الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل السابع في أحكام كفارة الظهار

والنظر في كفارة الظهار في أشياء منها في عدد أنواع الكفارة وترتيبها ، وشروط نوع منها ( أعني : الشروط المصححة ) ، ومتى تجب كفارة واحدة ؟ ومتى تجب أكثر من واحدة ؟

فأما أنواعها : فإنهم أجمعوا على أنها ثلاثة أنواع : إعتاق رقبة ، أو صيام شهرين ، أو إطعام ستين مسكينا ، وأنها على الترتيب . فالإعتاق أولا ، فإن لم يكن فالصيام ، فإن لم يكن فالإطعام ، هذا في الحر . واختلفوا في العبد يكفر بالعتق أو بالإطعام ؟ بعد اتفاقهم أن الذي يبدأ به الصيام ( أعني : إذا عجز عن الصيام ) ، فأجاز للعبد العتق - إن أذن له سيده - أبو ثور ، وداود ، وأبى ذلك سائر العلماء . وأما الإطعام ، فأجازه له مالك إن أطعم بإذن سيده ، ولم يجز ذلك أبو حنيفة ، والشافعي ، ومبنى الخلاف في هذه المسألة : هل يملك العبد ، أو لا يملك ؟

وأما اختلافهم في الشروط المصححة : فمنها اختلافهم إذا وطئ في صيام الشهرين ، هل عليه استئناف الصيام أم لا ؟ فقال مالك ، وأبو حنيفة : يستأنف الصيام ، إلا أن أبا حنيفة شرط في ذلك العمد ، ولم يفرق مالك بين العمد في ذلك ، والنسيان ; وقال الشافعي : لا يستأنف على حال . [ ص: 485 ] وسبب الخلاف تشبيه كفارة الظهار بكفارة اليمين ، والشرط الذي ورد في كفارة الظهار ( أعني : أن تكون قبل المسيس ) ; فمن اعتبر هذا الشرط قال : يستأنف الصوم ، ومن شبهه بكفارة اليمين قال : لا يستأنف ؛ لأن الكفارة في اليمين ترفع الحنث بعد وقوعه باتفاق .

ومنها : هل من شرط الرقبة أن تكون مؤمنة أم لا ؟ فذهب مالك ، والشافعي إلى أن ذلك شرط في الإجزاء ; وقال أبو حنيفة : يجزي في ذلك رقبة الكافر ، ولا يجزي عندهم إعتاق الوثنية ، والمرتدة . دليل الفريق الأول أنه إعتاق على وجه القربة ، فوجب أن تكون مسلمة ، أصله الإعتاق في كفارة القتل; وربما قالوا إن هذا ليس من باب القياس ، وإنما هو من باب حمل المطلق على المقيد ، وذلك أنه قيد الرقبة بالإيمان في كفارة القتل وأطلقها في كفارة الظهار فيجب صرف المطلق إلى المقيد ، وهذا النوع من حمل المطلق على المقيد فيه خلاف ، والحنفية لا يجيزونه ، وذلك أن الأسباب في القضيتين مختلفة . وأما حجة أبي حنيفة فهو ظاهر العموم ، ولا معارضة عنده بين المطلق والمقيد ، فوجب عنده أن يحمل كل على لفظه .

ومنها : اختلافهم هل من شرط الرقبة أن تكون سالمة من العيوب أم لا ؟ ثم إن كانت سليمة فمن أي العيوب تشترط سلامتها ؟ فالذي عليه الجمهور أن للعيوب تأثيرا في منع إجزاء العتق; وذهب قوم إلى أنه ليس لها تأثير في ذلك . وحجة الجمهور تشبيهها بالأضاحي ، والهدايا لكون القربة تجمعها . وحجة الفريق الثاني إطلاق اللفظ في الآية . فسبب الخلاف معارضة الظاهر لقياس الشبه . والذين قالوا : إن للعيوب تأثيرا في منع الإجزاء اختلفوا في عيب مما يعتبر في الإجزاء ، أو عدمه . أما العمى ، وقطع اليدين ، أو الرجلين فلا خلاف عندهم في أنه مانع للإجزاء ، واختلفوا فيما دون ذلك; فمنها هل يجوز قطع اليد الواحدة ؟ أجازه أبو حنيفة ، ومنعه مالك ، والشافعي . وأما الأعور ، فقال مالك : لا يجزي ، وقال عبد الملك : يجزي . وأما قطع الأذنين فقال مالك : لا يجزي ، وقال أصحاب الشافعي : يجزي . وأما الأصم فاختلف فيه في مذهب مالك ، فقيل : يجزي ، وقيل : لا يجزي . وأما الأخرس فلا يجزي عند مالك ، وعن الشافعي في ذلك قولان . أما المجنون فلا يجزي ، أما الخصي ، فقال ابن القاسم : لا يعجبني الخصي ، وقال غيره : لا يجزي ، وقال الشافعي : يجزي . وإعتاق الصغير جائز في قول عامة فقهاء الأمصار ، وحكى عن بعض المتقدمين منعه ، والعرج الخفيف في المذهب يجزي ، أما العرج البين فلا . والسبب في اختلافهم : اختلافهم في قدر النقص المؤثر في القربة ، وليس له أصل في الشرع إلا الضحايا .

[ ص: 486 ] وكذلك لا يجزي في المذهب ما فيه شركة ، أو طرف حرية كالكتابة والتدبير لقوله تعالى : ( فتحرير رقبة ) ، والتحرير هو إبداء الإعتاق ، وإذا كان فيه عقد من عقود الحرية كالكتابة كان تنجيزا لا إعتاقا ، وكذلك الشركة لأن بعض الرقبة ليس برقبة . وقال أبو حنيفة : إن كان المكاتب أدى شيئا من مال الكتابة لم يجز ، وإن كان لم يؤد جاز . واختلفوا هل يجزيه عتق مدبره ؟ فقال مالك : لا يجزيه تشبيها بالكتابة لأنه عقد ليس له حله; وقال الشافعي : يجزيه; ولا يجزي عند مالك إعتاق أم ولده ، ولا المعتق إلى أجل مسمى . أما عتق أم الولد فلأن عقدها آكد من عقد الكتابة والتدبير ، بدليل أنهما قد يطرأ عليهما الفسخ . أما في الكتابة فمن العجز عن أداء النجوم . وأما في التدبير ، فإذا ضاق عنه الثلث . وأما العتق إلى أجل فإنه عقد عتق لا سبيل إلى حله . واختلف مالك ، والشافعي مع أبي حنيفة في إجزاء عتق من يعتق عليه بالنسب ، فقال مالك ، والشافعي : لا يجزي عنه . وقال أبو حنيفة : إذا نوى به عتقه عن ظهار أجزأ . فأبو حنيفة شبهه بالرقبة التي لا يجب عتقها ، وذلك أن كل واحدة من الرقبتين غير واجب عليه شراؤها ، وبذل القيمة فيها على وجه العتق ، فإذا نوى بذلك التكفير جاز; والمالكية ، والشافعية رأت أنه إذا اشترى من يعتق عليه عتق عليه من غير قصد إلى إعتاقه فلا يجزيه ، فأبو حنيفة أقام القصد للشراء مقام العتق ، وهؤلاء قالوا : لا بد أن يكون قاصدا للعتق نفسه ، فكلاهما يسمى معتقا باختياره ، ولكن أحدهما معتق بالاختيار الأول ، والآخر معتق بلازم الاختيار ، فكأنه معتق على القصد الثاني ، ومشتر على القصد الأول ، والآخر بالعكس .

واختلف مالك ، والشافعي فيمن أعتق نصفي عبدين ، فقال مالك : لا يجوز ذلك ، وقال الشافعي : يجوز لأنه في معنى الواحد ، ومالك تمسك بظاهر دلالة اللفظ ، فهذا ما اختلفوا فيه من شروط الرقبة المعتقة .

وأما شروط الإطعام : فإنهم اختلفوا من ذلك في القدر الذي يجزي لمسكين مسكين من الستين مسكينا الذين وقع عليهم النص ، فعن مالك في ذلك روايتان أشهرهما : أن ذلك مد بمد هشام لكل واحد ، وذلك مدان بمد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قيل هو أقل ، وقد قيل هو مد ، وثلث . وأما الرواية الثانية فمد مد لكل مسكين بمد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبه قال الشافعي . فوجه الرواية الأولى اعتبار الشبع غالبا ( أعني : الغداء والعشاء ) ، ووجه هذه الرواية الثانية اعتبار هذه الكفارة بكفارة اليمين ، فهذا هو اختلافهم في شروط الصحة في الواجبات في هذه الكفارة .

وأما اختلافهم في مواضع تعددها ومواضع اتحادها : فمنها : إذا ظاهر بكلمة واحدة من نسوة أكثر من واحدة هل يجزي في ذلك كفارة واحدة ، أم يكون عدد الكفارات على عدد النسوة ؟ فعند مالك أنه يجزي في ذلك كفارة واحدة ، وعند الشافعي ، وأبي حنيفة أن فيها من الكفارات بعدد المظاهر منهن إن اثنتين فاثنتين ، وإن ثلاثا فثلاثا ، وإن أكثر فأكثر .

[ ص: 487 ] فمن شبهه بالطلاق أوجب في كل واحدة كفارة; ومن شبهه بالإيلاء أوجب فيه كفارة واحدة ، وهو بالإيلاء أشبه .

ومنها : إذا ظاهر من امرأته في مجالس شتى هل عليه كفارة واحدة ، أو على عدد المواضع التي ظاهر فيها ؟ فقال مالك : ليس عليه إلا كفارة واحدة ، إلا أن يظاهر ، ثم يكفر ، ثم يظاهر ، فعليه كفارة ثانية ، وبه قال الأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق ; وقال أبو حنيفة ، والشافعي : لكل ظهار كفارة . وأما إذا كان ذلك في مجلس واحد فلا خلاف عند مالك أن في ذلك كفارة واحدة ، وعند أبي حنيفة أن ذلك راجع إلى نيته ، فإن قصد التأكيد كانت الكفارة واحدة ، وإن أراد استئناف الظهار كان ما أراد ولزمه من الكفارات على عدد الظهار . وقال يحيى بن سعيد : تلزم الكفارة على عدد الظهار سواء كان في مجلس واحد ، أو في مجالس شتى . والسبب في هذا الاختلاف أن الظهار الواحد بالحقيقة هو الذي يكون بلفظ واحد من امرأة واحدة في وقت واحد ، والمتعدد بلا خلاف هو الذي يكون بلفظتين من امرأتين في وقتين ، فإن كرر اللفظ من امرأة واحدة ، فهل يوجب تعدد اللفظ تعدد الظهار ، أم لا يوجب ذلك فيه تعددا ؟ وكذلك إن كان اللفظ واحدا والمظاهر منها أكثر من واحدة ؟ وذلك أن هذه بمنزلة المتوسطات بين ذينك الطرفين; فمن غلب عليه شبه الطرف الواحد أوجب له حكمه; ومن غلب عليه شبه الطرف الثاني أوجب له حكمه .

ومنها : إذا ظاهر من امرأته ، ثم مسها قبل أن يكفر هل عليه كفارة واحدة أم لا ؟ فأكثر فقهاء الأمصار ، ومالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وداود ، والطبري ، وأبو عبيد : أن في ذلك كفارة واحدة ، والحجة لهم حديث سلمة بن صخر البياضي : " أنه ظاهر من امرأته في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم وقع بامرأته قبل أن يكفر ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر له ذلك ، فأمره أن يكفر تكفيرا واحدا " ، وقال قوم : عليه كفارتان : كفارة العزم على الوطء ، وكفارة الوطء ، لأنه وطئ وطأ محرما ، وهو مروي عن عمرو بن العاص ، وقبيصة بن ذؤيب ، وسعيد بن جبير ، وابن شهاب ; وقد قيل : إنه لا يلزمه شيء لا عن العود ولا عن الوطء ؛ لأن الله تعالى اشترط صحة الكفارة قبل المسيس ، فإذا مس فقد خرج وقتها فلا تجب إلا بأمر مجدد ، وذلك معدوم في مسألتنا ، وفيه شذوذ . وقال أبو محمد بن حزم : من كان فرضه الإطعام فليس يحرم عليه المسيس قبل الإطعام ، وإنما يحرم المسيس على من كان فرضه العتق أو الصيام .

التالي السابق


الخدمات العلمية