الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين

قوله تعالى "فعقروا"؛ يقتضي - بتشريكهم جميعا في الضمير - أن عقر الناقة كان [ ص: 605 ] على تمالؤ منهم؛ وإصفاق؛ وكذلك روي أن قدارا لم يعقرها حتى كان يستشير الرجال؛ والنساء؛ والصبيان؛ فلما أجمعوا تعاطى فعقر.

و"وعتوا"؛ معناه: خشوا؛ وصلبوا؛ ولم يذعنوا للأمر والشرع؛ وصمموا على تكذيبه؛ واستعجلوا النقمة بقولهم: ائتنا بما تعدنا ؛ وحسن الوعد في هذا الموضع لما تقيد بأنه عذاب.

قال أبو حاتم : قرأ عيسى وعاصم : "إيتنا"؛ بهمز؛ وإشباع ضم؛ وقرأ بتخفيف الهمزة كأنها ياء في اللفظ أبو عمرو والأعمش .

و"الرجفة"؛ ما تؤثره الصيحة أو الطامة التي يرجف بها الإنسان؛ وهو أن يتزعزع؛ ويتحرك؛ ويضطرب؛ ويرتعد؛ ومنه قول خديجة - رضي الله عنها -: "فرجع بها رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - يرجف فؤاده"؛ ومنه قول الأخطل :


إما تريني حناني الشيب من كبر ... كالنسر أرجف والإنسان ممدود



ومنه "إرجاف النفوس"؛ لكريه الأخبار؛ أي تحريكها؛ وروي أن صيحة ثمود كان فيها من صوت كل شيء هائل الصوت؛ وكانت مفرطة؛ شقت قلوبهم؛ فجثوا على صدورهم؛ و"الجاثم": اللاطئ بالأرض على صدره؛ مع قبض ساقيه؛ كما يرقد الأرنب والطير؛ فإن جثومها على وجهها؛ ومنه قول جرير :


عرفت المنتأى وعرفت منها ...     مطايا القدر كالحدإ الجثوم



[ ص: 606 ] وقال بعض المفسرين: معناه: حمما محترقين كالرماد الجاثم.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وحيث وجد الرماد الجاثم في شعر؛ فإنما هو مستعار لهيئة الرماد قبل هموده؛ وتفرقه؛ وذهب صاحب هذا القول إلى أن الصيحة اقترن بها صواعق محرقة.

وأخبر الله - عز وجل - بفعل صالح في توليه عنهم وقت عقرهم الناقة؛ وقولهم: ائتنا بما تعدنا ؛ وذلك قبل نزول العذاب؛ وكذلك روي أنه - عليه الصلاة والسلام - خرج من بين أظهرهم قبل نزول العذاب؛ وهو الذي تقتضيه مخاطبته لهم؛ وأما لفظ الآية؛ فيحتمل أن خاطبهم وهم موتى؛ على جهة التفجع عليهم؛ وذكر حالهم؛ أو غير ذلك؛ كما خاطب رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - أهل قليب بدر؛ قال الطبري : وقيل: لم تهلك أمة ونبيها معها؛ وروي أنه ارتحل - عليه السلام - بمن معه؛ حتى جاء مكة؛ فأقام بها حتى مات؛ ولفظة التولي تقتضي اليأس من خيرهم؛ واليقين في إهلاكهم.

وقوله: لا تحبون الناصحين ؛ عبارة عن تغليبهم الشهوات على الرأي؛ إذ كلام الناصح صعب؛ مضاد لشهوة نفس الذي ينصح؛ ولذلك تقول العرب: "أمر مبكياتك؛ لا أمر مضحكاتك".

التالي السابق


الخدمات العلمية