الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                              [ ص: 368 ] قوله تعالى: إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا

                                                                                                                                                                                              قال الله عز وجل: إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار وقد قرئ "الدرك " بسكون الراء وتحريكها وهي لغتان، قال الضحاك : الدرك إذا كان بعضها فوق بعض، والدرك إذا كان بعضها أسفل من بعض، وقال غيره: الجنة درجات والنار دركات . وقد تسمى النار درجات أيضا، كما قال تعالى بعد أن ذكر أهل الجنة وأهل النار: ولكل درجات مما عملوا وقال: أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير هم درجات عند الله قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : درجات الجنة تذهب علوا ودرجات النار تذهب سفولا .

                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن عكرمة في قوله تعالى: لها سبعة أبواب قال: لها سبعة أطباق . وعن قتادة : لكل باب منهم جزء مقسوم قال: هي والله منازل بأعمالهم . وعن يزيد بن أبي مالك الهمداني، قال: لجهنم سبعة نيران تأتلق ليس منها نار إلا وهي تنظر إلى التي تحته مخافة أن تأكلها .

                                                                                                                                                                                              وعن ابن جريج في قوله: لها سبعة أبواب قال: أولها جهنم . ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية، وفيها أبو جهل . وروى سلام المدائني - وهو ضعيف - عن الحسن عن أبي سنان عن [ ص: 369 ] الضحاك ، قال: للنار سبعة أبواب هي سبعة أدراك بعضها على بعض . فأعلاها فيه أهل التوحيد يعذبون على قدر أعمالهم وأعمارهم في الدنيا ثم يخرجون منها، وفي الثاني اليهود، وفي الثالث النصارى، وفي الرابع الصابئون، وفي الخامس المجوس، والسادس فيه مشركو العرب، وفي السابع المنافقون، وهو قوله: إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار

                                                                                                                                                                                              وروى العلاء بن المسيب عن أبيه وخيثمة بن عبد الرحمن قالا: قال ابن مسعود : أي أهل النار أشد عذابا؟ قالوا: اليهود والنصارى والمجوس، قال: لا ولكن المنافقين في الدرك الأسفل من النار في توابيت من نار مطبقة عليهم ليس لها أبواب .

                                                                                                                                                                                              وروى عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة في قوله تعالى: إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار قال: الدرك الأسفل بيوت لها أبواب تطبق عليها فيوقد من فوقهم ومن تحتهم، قال تعالى: لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل

                                                                                                                                                                                              وقال ابن المبارك ، عن يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر، عن أبي يسار قال: الظلة من جهنم فيها سبعون زاوية، في كل زاوية صنف من العذاب ليس في الأخرى .

                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن كعب ، قال: اقتحام العقبة في كتاب الله، يعني قوله: فلا اقتحم العقبة سبعين درجة في النار . وعن ضمرة قال: سمعت أبا رجاء قال: بلغني أن العقبة التي ذكر الله في كتابه مطلعها سبعة آلاف سنة ومهبطها سبعة آلاف سنة . [ ص: 370 ] وعن عطية عن ابن عمر ، قال في العقبة: جبل في جهنم، أفلا أجاوزه بعتق رقبة؟!!

                                                                                                                                                                                              وعن مقاتل بن حيان قال: هي عقبة في جهنم، قيل: بأي شيء تقطع . قال: رقبة .

                                                                                                                                                                                              وفي "الصحيحين " ولفظه للبخاري عن ابن عمر ، قال: رأيت في المنام أنه جاءني ملكان في يد كل واحد منهما مقمعة من حديد، ثم لقيني ملك في يده مقمعة من حديد، قالوا: لن ترع، نعم الرجل أنت كنت تكثر الصلاة من الليل، فانطلقوا بي حتى وقفوا بي على شفير جهنم، فإذا هي مطوية كطي البئر لها قرون كقرون البئر، بين كل قرنين ملك بيده مقمعة من حديد، وإذا فيها رجال معلقون بالسلاسل رءوسهم أسفلهم، وعرفت رجالا من قريش فانصرفوا بي عن ذات اليمين، فقصصتها على حفصة ، فقصتها حفصة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إن عبد الله رجل صالح " .

                                                                                                                                                                                              عن خالد بن عمير، قال: خطبنا عتبة بن غزوان فقال: إنه ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفة جهنم فيهوي فيها سبعين عاما ما يدرك لها قعرا، والله لنملأنه، أفعجبتم؟ خرجه هكذا مسلم موقوفا، وخرجه الإمام أحمد موقوفا ومرفوعا والموقوف أصح .

                                                                                                                                                                                              وخرج الترمذي من حديث الحسن، قال: قال عتبة بن غزوان على منبرنا هذا - يعني منبر البصرة - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوي سبعين عاما وما تفضي إلى قعرها" . قال: وكان عمر يقول: [ ص: 371 ] أكثروا ذكر النار، فإن حرها شديد، وإن قعرها بعيد، وإن مقامعها حديد . ثم قال: لا يعرف للحسن سماع من عتبة بن غزوان .

                                                                                                                                                                                              وخرج مسلم أيضا من حديث أبي هريرة ، قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما فسمعنا وجبة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أتدرون ما هذا؟ " فقلنا: الله ورسوله أعلم . قال: "هذا حجر أرسل في جهنم منذ سبعين خريفا، فالآن انتهى إلى قعرها" .

                                                                                                                                                                                              وخرج أيضا عن أبي هريرة قال: والذي نفس أبي هريرة بيده، إن قعر جهنم لسبعين خريفا .

                                                                                                                                                                                              وخرج الحاكم من حديث أبي هريرة أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو أخذ سبع خلفات بشحومهن فألقين من شفير جهنم ما انتهين إلى آخرها سبعين عاما" . وخرج البزار والطبراني من حديث بريدة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الحجر ليزن سبع خلفات يرمى به في جهنم فيهوي سبعين خريفا، وما يبلغ قعرها" .

                                                                                                                                                                                              وخرج ابن حبان في "صحيحه " من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو أن حجرا قذف به في جهنم لهوى سبعين خريفا قبل أن يبلغ قعرها" . وقد سبق من حديث أنس وأبي سعيد معنى حديث أبي هريرة في سماع الهدة . [ ص: 372 ] وقال ابن المبارك : أنبأنا يونس عن الزهري ، قال: بلغنا أن معاذ بن جبل كان يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي نفسي بيده إن ما بين شفة النار وقعرها كصخرة زنة سبع خلفات بشحومهن ولحومهن وأولادهن، تهوي من شفة النار قبل أن تبلغ قعرها سبعين خريفا" .

                                                                                                                                                                                              قال ابن المبارك : وإن هشيما قال: أخبرني زكريا بن أبي مريم الخزاعي . قال: سمعت أبا أمامة يقول: إن ما بين شفير جهنم مسيرة سبعين خريفا من حجر يهوي أو صخرة تهوي عظمها لعظم عشر عشراوات عظام سمان، فقال له رجل: هل تحت ذلك من شيء يا أبا أمامة ; قال: نعم، غي وآثام .

                                                                                                                                                                                              وقد روي هذا بإسناد فيه ضعف من طريق لقمان بن عامر عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وزاد فيه قلت: وما غي وما آثام؟ قال: "بئر يسيل فيهما صديد أهل النار" . وهما اللتان ذكرهما الله تعالى في كتابه فسوف يلقون غيا وفي الفرقان: يلق أثاما والموقوف أصح .

                                                                                                                                                                                              وقد روي من وجه آخر، قال حريز بن عثمان : حدثني عبد الرحمن بن ميسرة الحضرمي عن أبي أمامة أنه كان يقول: إن جهنم ما بين شفتيها إلى قعرها سبعون، أو قال: خمسون خريفا للحجر المتردي، والحجر مثل سبع خلفات مملوءة شحما ولحما .

                                                                                                                                                                                              خرجه الجوزجاني .

                                                                                                                                                                                              وروى مجالد عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عبد الله ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من حاكم يحكم بين الناس إلا يحبس يوم القيامة وملك آخذ بقفاه حتى يقفه [ ص: 373 ] على جهنم، ثم يرفع رأسه إلى الله عز وجل، فإن قال له: ألقه ألقاه في مهوى أربعين خريفا"

                                                                                                                                                                                              خرجه الإمام أحمد .

                                                                                                                                                                                              وروى عبد الله بن الوليد الوصافي، حدثنا عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يجاء بالوالي يوم القيامة فينبذ على جسر جهنم فيرتج ذلك الجسر به ارتجاجة لا يبقى منه مفصل إلا زال عن مكانه، فإن كان مطيعا لله في عمله مضوا به، وإن كان عاصيا لله في عمله انخرق به الجسر، فيهوي في جهنم مقدار خمسين عاما" فقال له عمر : من يطلب العمل بعد هذا؟ قال أبو ذر : من سلت الله أنفه وألصق خده بالتراب، فجاء أبو الدرداء فقال له عمر : يا أبا الدرداء هل سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا حدثني به أبو ذر ، قال: فأخبره أبو ذر فقال: نعم ومع الخمسين خمسون عاما يهوي به إلى النار، الوصافي لا يحفظ الحديث، كان شيخا صالحا رحمه الله .

                                                                                                                                                                                              وروى سويد بن عبد العزيز وفيه ضعف شديد عن سيار عن أبي وائل أن أبا ذر قال لعمر : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول فذكر معناه، وفي حديثه: "وإن كان مسيئا انخرق به الجسر فهوى في قعرها سبعين خريفا" . وفي موعظة الأوزاعي للمنصور، قال: أخبرني يزيد بن جابر ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري أن أبا ذر وسلمان قالا لعمر : سمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول، فذكراه بمعناه . وقال: "هوى به في النار سبعين خريفا" .

                                                                                                                                                                                              وفي "الصحيحين " عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب " . [ ص: 374 ] وخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة يرى بها بأسا يهوي بها في النار سبعين خريفا" . وخرج البزار نحوه من حديث ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                              وفي "تفسير ابن جرير " من رواية العوفي عن ابن عباس ، في قوله تعالى: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قال: ذكر أن اليهود وجدوا في التوراة مكتوبا أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم ثابتة في أصل الجحيم .

                                                                                                                                                                                              وكان ابن عباس يقول: إن الجحيم سقر وفيها شجرة الزقوم، فزعم أعداء الله أنه إذا خلا العدد الذي وجدوا في كتابهم أياما معدودة، وإنما يعني بذلك السير الذي ينتهي إلى أصل الجحيم، فقالوا: إذا خلا العدد انقضى الأجل فلا عذاب، وتذهب جهنم وتهلك، فذلك قوله: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة يعنون بذلك الأجل، فقال ابن عباس : لما اقتحموا من باب جهنم ساروا في العذاب حتى انتهوا إلى شجرة الزقوم آخر يوم من الأيام المعدودة . وهي أربعون سنة، فلما أكلوا من شجرة الزقوم وملؤوا البطون آخر يوم من الأيام المعدودة، قال لهم خزنة سقر: زعمتم أنكم لن تمسكم النار إلا أياما معدودة وقد خلا العدد وأنتم في الأبد، فأخذ بهم في الصعود في جهنم يرهقون .

                                                                                                                                                                                              ففي هذه الرواية عن ابن عباس أن قعر جهنم ومسافة عمقها أربعون عاما . وأن ذلك هو معنى ما في التوراة، ولكن اليهود حرفوه فجعلوه مسافة ما بين طرفيها، وزعموا أنه إذا انقضت هذه المدة أن جهنم تخرب وتهلك، فإن ذلك [ ص: 375 ] من كذبهم على الله، وتحريفهم التوراة .

                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية