الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مسألة [ بيع ما يثمر بطونا مختلفة ]

أجمع فقهاء الأمصار على بيع التمر الذي يثمر بطنا واحدا يطيب بعضه وإن لم تطب جملته معا; واختلفوا فيما يثمر بطونا مختلفة; وتحصيل مذهب مالك في ذلك أن البطون المختلفة لا تخلو أن تتصل أو لا تتصل ، فإن لم تتصل لم يكن بيع ما لم يخلق منها داخلا فيما خلق ، كشجر التين يوجد فيه الباكور والعصير ، ثم إن اتصلت فلا يخلو أن تتميز البطون أو لا تتميز . [ ص: 522 ] فمثال المتميز : جز القصيل الذي يجز مدة بعد مدة . ومثال غير المتميز : المباطخ ، والمقاثئ ، والباذنجان ، والقرع ، ففي الذي يتميز عنه وينفصل روايتان : إحداهما الجواز ، والأخرى المنع . وفي الذي يتصل ولا يتميز قول واحد وهو الجواز ، وخالفه الكوفيون ، وأحمد ، وإسحاق ، والشافعي في هذا كله ، فقالوا : لا يجوز بيع بطن منها بشرط بطن آخر . وحجة مالك فيما لا يتميز أنه لا يمكن حبس أوله على آخره ، فجاز أن يباع ما لم يخلق منها مع ما خلق وبدا صلاحه ، أصله جواز بيع ما لم يطب من الثمر مع ما طاب ، لأن الغرر في الصفة شبهه بالغرر في عين الشيء ، وكأنه رأى أن الرخصة هاهنا يجب أن تقاس على الرخصة في بيع الثمار ، ( أعني : ما طاب مع ما لم يطب ) لموضع الضرورة ، والأصل عنده أن من الغرر ما يجوز لموضع الضرورة ، ولذلك منع على إحدى الروايتين عنده بيع القصيل بطنا أكثر من واحد لأنه لا ضرورة هناك إذا كان متميزا . وأما وجه الجواز في القصيل فتشبيها له بما لا يتميز وهو ضعيف . وأما الجمهور فإن هذا كله عندهم من بيع ما لم يخلق ، ومن باب النهي عن بيع الثمار معاومة . واللفت ، والجزر ، والكرنب جائز عند مالك بيعه إذا بدا صلاحه وهو استحقاقه للأكل ، ولم يجزه الشافعي إلا مقلوعا ، لأنه من باب بيع المغيب; ومن هذا الباب بيع الجوز ، واللوز ، والباقلا في قشره ، أجازه مالك ، ومنعه الشافعي . والسبب في اختلافهم هل هو من الغرر المؤثر في البيوع أم ليس من المؤثر ؟ وذلك أنهم اتفقوا أن الغرر ينقسم بهذين القسمين ، وأن غير المؤثر هو اليسير أو الذي تدعو إليه الضرورة ، أو ما جمع الأمرين .

ومن هذا الباب بيع السمك في الغدير ، أو البركة اختلفوا فيه أيضا ، فقال أبو حنيفة : يجوز ، ومنعه مالك ، والشافعي فيما أحسب ، وهو الذي تقتضي أصوله . ومن ذلك بيع الآبق أجازه قوم بإطلاق ، ومنعه قوم بإطلاق ومنهم الشافعي ; وقال مالك : إذا كان معلوم الصفة معلوم الموضع عند البائع ، والمشتري جاز ، وأظنه اشترط أن يكون معلوم الإباق ويتواضعان الثمن ، ( أعني : أنه لا يقبضه البائع حتى يقبضه المشتري ) ، لأنه يتردد عند العقد بين بيع وسلف ، وهذا أصل من أصوله يمنع به النقد في بيع المواضعة وفي بيع الغائب غير المأمون ، وفيما كان من هذا الجنس . وممن قال بجواز بيع الآبق والبعير الشارد عثمان البتي . والحجة للشافعي حديث شهر بن حوشب ، عن أبي سعيد الخدري : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن شراء العبد الآبق ، وعن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع ، وعن شراء ما في ضروعها ، وعن شراء الغنائم حتى تقسم " ، وأجاز مالك بيع لبن الغنم أياما معدودة إذا كان ما يحلب منها معروفا في العادة ، ولم يجز ذلك في الشاة الواحدة; وقال سائر الفقهاء : لا يجوز ذلك إلا بكيل معلوم بعد الحلب .

ومن هذا الباب منع مالك بيع اللحم في جلده .

[ ص: 523 ] ومن هذا الباب بيع المريض : أجازه مالك إلا أن يكون ميئوسا منه; ومنعه الشافعي ، وأبو حنيفة ، وهي رواية أخرى عنه ، ومن هذا الباب بيع تراب المعدن ، والصواغين ، فأجاز مالك بيع تراب المعدن بنقد يخالفه ، أو بعرض ، ولم يجز بيع تراب الصاغة; ومنع الشافعي البيع في الأمرين جميعا; وأجازه قوم في الأمرين جميعا ، وبه قال الحسن البصري .

فهذه هي البيوع التي يختلف فيها ، أكثر ذلك من قبل الجهل بالكيفية . وأما اعتبار الكمية فإنهم اتفقوا على أنه لا يجوز أن يباع شيء من المكيل ، أو الموزون ، أو المعدود ، أو المسموح إلا أن يكون معلوم القدر عند البائع والمشتري; واتفقوا على أن العلم الذي يكون بهذه الأشياء من قبل الكيل المعلوم ، أو الصنوج المعلومة مؤثر في صحة البيع ، وفي كل ما كان غير معلوم الكيل ، والوزن عند البائع والمشتري من جميع الأشياء المكيلة والموزونة ، والمعدودة ، والممسوحة ، وأن العلم بمقادير هذه الأشياء التي تكون من قبل الحزر ، والتخمين ، وهو الذي يسمونه الجزاف يجوز في أشياء ويمنع في أشياء . وأصل مذهب مالك في ذلك أنه يجوز في كل ما المقصود منه الكثرة لا آحاد وهو عنده أصناف : منها ما أصله الكيل ويجوز جزافا ، وهي المكيلات ، والموزونات; ومنها ما أصله الجزاف ويكون مكيلا ، وهي الممسوحات كالأرضين ، والثياب; ومنها ما لا يجوز فيها التقدير أصلا بالكيل ، والوزن ، بل إنما يجوز فيها العدد فقط ، ولا يجوز بيعها جزافا ، وهي كما قلنا التي المقصود منها آحاد أعيانها . وعند مالك أن التبر والفضة غير المسكوكين يجوز بيعهما جزافا ، ولا يجوز ذلك في الدراهم والدنانير; وقال أبو حنيفة ، والشافعي : يجوز ، ويكره .

ويجوز عند مالك أن تباع الصبرة المجهولة على الكيل ( أي : كل كيل منها بكذا ) ، فما كان فيها من الأكيال وقع من تلك القيمة بعد كيلها والعلم بمبلغها; وقال أبو حنيفة : لا يلزم إلا في كيل واحد وهو الذي سمياه . ويجوز هذا البيع عند مالك في العبيد والثياب ، وفي الطعام ، ومنعه أبو حنيفة في الثياب ، والعبيد ، ومنع ذلك غيره في الكل فيما أحسب للجهل بمبلغ الثمن .

ويجوز عند مالك أن يصدق المشتري البائع في كيلها إذا لم يكن البيع نسيئة ، لأنه يتهمه أن يكون صدقه لينظره بالثمن; وعند غيره لا يجوز ذلك حتى يكتالها المشتري لنهيه صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام حتى تجري فيه الصيعان; وأجازه قوم على الإطلاق; وممن منعه أبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ; وممن أجازه بإطلاق عطاء بن أبي رباح ، وابن أبي مليكة ; ولا يجوز عند مالك أن يعلم البائع الكيل ويبيع المكيل جزافا ممن يجهل الكيل; ولا يجوز عند الشافعي ، وأبي حنيفة .

والمزابنة المنهي عنها هي عند مالك من هذا الباب ، وهي بيع مجهول الكمية بمجهول الكمية ، وذلك أما في الربويات فلموضع التفاضل ، وأما في غير الربويات فلعدم تحقق القدر .

التالي السابق


الخدمات العلمية