الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 620 ] القول في الجزء الثالث من هذا الكتاب .

وهو القول في الأحكام .

وهذا الجزء ينقسم إلى معرفة ما للراهن من الحقوق في الرهن وما عليه ، وإلى معرفة ما للمرتهن في الرهن وما عليه ، وإلى معرفة اختلافهما في ذلك ، وذلك إما من نفس العقد ، وإما لأمور طارئة على الرهن ، ونحن نذكر من ذلك ما اشتهر الخلاف فيه بين فقهاء الأمصار ، والاتفاق .

أما حق المرتهن في الرهن : فهو أن يمسكه حتى يؤدي الراهن ما عليه ، فإن لم يأت به عند الأجل كان له أن يرفعه إلى السلطان ، فيبيع عليه الرهن وينصفه منه إن لم يجبه الراهن إلى البيع ، وكذلك إن كان غائبا ، وإن وكل الراهن المرتهن على بيع الرهن عند حلول الأجل جاز; وكرهه مالك إلا أن يرفع الأمر إلى السلطان .

والرهن عند الجمهور يتعلق بجملة الحق المرهون فيه وببعضه ( أعني : أنه إذا رهنه في عدد ما فأدى منه بعضه ، فإن الرهن بأسره يبقى بعد بيد المرتهن حتى يستوفي حقه ) . وقال قوم : بل يبقى من الرهن بيد المرتهن بقدر ما يبقى من الحق .

وحجة الجمهور : أنه محبوس بحق ، فوجب أن يكون محبوسا بكل جزء منه ، أصله حبس التركة على الورثة حتى يؤدوا الدين الذي على الميت .

وحجة الفريق الثاني : أن جميعه محبوس بجميعه ، فوجب أن يكون أبعاضه محبوسة بأبعاضه ، أصله الكفالة .

ومن مسائل هذا الباب المشهورة : اختلافهم في نماء الرهن المنفصل ، مثل الثمرة في الشجر المرهون ، ومثل الغلة ، ومثل الولد هل يدخل في الرهن أم لا ؟فذهب قوم إلى أن نماء الرهن المنفصل لا يدخل شيء منه في الرهن ( أعني : الذي يحدث منه في يد المرتهن ) ، وممن قال بهذا القول الشافعي . وذهب آخرون إلى أن جميع ذلك يدخل في الرهن ، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة والثوري . وفرق مالك فقال : ما كان من نماء الرهن المنفصل على خلقته وصورته ، فإنه داخل في الرهن كولد الجارية مع الجارية ، وأما ما لم يكن على خلقته فإنه لا يدخل في الرهن ، كان متولدا عنه كثمر النخل ، أو غير متولد ككراء الدار وخراج الغلام .

وعمدة من رأى أن نماء الرهن وغلته للراهن : قوله عليه الصلاة والسلام : " الرهن محلوب ومركوب " . قالوا : ووجه الدليل من ذلك أنه لم يرد بقوله : " مركوب ومحلوب " ; أي يركبه الراهن ويحلبه; لأنه كان يكون غير مقبوض ، وذلك مناقض لكونه رهنا ، فإن الراهن من شرطه القبض ، قالوا : ولا يصح أيضا أن يكون معناه أن المرتهن يحلبه ويركبه ، فلم يبق إلا أن يكون المعنى في ذلك أن أجرة ظهره لربه ، ونفقته عليه .

واستدلوا أيضا بعموم قوله عليه الصلاة والسلام : " الرهن ممن رهنه ، له غنمه ، وعليه غرمه " . قالوا : ولأنه نماء زائد على ما رضيه رهنا ، فوجب أن لا يكون له إلا بشرط زائد .

وعمدة أبي حنيفة : أن الفروع تابعة للأصول فوجب لها حكم الأصل; ولذلك حكم الولد تابع لحكم أمه في التدبير والكتابة .

[ ص: 621 ] وأما مالك فاحتج بأن الولد حكمه حكم أمه في البيع ( أي : هو تابع لها ) ، وفرق بين الثمر والولد في ذلك بالسنة المفرقة في ذلك ، وذلك أن الثمر لا يتبع بيع الأصل إلا بالشرط وولد الجارية يتبع بغير شرط . والجمهور على أن ليس للمرتهن أن ينتفع بشيء من الرهن .

وقال قوم : إذا كان الرهن حيوانا فللمرتهن أن يحلبه ويركبه بقدر ما يعلفه وينفق عليه ، وهو قول أحمد وإسحاق ، واحتجوا بما رواه أبو هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : " الرهن محلوب ومركوب " .

ومن هذا الباب اختلافهم في الرهن يهلك عند المرتهن ممن ضمانه ؟

فقال قوم : الرهن أمانة وهو من الراهن ، والقول قول المرتهن مع يمينه أنه ما فرط فيه وما جنى عليه ، وممن قال بهذا القول الشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور ، وجمهور أهل الحديث .

وقال قوم : الرهن من المرتهن ومصيبته منه ، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة ، وجمهور الكوفيين .

والذين قالوا بالضمان انقسموا قسمين : فمنهم من رأى أن الرهن مضمون بالأقل من قيمته ، أو قيمة الدين ، وبه قال أبو حنيفة ، وسفيان ، وجماعة . ومنهم من قال : هو مضمون بقيمته قلت أو كثرت ، وإنه إن فضل للراهن شيء فوق دينه أخذه من المرتهن ، وبه قال علي بن أبي طالب ، وعطاء ، وإسحاق .

وفرق قوم بين ما لا يغاب عليه مثل الحيوان ، والعقار مما لا يخفى هلاكه ، وبين ما يغاب عليه من العروض ، فقالوا : هو ضامن فيما يغاب عليه ، ومؤتمن فيما لا يغاب عليه ، وممن قال بهذا القول مالك ، والأوزاعي ، وعثمان البتي ، إلا أن مالكا يقول : إذا شهد الشهود بهلاك ما يغاب عليه من غير تضييع ، ولا تفريط ، فإنه لا يضمن . وقال الأوزاعي وعثمان البتي : بل يضمن على كل حال قامت بينة أو لم تقم . وبقول مالك قال ابن القاسم ، وبقول عثمان ، والأوزاعي قال أشهب .

وعمدة من جعله أمانة غير مضمون : حديث سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يغلق الرهن وهو ممن رهنه ، له غنمه ، وعليه غرمه " ( أي : له غلته وخراجه ، وعليه افتكاكه ، ومصيبته منه ) . قالوا : وقد رضي الراهن أمانته فأشبه المودع عنده .

وقال المزني من أصحاب الشافعي محتجا له : قد قال مالك ومن تابعه : إن الحيوان وما ظهر هلاكه أمانة ، فوجب أن يكون كله كذلك . وقد قال أبو حنيفة : إن ما زاد من قيمة الرهن على قيمة الدين فهو أمانة ، فوجب أن يكون كله أمانة ، ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام عند مالك ومن قال بقوله : " وعليه غرمه " ; أي : نفقته . قالوا : ومعنى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : " الرهن مركوب ومحلوب " ; أي : أجرة ظهره لربه ، ونفقته عليه .

وأما أبو حنيفة ، وأصحابه : فتأولوا قوله عليه الصلاة والسلام : " له غنمه وعليه غرمه " ، أن غنمه ما فضل منه على الدين ، وغرمه ما نقص .

وعمدة من رأى أنه مضمون من المرتهن أنه عين تعلق بها حق الاستيفاء ابتداء ، فوجب أن يسقط بتلفه ، أصله تلف المبيع عند البائع إذا أمسكه حتى يستوفي الثمن ، وهذا متفق عليه من الجمهور ، وإن كان عند مالك كالرهن .

[ ص: 622 ] وربما احتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أن رجلا ارتهن فرسا من رجل ، فنفق في يده ، فقال عليه الصلاة والسلام للمرتهن : " ذهب حقك " .

وأما تفريق مالك بين ما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه فهو استحسان ، ومعنى ذلك أن التهمة تلحق فيما يغاب عليه ، ولا تلحق فيما لا يغاب عليه .

وقد اختلفوا في معنى الاستحسان الذي يذهب إليه مالك كثيرا ، فضعفه قوم وقالوا : إنه مثل استحسان أبي حنيفة ، وحدوا الاستحسان بأنه قول بغير دليل . ومعنى الاستحسان عند مالك هو جمع بين الأدلة المتعارضة ، وإذا كان ذلك كذلك فليس هو قول بغير دليل .

والجمهور على أنه لا يجوز للراهن بيع الرهن ، ولا هبته ، وأنه إن باعه فللمرتهن الإجارة ، أو الفسخ . قال مالك : وإن زعم أن إجارته ليتعجل حقه حلف على ذلك ، وكان له . وقال قوم : يجوز بيعه .

وإن كان الرهن غلاما ، أو أمة فأعتقها الراهن ؛ فعند مالك أنه إن كان الراهن موسرا جاز عتقه وعجل للمرتهن حقه ، وإن كان معسرا بيعت وقضي الحق من ثمنها . وعند الشافعي ثلاثة أقوال : الرد ، والإجازة ، والثالث : مثل قول مالك .

وأما اختلاف الراهن ، والمرتهن في قدر الحق الذي وجب به الرهن : فإن الفقهاء اختلفوا في ذلك ، فقال مالك : القول قول المرتهن فيما ذكره من قدر الحق ما لم تكن قيمة الرهن أقل من ذلك ، فما زاد على قيمة الرهن فالقول قول الراهن . وقال الشافعي ، وأبو حنيفة ، والثوري ، وجمهور فقهاء الأمصار : القول في قدر الحق قول الراهن .

وعمدة الجمهور : أن الراهن مدعى عليه ، والمرتهن مدع ، فوجب أن تكون اليمين على الراهن على ظاهر السنة المشهورة .

وعمدة مالك هاهنا : أن المرتهن وإن كان مدعيا فله هاهنا شبهة بنقل اليمين إلى حيزه ، وهو كون الرهن شاهدا له ، ومن أصوله أن يحلف أقوى المتداعيين شبهة ، وهذا لا يلزم عند الجمهور; لأنه قد يرهن الراهن الشيء وقيمته أكثر من المرهون فيه .

وأما إذا تلف الرهن ، واختلفوا في صفته : فالقول هاهنا عند مالك قول المرتهن; لأنه مدعى عليه ، وهو مقر ببعض ما ادعى عليه وهذا على أصوله ، فإن المرتهن أيضا هو الضامن فيما يغاب عليه . وأما على أصول الشافعي ، فلا يتصور على المرتهن يمين إلا أن يناكره الراهن في إتلافه . وأما عند أبي حنيفة فالقول قول المرتهن في قيمة الرهن ، وليس يحتاج إلى صفة; لأن عند مالك يحلف على الصفة ، وتقويم تلك الصفة .

وإذا اختلفوا في الأمرين جميعا ( أعني : في صفة الرهن ، وفي مقدار الرهن ) كان القول قول المرتهن في صفة الرهن ، وفي الحق ما كانت قيمته الصفة التي حلف عليها شاهدة له ، وفيه ضعف .

وهل يشهد الحق لقيمة الرهن إذا اتفقا في الحق ، واختلفا في قيمة الرهن ؟ في المذهب فيه قولان ، والأقيس الشهادة; لأنه إذا شهد الرهن للدين شهد الدين للمرهون .

وفروع هذا الباب كثيرة ، وفيما ذكرناه كفاية في غرضنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية