الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 317 ] باب ) القراض [ ص: 318 - 319 ] توكيل على تجر ، وفي نقد مضروب ، مسلم بجزء من ربحه

[ ص: 317 ]

التالي السابق


[ ص: 317 ] باب ) ( في بيان القراض وأحكامه وما يتعلق به ) ( القراض ) أي حقيقته شرعا في المقدمات مأخوذ من القرض ، وهو ما يفعله الرجل ليجازى عليه من خير أو شر ، فلما اتفق صاحب المال والعامل فيه على أن ينفع كل منهما صاحبه اشتق له هذا الاسم ، وهو القراض والمقارضة بصيغة المفاعلة الدالة على وقوع الفعل من الجانبين ، وهذا اسمه عند أهل الحجاز وأهل العراق ولم يقولوا قرضا ألبتة ، ولا عندهم كتاب القراض ، وقالوا مضاربة ، وكتاب المضاربة أخذا من قول الله تعالى { وإذا ضربتم في الأرض } ، ومن قوله تعالى { وآخرون يضربون في الأرض } ، وذلك أنه كان الرجل في الجاهلية يدفع ماله إلى رجل ليخرج به إلى الشام أو غيره فيبتاع المتاع على شرط قسمة ربحه بينهما ، وفي قول الصحابة للإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنهم في قصة ابنيه عبد الله وعبيد الله رضي الله تعالى عنهما لو جعلته قراضا دليل على [ ص: 318 ] صحة هذه التسمية في اللغة ; لأنهم هم أهل اللسان الذي نزل به القرآن ، وأرباب البيان وإذا كان يحتج في اللغة بقول امرئ القيس والنابغة وغيرهما من شعر الجاهلية فالاحتجاج بقول الصحابة رضي الله تعالى عنهم أقوى وأولى .

وفي الذخيرة له اسمان القراض والمضاربة ، أما لفظ القراض فقال صاحب العين يقال أقرضت الرجل إذا أعطيته ليعطيك ، فالمقارض يعطي الربح كما يعطي المقترض مثل ما اقترضه ، وقال غيره هو من المقارضة وهي المساواة ، ومنه تقارض الشاعران ، إذا تساويا في الإنشاد ; لأنهما يستويان في الانتفاع بالربح . وقيل من القرض الذي هو القطع ، لأنك قطعت له من مالك جزءا من الربح الحاصل بسعيه ، وعبر بالمفاعلة المقتضية حصول الفعل من فاعلين لاستوائهما في الربح أو في القطع أو في العقد أو هي من الصيغ الخارجة عن أصلها نحو سافر وعافاه الله تعالى ، وطارقت النعل أي جعلته طاقا على طاق ، وأما المضاربة فهي كل منهما يضرب في الربح بنصيب ، وأما من الضرب في الأرض الذي هو السفر .

ابن عطية فرق بين ضرب في الأرض وضرب الأرض أن الأول للتجارة والثاني للحج والغزو وسائر القربات ، كأن التاجر ينغمس في الأرض ومتاعها والمتقرب إلى الله تعالى بريء من الدنيا ، والمقارض بكسر الراء رب المال ، وبالفتح العامل والمضارب بكسرها العامل ، وبفتحها رب المال عكس الأول . وقال بعض اللغويين ليس لرب المال اسم من المضاربة بخلاف القراض . [ ص: 319 ] وحقيقته شرعا ( توكيل ) جنس في التعريف شمل كل توكيل ( على تجر ) بفتح الفوقية وسكون الجيم أي شراء وبيع لحصول ربح فصل مخرج التوكيل على غيره ( في نقد ) أي بذهب أو فضة فصل مخرج التوكيل على تجر بعرض أو رقيق أو حيوان فهو قرض فاسد ( مضروب ) أي مسكوك مختوم بختم الإمام ، فصل مخرج التوكيل على تجر بنقد غير مسكوك فهو قرض فاسد ( مسلم ) بضم الميم وفتح السين واللام مثقلا ، أي مدفوع من رب المال للعامل فصل مخرج التوكيل على التجر بنقد مضروب دين في ذمة العامل لرب المال فهو قرض فاسد ( بجزء ) فصل مخرج التوكيل على التجر بنقد مضروب مسلم بجميع ربحه فهو قرض لا قراض ، أو مجانا فهذا معروف أو بقدر معلوم فهو إجارة ( من ربحه ) أي المال فصل مخرج التوكيل على التجر بنقد مضروب مسلم بجزء من ربح مال آخر فهو قراض فاسد .

وعرفه ابن عرفة بقوله تمكين مال لمن يتجر فيه بجزء من ربحه لا بلفظ إجارة فيدخل بعض الفاسد كالقراض بالدين الوديعة ، ويخرج عنه قولها قال الإمام مالك رضي الله تعالى عنه من أعطى رجلا مالا يعمل به على أن الربح للعامل ولا ضمان عليه فلا بأس به . عياض سحنون هو ضامن كالسلف فضل هذا إن لم يشترط أن لا ضمان عليه . محمد إن قال خذه قراضا ولك ربحه فلا ضمان عليه ، وإن قال خذه واعمل به ولك ربحه ولم يذكر قراضا فهو ضامن .

الباجي يجوز شرط كل الربح لأحدهما على مشهور مذهب الإمام مالك رضي الله تعالى عنه وإن أريد إدخاله على أنه قراض قبل عقد على التجر بمال لعوض ليس من غير ربحه . ا هـ كلام ابن عرفة . الحط يخرج من هذا الأخير ما شرط كل ربحه لرب المال وحكمه الجواز ، ففي التوضيح لا خلاف بين المسلمين في جوازه وهو مستثنى من الإجارة المجهولة ومن السلف بمنفعة ، وفي التنبيهات لا خلاف في جواز القراض وأنه رخصة مستثناة من الإجارة المجهولة ومن السلف بمنفعة . ابن عرفة يرد هذا بأنه ليس بمضمون ، وكل سلف مضمون وحكمة [ ص: 320 ] مشروعيته الاحتياج إليه فرب ذي مال لا قدرة له على التجر به ، ورب قادر على التجر لا مال له فهو من المصالح العامة . في المقدمات كان القراض معروفا في الجاهلية فأقر في الإسلام لأن الضرورة تدعو إليه لاحتياج الناس إلى التصرف في أموالهم وتنميتها بالتجر فيها ، وليس كل يقدر عليه بنفسه فيضطر إلى الاستنابة عليه ولعله لا يجد من يعمل له بأجرة معلومة لجريان عادة الناس بالقراض فرخص فيه لهذه الضرورة ، واستخرج بسبب هذه العلة من الإجارة المجهولة على نحو ما أرخص في المساقاة وشراء العربة بخرصها والشركة في الطعام والتولية فيه . ا هـ .

( تنبيهات ) الأول : ابن رشد القراض جائز بالدنانير والدراهم وكذلك النقر والإتبار ، أعني الذهب والفضة في البلد الذي يجري فيه ذلك ولا يتعامل فيه بالمسكوك . اللخمي يجوز القراض بالبقر بالبلد الذي يتبايعون بها فيه ، ولا خلاف في ذلك . أبو عمر روى أشهب عن مالك رضي الله تعالى عنهما جواز القراض بنقر الذهب والفضة ، قال لأن الناس تقارضوا قبل أن يضرب الذهب والفضة . وروى ابن القاسم أن مالكا رضي الله تعالى عنهما سهل في ذلك ، وأجازه ولم يجزه بالمصوغ . وروي عنه في المدونة والعتبية الكراهة زاد في العتبية وإن نزل فلا يفسخ .

الثاني : الحط ظاهر قوله مضروب أنه يجوز القراض به كان التعامل به أو بالتبر دونه بأن فرض أن المضروب لا يتعامل به ويتعامل بالتبر كما في غالب بلاد السودان على ما قيل وقد نقل الشيخ أحمد زروق في شرح الرسالة عن التنبيهات أنه لا يجوز القراض به حينئذ ولعله فهمه من كلامه ، فإني لم أر من صرح به لا في التنبيهات ولا في غيرها على أن القاضي قال ولا خلاف أنه جائز بالدنانير والدراهم غير جائز بالعروض ما كانت .

الثالث : في التنبيهات اختلف في الشروط التي يصح القراض بها فعندنا شروطه عشرة [ ص: 321 ] نقد رأس المال للعامل ، وكونه معلوما ، وكونه غير مضمون عليه ، وكونه بما يتابع أهل البلد من العين مسكوكا كان أو غير مسكوك ، ومعرفة الجزء الذي تقارضا عليه من ربحه ، وكونه مشاعا لا مقدرا بعدد ولا تقدير ، وأن لا يختص أحدهما بشيء معين سواه إلا ما يضطر إليه العامل من نفقة ومؤنة في السفر واختصاص العامل بالعمل ، وأن لا يضيق عليه بتحجير أو بتخصيص يضر بالعامل ، وأن لا يضرب له أجل ا هـ . قوله وكونه مما يتابع به إلخ ربما يفهم منه ما قاله الشيخ زروق . أبو الحسن قوله لا تقدير فسره ابن شاس بأنه مثل ما قارض به فلان ، ثم قال القاضي فإن توفرت هذه الشروط جاز القراض وإن اختل شرط منها فسد . ا هـ .

الرابع : أول قراض كان في الإسلام قراض يعقوب مولى الحرقة مع عثمان " رضي الله عنه " وذلك أن عمر " رضي الله عنه " بعث من يقيم من السوق من ليس بفقيه فأقيم يعقوب فيمن أقيم ، فجاء إلى عثمان " رضي الله عنه " فأخبره فأعطاه مزود تبر قراضا على النصف ، وقال له إن جاءك من يعرض لك فقل له المال لعثمان فقال ذلك فلم يقم ، فجاء بمزودين مزود رأس المال ومزود ربح ، ويقال أول قراض كان في الإسلام قراض عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب " رضي الله عنه " خرجا في جيش إلى العراق فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري " رضي الله عنه " وهو أمير البصرة فرحب بهما وسهل ، ثم قال لو أقدر لكما على أمر أنفعكما لفعلت ، ثم قال هاهنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين فأسلفكماه فتبتاعان به متاعا من متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة فتأويان رأس المال إلى أمير المؤمنين ، ويكون ربح المال لكما فقالا وددنا ، ففعل ، وكتب إلى عمر " رضي الله عنه " أن يأخذ منهما المال فلما قدما المدينة باعا فربحا ودفعا رأس المال لعمر ، قال أكل الجيش أسلفه مثل الذي أسلفكما فقالا لا فقال عمر ابنا أمير المؤمنين أسلفكما أديا ربح المال فسكت عبد الله وقال عبيد الله ما ينبغي لك هذا يا أمير المؤمنين ، لو هلك المال أو نقص لضمناه ، فقال أدياه فسكت عبد الله أيضا وراجعه عبيد الله فقال رجل يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا ، فقال عمر قد جعلته قراضا فأخذ نصف الربح وترك لهما نصفه . [ ص: 322 ] فإن قيل أبو موسى حاكم عدل وقد تصرف بمصلحة ; لأن المال صار مضمونا في ذمتهما فإسلافه أولى من بعثه أمانة لا تضمن مضافا إلى إكرام من ينبغي إكرامه ، فهو تصرف جامع للمصالح فيتعين تنفيذه ، فجوابه أن عدم الاعتراض إنما هو بين النظراء من الأمراء أما الخليفة فله النظر في أمر نوابه ، وإن كان سدادا أو إن في هذا التصرف تهمة تتعلق بعمر رضي الله تعالى عنه بسبب أنه إكرام لابنيه ، فأراد إبطالها أو الذب عن عرضه بحسب الإمكان .

وفي قوله لأن المال صار مضمونا إلخ نظر لأن دفعه لهذا القصد يصير سفتجة ومشهور مذهب الإمام مالك " رضي الله عنه " منعها ، ولذا قال الباجي لم يرد أبو موسى " رضي الله عنه " إحراز المال في ذمتهما ، وإنما أراد نفعهما بالسلف ، وإن اقتضى ضمانهما المال ، وإنما يجوز السلف لمجرد دفع المتسلف سواء كان المسلف صاحب المال أو غيره ممن له النظر عليه من إمام أو قاض أو وصي أو أب ، فلا يجوز للإمام أن يسلف شيئا من مال المسلمين ليحرزه في ذمة المتسلف وكذلك القاضي والوصي .

ثم قال وفعل أبي موسى هذا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون لمجرد نفع عبد الله وعبيد الله وجاز له لأن المال كان بيده بمنزلة الوديعة لجماعة المسلمين فاستلفه لنفسه بإسلافهما إياه ، فلو تلف ولم يكن عندهما لضمنه أبو موسى ، وثانيهما أن لأبي موسى النظر في المال بالتثمير والإصلاح ، وإذا أسلفه فللإمام تعقبه فتعقبه عمر " رضي الله عنه " ورده إلى القراض وقول عمر " رضي الله عنه " أكل الجيش تعقب منه لفعل أبي موسى ، ونظر في تصحيح أفعاله وتبيين لموضع المحظور منه وموضع المحاباة من كونهما ابني أمير المؤمنين ، وهذا مما كان عمر " رضي الله عنه " يتورع عنه أن يخص أحدا من أهل بيته أو ممن ينتمي إليه بشيء من مال المسلمين وقوله أديا المال وربحه بعد احتجاج عبيد الله إعراض عنه لأن المبضع معه يضمن البضاعة إذا اشترى بها لنفسه ، وإن دخلها نقص جبره وربحها لرب المال .

فإن قيل كيف جعله قراضا وقد دخلا على القرض وغاية الأمر كان لعمر " رضي الله عنه " إما [ ص: 323 ] إجازة فعل أبي موسى وترك جميع الربح لهما ، أو رده وأخذ جميع الربح ، فجوابه ما في سراج الملوك للطرطوشي وهو أن عمر " رضي الله عنه " جعل لانتفاعهما بمال المسلمين نصف الربح للمسلمين كأن المسلمين ساعدوهما في العمل ، وهو مستنده في تشطير عماله في أموالهم فهو كالقراض .




الخدمات العلمية