الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل [ 2 - البيوع المسكوت عنها ]

وأما المسائل المسكوت عنها في هذا الباب المختلف فيها بين فقهاء الأمصار فكثيرة ، لكن نذكر منها أشهرها لتكون كالقانون للمجتهد النظار .

مسألة [ بيع الغائب والموحصوف ]

المبيعات على نوعين : مبيع حاضر مرئي ، فهذا لا خلاف في بيعه . ومبيع غائب أو متعذر الرؤية ، فهنا اختلف العلماء; فقال قوم : بيع الغائب لا يجوز بحال من الأحوال لا ما وصف ولا ما لم يوصف ، وهذا أشهر قولي الشافعي ، وهو المنصوص عند أصحابه ، ( أعني أن بيع الغائب على الصفة لا يجوز ) ; وقال مالك ، وأكثر أهل المدينة : يجوز بيع الغائب على الصفة إذا كانت غيبته مما يؤمن أن تتغير فيه قبل القبض صفته; وقال أبو حنيفة : يجوز بيع العين الغائبة من غير صفة ، ثم له إذا رآها الخيار ، فإن شاء أنفذ البيع وإن شاء رده .

وكذلك المبيع على الصفة من شرطه عندهم خيار الرؤية وإن جاء على الصفة; وعند مالك أنه إذا جاء على الصفة فهو لازم; وعند الشافعي لا ينعقد البيع أصلا في الموضعين; وقد قيل في المذهب : يجوز بيع الغائب من غير صفة على شرط الخيار خيار الرؤية ، وقع ذلك في المدونة ، وأنكره عبد الوهاب ، وقال : هو مخالف لأصولنا .

وسبب الخلاف : هل نقصان العلم المتعلق بالصفة عن العلم المتعلق بالحس هو جهل مؤثر في بيع الشيء فيكون من الغرر الكثير ، أم ليس بمؤثر ، وأنه من الغرر اليسير المعفو عنه ؟ فالشافعي رآه من الغرر الكثير; ومالك رآه من الغرر اليسير; وأما أبو حنيفة فإنه رأى أنه إذا كان له خيار [ ص: 521 ] الرؤية أنه لا غرر هناك ، وإن لم تكن له رؤية; وأما مالك فرأى أن الجهل المقترن بعدم الصفة مؤثر في انعقاد البيع ، ولا خلاف عند مالك أن الصفة إنما تنوب عن المعاينة لمكان غيبة المبيع ، أو لمكان المشقة التي في نشره ، وما يخاف أن يلحقه من الفساد بتكرار النشر عليه ؛ ولهذا أجاز البيع على البرنامج على الصفة ، ولم يجز عنده بيع السلاح في جرابه ، ولا الثوب المطوي في طيه حتى ينشر ، أو ينظر إلى ما في جرابها . واحتج أبو حنيفة بما روي عن ابن المسيب أنه قال : قال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم : وددنا أن عثمان بن عفان ، وعبد الرحمن بن عوف تبايعا حتى نعلم أيهما أعظم جدا في التجارة ، فاشترى عبد الرحمن من عثمان بن عفان فرسا بأرض له أخرى بأربعين ألفا أو أربعة آلاف ، فذكر تمام الخبر ، وفيه بيع الغائب مطلقا ، ولا بد عند أبي حنيفة من اشتراط الجنس .

ويدخل البيع على الصفة ، أو على خيار الرؤية من جهة ما هو غائب غرر آخر ، وهو هل هو موجود وقت العقد أو معدوم ؟ ولذلك اشترطوا فيه أن يكون قريب الغيبة إلا أن يكون مأمونا كالعقار ، ومن هاهنا أجاز مالك بيع الشيء برؤية متقدمة ، ( أعني : إذا كان من القرب بحيث يؤمن أن تتغير فيه ) فاعلمه .

مسألة [ تأخير تسليم المبيع ]

وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع الأعيان إلى أجل ، وأن من شرطها تسليم المبيع إلى المبتاع بأثر عقد الصفقة ، إلا أن مالكا ، وربيعة ، وطائفة من أهل المدينة أجازوا بيع الجارية الرفيعة على شرط المواضعة ، ولم يجيزوا فيها النقد كما لم يجزه مالك في بيع الغائب ، وإنما منع ذلك الجمهور لما يدخله من الدين بالدين ، ومن عدم التسليم ، ويشبه أن يكون بيع الدين بالدين من هذا الباب ، ( أعني : لما يتعلق بالغرر من عدم التسليم من الطرفين ) لا من باب الربا ، وقد تكلمنا في علة الدين بالدين .

ومن هذا الباب ما كان يرى ابن القاسم أنه لا يجوز أن يأخذ الرجل من غريمه في دين له عليه تمرا قد بدا صلاحه ، ويراه من باب الدين بالدين ، وكان أشهب يجيز ذلك ، ويقول : إنما الدين بالدين ما لم يشرع في قبض شيء منه ، ( أعني : أنه كان يرى أن قبض الأوائل من الأثمان يقوم مقام قبض الأواخر ) ، وهو القياس عند كثير من المالكيين ، وهو قول الشافعي ، وأبي حنيفة .

التالي السابق


الخدمات العلمية