الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده . .

                                                                                                                                                                                                                                      واليتيم ضعيف في الجماعة ، بفقده الوالد الحامي والمربي . ومن ثم يقع ضعفه على الجماعة المسلمة - على أساس التكافل الاجتماعي الذي يجعله الإسلام قاعدة نظامه الاجتماعي - وكان اليتيم ضائعا في المجتمع العربي في الجاهلية . وكثرة التوجيهات الواردة في القرآن وتنوعها وعنفها أحيانا تشي بما كان فاشيا في ذلك المجتمع من ضيعة اليتيم فيه ; حتى انتدب الله يتيما كريما فيه ; فعهد إليه بأشرف مهمة في الوجود . حين عهد إليه بالرسالة إلى الناس كافة ، وجعل من آداب هذا الدين الذي بعثه به رعاية اليتيم وكفالته على النحو الذي نرى منه هذا التوجيه :

                                                                                                                                                                                                                                      ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده .

                                                                                                                                                                                                                                      فعلى من يتولى اليتيم ألا يقرب ماله إلا بالطريقة التي هي أحسن لليتيم . فيصونه وينميه ، حتى يسلمه له كاملا ناميا عند بلوغه أشده . أي اشتداد قوته الجسمية والعقلية . ليحمي ماله ، ويحسن القيام عليه . وبذلك [ ص: 1233 ] تكون الجماعة قد أضافت إليها عضوا نافعا ; وسلمته حقه كاملا .

                                                                                                                                                                                                                                      وهناك خلاف فقهي حول سن الرشد أو بلوغ الأشد . . عند عبد الرحمن بن زيد وعند مالك ، بلوغ الحلم . وعند أبي حنيفة خمسة وعشرون عاما . وعند السدي ثلاثون ، وعند أهل المدينة بلوغ الحلم وظهور الرشد معا بدون تحديد .

                                                                                                                                                                                                                                      وأوفوا الكيل والميزان بالقسط - لا نكلف نفسا إلا وسعها - .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه في المبادلات التجارية بين الناس في حدود طاقة التحري والإنصاف . والسياق يربطها بالعقيدة ; لأن المعاملات في هذا الدين وثيقة الارتباط بالعقيدة . والذي يوصي بها ويأمر هو الله . ومن هنا ترتبط بقضية الألوهية والعبودية ، وتذكر في هذا المعرض الذي يبرز فيه شأن العقيدة ، وعلاقتها بكل جوانب الحياة . .

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد كانت الجاهليات - كما هي اليوم - تفصل بين العقيدة والعبادات ، وبين الشرائع والمعاملات . . من ذلك ما حكاه القرآن الكريم عن قوم شعيب : قالوا : يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ؟ !

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم يربط السياق القرآني بين قواعد التعامل في المال والتجارة والبيع والشراء ، وبين هذا المعرض الخاص بالعقيدة ، للدلالة على طبيعة هذا الدين ، وتسويته بين العقيدة والشريعة ، وبين العبادة والمعاملة ، في أنها كلها من مقومات هذا الدين ، المرتبطة كلها في كيانه الأصيل .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى . .

                                                                                                                                                                                                                                      وهنا يرتفع الإسلام بالضمير البشري - وقد ربطه بالله ابتداء - إلى مستوى سامق رفيع ، على هدى من العقيدة في الله ومراقبته . . فهنا مزلة من مزلات الضعف البشري . الضعف الذي يجعل شعور الفرد بالقرابة هو شعور التناصر والتكامل والامتداد ; بما أنه ضعيف ناقص محدود الأجل ; وفي قوة القرابة سند لضعفه ; وفي سعة رقعتها كمال لوجوده ، وفي امتدادها جيلا بعد جيل ضمان لامتداده ! ومن ثم يجعله ضعيفا تجاه قرابته حين يقف موقف الشهادة لهم أو عليهم ، أو القضاء بينهم وبين الناس . . وهنا في هذه المزلة يأخذ الإسلام بيد الضمير البشري ليقول كلمة الحق والعدل ، على هدى من الاعتصام بالله وحده ، ومراقبة الله وحده ، اكتفاء به من مناصرة ذوي القربى ، وتقوى له من الوفاء بحق القرابة دون حقه ; وهو - سبحانه - أقرب إلى المرء من حبل الوريد . .

                                                                                                                                                                                                                                      لذلك يعقب على هذا الأمر - وعلى الوصايا التي قبله - مذكرا بعهد الله :

                                                                                                                                                                                                                                      وبعهد الله أوفوا . .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن عهد الله قولة الحق والعدل ولو كان ذا قربى . ومن عهد الله توفية الكيل والميزان بالقسط . ومن عهد الله ألا يقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن . ومن عهد الله حرمة النفس إلا بالحق . . وقبل ذلك كله . . من عهد الله ألا يشركوا به شيئا . فهذا هو العهد الأكبر ، المأخوذ على فطرة البشر ، بحكم خلقتها متصلة بمبدعها ، شاعرة بوجوده في النواميس التي تحكمها من داخلها كما تحكم الكون من حولها .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يجيء التعقيب القرآني في موضعه بعد التكاليف :

                                                                                                                                                                                                                                      ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون . .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1234 ] والذكر ضد الغفلة . والقلب الذاكر غير الغافل ، وهو يذكر عهد الله كله ، ويذكر وصاياه المرتبطة بهذا العهد ولا ينساها .

                                                                                                                                                                                                                                      . . . هذه القواعد الأساسية الواضحة التي تكاد تلخص العقيدة الإسلامية وشريعتها الاجتماعية مبدوءة بتوحيد الله ومختومة بعهد الله ، وما سبقها من حديث الحاكمية والتشريع . . . هذه هي صراط الله المستقيم . . صراطه الذي ليس وراءه إلا السبل المتفرقة عن السبيل :

                                                                                                                                                                                                                                      وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله . . ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون . .

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا يختم القطاع الطويل من السورة الذي بدأ بقوله تعالى :

                                                                                                                                                                                                                                      أفغير الله أبتغي حكما ، وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا . .

                                                                                                                                                                                                                                      وانتهى هذه النهاية ، بهذا الإيقاع العريض العميق . .

                                                                                                                                                                                                                                      وضم بين المطلع والختام قضية الحاكمية والتشريع ، كما تبدو في مسألة الزروع والأنعام ، والذبائح والنذور ، إلى كل القضايا العقيدية الأساسية ، ليدل على أنها من هذه القضايا . التي أفرد لها السياق القرآني كل هذه المساحة ; وربطها بكل محتويات السورة السابقة التي تتحدث عن العقيدة في محيطها الشامل ; وتتناول قضية الألوهية والعبودية ذلك التناول الفريد .

                                                                                                                                                                                                                                      إنه صراط واحد - صراط الله - وسبيل واحدة تؤدي إلى الله . . أن يفرد الناس الله - سبحانه - بالربوبية ، ويدينوا له وحده بالعبودية ; وأن يعلموا أن الحاكمية لله وحده ; وأن يدينوا لهذه الحاكمية في حياتهم الواقعية . .

                                                                                                                                                                                                                                      هذا هو صراط الله ; وهذا هو سبيله . . وليس وراءه إلا السبل التي تتفرق بمن يسلكونها عن سبيله .

                                                                                                                                                                                                                                      ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون . .

                                                                                                                                                                                                                                      فالتقوى هي مناط الاعتقاد والعمل . والتقوى هي التي تفيء بالقلوب إلى السبيل . .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية