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ !
أَلَا إِنَّهَا الْخَسَارَةُ الْفَادِحَةُ - هُنَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ - حِينَ تَنْحَرِفُ الْبَشَرِيَّةُ عَنْ صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ ; وَتَتَرَدَّى فِي حَمْأَةِ الْجَاهِلِيَّةِ ; وَتَرْجِعُ إِلَى الْعُبُودِيَّةِ الذَّلِيلَةِ لِأَرْبَابٍ مِنَ الْعَبِيدِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=140قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ - سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ - وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ - افْتِرَاءً عَلَى اللَّهُ - قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ . .
خَسِرُوا الْخَسَارَةَ الْمُطْلَقَةَ . خَسِرُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَخَسِرُوا أَوْلَادَهُمْ . خَسِرُوا عُقُولَهُمْ وَخَسِرُوا أَرْوَاحَهُمْ . خَسِرُوا الْكَرَامَةَ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُمْ بِإِطْلَاقِهِمْ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ لِغَيْرِهِ ; وَأَسْلَمُوا أَنْفُسَهُمْ لِرُبُوبِيَّةِ الْعَبِيدِ ; حِينَ أَسْلَمُوهَا لِحَاكِمِيَّةِ الْعَبِيدِ ! وَقَبْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ خَسِرُوا الْهُدَى بِخَسَارَةِ الْعَقِيدَةِ ، خَسِرُوا الْخَسَارَةَ الْمُؤَكَّدَةَ ، وَضَلُّوا الضَّلَالَ الَّذِي لَا هِدَايَةَ فِيهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=140قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ .