الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن ، وتفصيلا لكل شيء ، وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون . .

                                                                                                                                                                                                                                      هذا الكلام معطوف بثم على ما قبله . . وتأويله : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا . . وأن هذا صراطي مستقيما . . معطوفة على جملة : ألا تشركوا . . ثم آتينا موسى الكتاب . . معطوف عليهما كذلك باعتباره من القول الذي دعاهم ليقوله لهم - صلى الله عليه وسلم - فالسياق مطرد كما أسلفنا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تماما على الذي أحسن . . تأويله - كما اختار ابن جرير - : ثم آتينا موسى التوراة تماما لنعمنا عنده ، وأيادينا قبله ، تتم به كرامتنا عليه ، على إحسانه وطاعته ربه ، وقيامه بما كلفه من شرائع دينه ، وتبيينا لكل ما بقومه وأتباعه إليه الحاجة من أمر دينهم . .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وتفصيلا لكل شيء . كما قال قتادة : فيه حلاله وحرامه .

                                                                                                                                                                                                                                      وهدى ورحمة لعل قومه يهتدون ويؤمنون بلقاء ربهم فيرحمهم من عذابه . .

                                                                                                                                                                                                                                      . . هذا الغرض الذي من أجله آتينا موسى الكتاب ، جاء من أجله كتابكم ، لعلكم تنالون به الهدى والرحمة :

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا كتاب أنزلناه مبارك ، فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون . .

                                                                                                                                                                                                                                      وإنه لكتاب مبارك حقا - كما فسرنا ذلك من قبل عند ورود هذا النص في السورة أول مرة : وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ، ولتنذر أم القرى ومن حولها ، والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ، وهم على صلاتهم يحافظون . . (الآية : 92 ) . . وكان ذكر هذا الكتاب هناك بمناسبة الحديث عن العقيدة في مجالها الشامل ; وهو هنا يذكر بمناسبة الحديث عن الشريعة بنص مقارب ! ويؤمرون باتباعه ; وتناط رحمتهم من الله بهذا الاتباع . والكلام هنا بجملته في معرض الشريعة ، بعد ما تناولته أوائل السورة في معرض العقيدة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1238 ] وقد بطلت حجتكم ، وسقطت معذرتكم ، بتنزيل هذا الكتاب المبارك إليكم ، تفصيلا لكل شيء . بحيث لا تحتاجون إلى مرجع آخر وراءه ; وبحيث لا يبقى جانب من جوانب الحياة لم يتناوله فتحتاجون أن تشرعوا له من عند أنفسكم :

                                                                                                                                                                                                                                      أن تقولوا : إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا . وإن كنا عن دراستهم لغافلين . أو تقولوا : لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم . فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة . فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها؟ سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون . .

                                                                                                                                                                                                                                      لقد شاء الله سبحانه أن يرسل كل رسول إلى قومه بلسانهم . . حتى إذا كانت الرسالة الأخيرة أرسل الله محمدا خاتم النبيين للناس كافة . فهو آخر رسول من الله للبشر ، فناسب أن يكون رسولا إليهم أجمعين .

                                                                                                                                                                                                                                      والله - سبحانه - يقطع الحجة على العرب أن يقولوا : إن كلا من موسى وعيسى إنما أرسلا إلى قومهما . ونحن كنا غافلين عن دراستهم لكتابهم ، لا علم لنا به ولا اهتمام . ولو جاء إلينا كتاب بلغتنا ، يخاطبنا وينذرنا لكنا أهدى من أهل الكتاب . . فقد جاءهم هذا الكتاب وجاءهم رسول منهم - وإن كان رسولا للناس أجمعين - وجاءهم بكتاب هو بينة في ذاته على صدقه . وهو يحمل إليهم حقائق بينة كذلك لا لبس فيها ولا غموض . وهو هدى لما هم فيه من ضلالة ، ورحمة لهم في الدنيا والآخرة . .

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا كان ذلك كذلك ، فمن أشد ظلما ممن كذب بآيات الله وأعرض عنها وهي تدعوه إلى الهدى والصلاح والفلاح؟ من أشد ظلما لنفسه وللناس بصده لنفسه وللناس عن هذا الخير العظيم ، وبإفساده في الأرض بتصورات الجاهلية وتشريعاتها . . إن الذين يعرضون عن هذا الحق في طبعهم آفة تميلهم عنه ; كالآفة التي تكون في خف البعير فتجعله يصدف - أي يميل - بجسمه ولا يستقيم ! إنهم " يصدفون " عن الحق والاستقامة ، كما يصدف البعير المريض عن الاعتدال والاستقامة ! وهم مستحقون سوء العذاب بصدوفهم هذا وميلهم :

                                                                                                                                                                                                                                      سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون . .

                                                                                                                                                                                                                                      إن التعبير القرآني يستخدم مثل هذا اللفظ ، المنقول في اللغة من حالة حسية إلى حالة معنوية ليستصحب في الحس أصل المعنى . . فيستخدم هنا لفظ " يصدف " وقد عرفنا أنه من صدف البعير إذا مال بخفه ولم يعتدل لمرض فيه ! كذلك يستخدم لفظ " يصعر خده " وهو مأخوذ من داء الصعر الذي يصيب الإبل - كما يصيب الناس - فتعرض صفحة خدها ، اضطرارا ، ولا تملك أن تحرك عنقها بيسر ، ومثله استخدام لفظ " حبطت أعمالهم " . . من حبطت الناقة إذا رعت نباتا مسموما فانتفخ بطنها ثم ماتت ! ومثلها كثير . .

                                                                                                                                                                                                                                      ويمضي في هذا التهديد خطوة أخرى ، للرد على ما كانوا يطلبونه من الآيات والخوارق حتى يصدقوا بهذا الكتاب . . وقد مضى مثل ذلك التهديد في أوائل السورة عند ما كانت المناسبة هناك مناسبة التكذيب بحقيقة الاعتقاد . وهو يتكرر هنا ، والمناسبة الحاضرة هي مناسبة الإعراض عن الاتباع والتقيد بشريعة الله : فقد جاء في أول السورة : وقالوا : لولا أنزل عليه ملك ! ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون . . وجاء هنا في آخرها :

                                                                                                                                                                                                                                      هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك ، أو يأتي بعض آيات ربك؟ يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا : قل : انتظروا إنا منتظرون . .

                                                                                                                                                                                                                                      إنه التهديد الواضح الحاسم . فقد مضت سنة الله بأن يكون عذاب الاستئصال حتما إذا جاءت الخارقة [ ص: 1239 ] ثم لم يؤمن بها المكذبون . . والله سبحانه يقول لهم : إن ما طلبوه من الخوارق لو جاءهم بعضه لقضي عليهم بعده . . وإنه يوم تأتي بعض آيات الله تكون الخاتمة التي لا ينفع بعدها إيمان ولا عمل . . لنفس لم تؤمن من قبل ، ولم تكسب عملا صالحا في إيمانها . فالعمل الصالح هو دائما قرين الإيمان وترجمته في ميزان الإسلام .

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد ورد في روايات متعددة أن المقصود بقوله تعالى : يوم يأتي بعض آيات ربك هو أشراط الساعة وعلاماتها ، التي لا ينفع بعدها إيمان ولا عمل . وعدوا من ذلك أشراطا بعينها . . ولكن تأويل الآية على وفق السنة الجارية في هذه الحياة أولى . فقد سبق مثله في أول السورة ، وهو قوله تعالى : وقالوا لولا أنزل عليه ملك ، ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون . . والملاحظ أن السياق يكرر وهو بصدد الكلام عن الشريعة والحاكمية ، ما جاء مثله من قبل وهو بصدد الكلام عن الإيمان والعقيدة ، وأن هذا ملحوظ ومقصود ، لتقرير حقيقة بعينها . فأولى أن نحمل هذا الذي في آخر السورة على ما جاء من مثله في أولها من تقرير سنة الله الجارية . وهو كاف في التأويل ، بدون الالتجاء إلى الإحالة على ذلك الغيب المجهول . .

                                                                                                                                                                                                                                      بعد ذلك يلتفت السياق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليفرده وحده بدينه وشريعته ومنهجه وطريقه عن كل الملل والنحل والشيع القائمة في الأرض - بما فيها ملة المشركين العرب - :

                                                                                                                                                                                                                                      إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء . إنما أمرهم إلى الله ، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون . .

                                                                                                                                                                                                                                      إنه مفرق الطريق بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودينه وشريعته ومنهجه كله وبين سائر الملل والنحل . . سواء من المشركين الذين كانت تمزقهم أوهام الجاهلية وتقاليدها وعاداتها وثاراتها ، شيعا وفرقا وقبائل وعشائر وبطونا . أو من اليهود والنصارى ممن قسمتهم الخلافات المذهبية مللا ونحلا ومعسكرات ودولا . أو من غيرهم مما كان وما سيكون من مذاهب ونظريات وتصورات ومعتقدات وأوضاع وأنظمة إلى يوم الدين .

                                                                                                                                                                                                                                      إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس من هؤلاء كلهم في شيء . . إن دينه هو الإسلام وشريعته هي التي في كتاب الله ; ومنهجه هو منهجه المستقل المتفرد المتميز . . وما يمكن أن يختلط هذا الدين بغيره من المعتقدات والتصورات ; ولا أن تختلط شريعته ونظامه بغيره من المذاهب والأوضاع والنظريات . . وما يمكن أن يكون هناك وصفان اثنان لأي شريعة أو أي وضع أو أي نظام . . إسلامي . . وشيء آخر . . ! ! ! إن الإسلام إسلام فحسب . والشريعة الإسلامية شريعة إسلامية فحسب . والنظام الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي الإسلامي إسلامي فحسب . . ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس في شيء على الإطلاق من هذا كله إلى آخر الزمان !

                                                                                                                                                                                                                                      إن الوقفة الأولى للمسلم أمام أية عقيدة ليست هي الإسلام هي وقفة المفارقة والرفض منذ اللحظة الأولى . وكذلك وقفته أمام أي شرع أو نظام أو وضع ليست الحاكمية فيه لله وحده - وبالتعبير الآخر : ليست الألوهية والربوبية فيه لله وحده - إنها وقفة الرفض والتبرؤ منذ اللحظة الأولى . . قبل الدخول في أية محاولة للبحث عن مشابهات أو مخالفات بين شيء من هذا كله وبين ما في الإسلام !

                                                                                                                                                                                                                                      إن الدين عند الله الإسلام . . ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس في شيء ممن فرقوا الدين فلم يلتقوا فيه على الإسلام .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1240 ] وإن الدين عند الله هو المنهج والشرع . . ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس في شيء ممن يتخذون غير منهج الله منهجا ، وغير شريعة الله شرعا . .

                                                                                                                                                                                                                                      الأمر هكذا جملة . وللنظرة الأولى . بدون دخول في التفصيلات !

                                                                                                                                                                                                                                      وأمر هؤلاء الذين فرقوا دينهم شيعا ، وبرئ منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحكم من الله تعالى . . أمرهم بعد ذلك إلى الله ; وهو محاسبهم على ما كانوا يفعلون :

                                                                                                                                                                                                                                      إنما أمرهم إلى الله ، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون . .

                                                                                                                                                                                                                                      وبمناسبة الحساب والجزاء قرر الله سبحانه ما كتبه على نفسه من الرحمة في حساب عباده . فجعل لمن جاء بالحسنة وهو مؤمن - فليس مع الكفر من حسنة ! - فله عشر أمثالها . ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ; لا يظلم ربك أحدا ولا يبخسه حقه :

                                                                                                                                                                                                                                      من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها . ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها . وهم لا يظلمون . .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية