الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 18 ] باب

جامع القول في النقط ، وعلى ما يبنى من الوصل والوقف ، وما يستعمل له من الألوان ، وما يكره من جمع قراءات شتى وروايات مختلفة في مصحف واحد ، وما يتصل بذلك من المعاني اللطيفة والنكت الخفية

اعلم - أيدك الله بتوفيقه - أن الذي دعا السلف - رضي الله عنهم - إلى نقط المصاحف ، بعد أن كانت خالية من ذلك ، وعارية منه وقت رسمها وحين توجيهها إلى الأمصار ، للمعنى الذي بيناه ، والوجه الذي شرحناه ، ما شاهدوه من أهل عصرهم ، مع قربهم من زمن الفصاحة ومشاهدة أهلها من فساد ألسنتهم ، واختلاف ألفاظهم ، وتغير طباعهم ، ودخول اللحن على كثير من خواص الناس وعوامهم ، وما خافوه مع مرور الأيام وتطاول الأزمان من تزيد ذلك ، وتضاعفه فيمن يأتي بعد ، ممن هو - لا شك - في العلم والفصاحة والفهم والدراية دون من شاهدوه ، ممن عرض له الفساد ، ودخل عليه اللحن ، [ ص: 19 ] لكي يرجع إلى نقطها ، ويصار إلى شكلها ، عند دخول الشكوك ، وعدم المعرفة ، ويتحقق بذلك إعراب الكلم ، وتدرك به كيفية الألفاظ .

ثم إنهم لما رأوا ذلك ، وقادهم الاجتهاد إليه بنوه على وصل القارئ بالكلم ، دون وقفه عليهن ، فأعربوا أواخرهن لذلك ؛ لأن الإشكال أكثر ما يدخل على المبتدئ المتعلم ، والوهم أكثر ما يعرض لمن لا يبصر الإعراب ، ولا يعرف القراءة في إعراب أواخر الأسماء والأفعال ، فلذلك بنوا النقط على الوصل دون الوقف . وأيضا فإن القارئ قد يقرأ الآية والأكثر في نفس واحد ، ولا يقطع على شيء من كلمها ، فلا بد من إعراب ما يصله من ذلك ضرورة .

قال أبو عمرو : فأما نقط المصاحف بالسواد من الحبر وغيره ؛ فلا أستجيزه ، بل أنهى عنه ، وأنكره اقتداء بمن ابتدأ النقط من السلف ، واتباعا له في استعماله لذلك صبغا يخالف لون المداد ، إذ كان لا يحدث في المرسوم تغييرا ولا تخليطا ، والسواد يحدث ذلك فيه . ألا ترى أنه ربما زيد في النقطة فتوهمت - لأجل السواد الذي به ترسم الحروف - أنها حرف من الكلمة ، فزيد في تلاوتها لذلك ، ولأجل هذا وردت الكراهة عمن تقدم من الصحابة وغيرهم في نقط المصاحف .

والذي يستعمله نقاط أهل المدينة - في قديم الدهر وحديثه - من الألوان في نقط مصاحفهم الحمرة والصفرة لا غير . فأما الحمرة فللحركات والسكون والتشديد والتخفيف ، وأما الصفرة فللهمزات خاصة ، كما نا أحمد بن عمر الجيزي ، قال : نا محمد بن أحمد بن منير ، قال : نا عبد الله بن عيسى المدني ، قال : نا قالون : أن في مصاحف [ ص: 20 ] أهل المدينة ما كان من حرف مخفف فعليه دارة حمرة ، وإن كان حرفا مسكنا فكذلك أيضا . قال : وما كان من الحروف التي بنقط الصفرة فمهموزة .

قال أبو عمرو : وعلى ما استعمله أهل المدينة من هذين اللونين ، في المواضع التي ذكرناها ، عامة نقاط أهل بلدنا قديما وحديثا ، من زمان الغازي بن قيس صاحب نافع بن أبي نعيم - رحمه الله - إلى وقتنا هذا ؛ اقتداء بمذاهبهم ، واتباعا لسننهم .

فأما نقاط أهل العراق فيستعملون للحركات وغيرها وللهمزات الحمرة وحدها ، وبذلك تعرف مصاحفهم ، وتميز من غيرها .

وطوائف من أهل الكوفة والبصرة قد يدخلون الحروف الشواذ في المصاحف وينقطونها بالخضرة ، وربما جعلوا الخضرة للقراءة المشهورة الصحيحة ، وجعلوا الحمرة للقراءة الشاذة المتروكة ، وذلك تخليط وتغيير ، وقد كره ذلك جماعة من العلماء .

أخبرني الخاقاني أن محمد بن عبد الله الأصبهاني حدثهم بإسناده عن أحمد بن جبير الأنطاكي ، قال : إياك والخضرة التي تكون في المصاحف ؛ فإنه يكون فيها لحن ، وخلاف للتأويل ، وحروف لم يقرأ بها أحد .

قال أبو عمرو : وأكره من ذلك ، وأقبح منه : ما استعمله ناس من القراء ، وجهلة من النقاط ، من جمع قراءات شتى ، وحروف مختلفة ، في مصحف واحد ، وجعلهم لكل قراءة وحرف لونا من الألوان المخالفة للسواد ، كالحمرة والخضرة والصفرة واللازورد ، وتنبيههم على ذلك في أول المصحف ، ودلالتهم عليه هناك ؛ لكي تعرف القراءات ، وتميز الحروف . إذ ذلك من أعظم التخليط ، وأشد التغيير للمرسوم .

[ ص: 21 ] ومن الدلالة على كراهة ذلك ، والمنع منه سوى ما قدمناه من الأخبار عن ابن مسعود والحسن وغيرهما : ما حدثناه خلف بن إبراهيم بن محمد ، قال : نا أحمد بن محمد ، قال : نا علي بن عبد العزيز ، قال : نا القاسم بن سلام ، قال : نا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قرأ : عباد الرحمن . قال سعيد : فقلت لابن عباس : إن في مصحفي ( عند الرحمن ) . فقال : امحها ، واكتبها عباد الرحمن . ألا ترى ابن عباس - رحمه الله - قد أمر سعيد بن جبير بمحو إحدى القراءتين ، وإثبات الثانية ، مع علمه بصحة القراءتين في ذلك ، وأنهما منزلتان من عند الله تعالى ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ بهما جميعا ، وأقرأ بهما أصحابه . غير أن التي أمره بإثباتها منهما كانت اختياره ؛ إما لكثرة القارئين بها من الصحابة ، وإما لشيء صح عنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو أمر شاهده من علية الصحابة .

فلو كان جمع القراءات ، وإثبات الروايات والوجوه واللغات في مصحف واحد جائزا ؛ لأمر ابن عباس سعيدا بإثباتهما معا في مصحفه بنقطة يجعلها فوق الحرف الذي بعد العين ، وضمة أمام الدال ، دون ألف مرسومة بينهما ، إذ قد تسقط من الرسم في نحو ذلك كثيرا لخفتها ، وتترك النقطة التي فوق ذلك الحرف ، والفتحة التي على الدال ، فتجتمع بذلك القراءتان في الكلمة المتقدمة ، ولم يأمره بتغيير إحداهما ومحوها ، وإثبات الثانية خاصة . فبان بذلك صحة ما قلناه ، وما ذهب إليه العلماء من كراهة ذلك لأجل التخليط على القارئين ، والتغيير للمرسوم .

على أن أبا الحسين بن المنادي قد أشار إلى إجازة ذلك ، فقال في كتابه في النقط : وإذا نقطت ما يقرأ على وجهين فأكثر ، فارسم في رقعة غير ملصقة [ ص: 22 ] بالمصحف أسماء الألوان ، وأسماء القراء ؛ ليعرف ذلك الذي يقرأ فيه ، ولتكن الأصباغ صوافي لامعات ، والأقلام بين الشدة واللين . قال : وإن شئت أن تجعل النقط مدورا فلا بأس بذلك . وإن جعلت بعضه مدورا ، وبعضه بشكل الشعر فغير ضائر ، بعد أن تعطي الحروف ذوات الاختلاف حقوقها . قال : وكان بعض الكتاب لا يغير رسم المصحف الأول ، وإذا مر بحرف يعلم أن النقط والشكل لا يضبطه ؛ كتب ما يريد من القراءات المختلفة تعليقا بألوان مختلفة . وهذا كله موجود في المصاحف .

قال أبو عمرو : وترك استعمال شكل الشعر ، وهو الشكل الذي في الكتب الذي اخترعه الخليل في المصاحف الجامعة من الأمهات وغيرها أولى وأحق ؛ اقتداء بمن ابتدأ النقط من التابعين ، واتباعا للأئمة السالفين .

والشكل المدور يسمى نقطا لكونه على صورة الإعجام الذي هو نقط بالسواد . والشكل أصله التقييد والضبط . تقول : شكلت الكتاب شكلا ، أي قيدته وضبطته . وشكلت الدابة شكالا . وشكلت الطائر شكولا . والشكل الضرب المتشابه ، ومنه قوله تعالى : وآخر من شكله أزواج أي من ضربه . ومثله قول الرجل : ما أنت من شكلي ؛ أي من ضربي . والشكل المثل . وأشكل الأمر ؛ إذا اشتبه . والقوم أشكال ؛ أي أشباه .

وتقول : أعجمت الكتاب إعجاما ؛ إذا نقطته . وهو معجم ، وأنا له معجم . وكتاب معجم ومعجم ؛ أي منقوط . وحروف المعجم : الحروف المقطعة من الهجاء . وفي تسميتها بذلك قولان : أحدهما أنها مبينة للكلام ، مأخوذ [ ص: 23 ] ذلك من قولهم : أعجمت الشيء ؛ إذا بينته . والثاني أن الكلام يختبر بها ، مأخوذ ذلك من قولهم : عجمت العود وغيره ؛ إذا اختبرته .

وقال أبو بكر بن مجاهد في كتابه في النقط : الشكل سمة للكتاب ، كما أن الإعراب سمة لكلام اللسان . ولولا الشكل لم تعرف معاني الكتاب ؛ كما لولا الإعراب لم تعرف معاني الكلام . والشكل لما أشكل ، وليس على كل حرف يقع الشكل ، إنما يقع على ما إذا لم يشكل التبس . ولو شكل الحرف من أوله إلى آخره - أعني الكلمة - لأظلم ولم تكن فائدة ؛ إذ كان بعضه يؤدي عن بعض .

والشكل والنقط شيء واحد ، غير أن فهم القارئ يسرع إلى الشكل أقرب مما يسرع إلى النقط ؛ لاختلاف صورة الشكل ، واتفاق صورة النقط . إذ كان النقط كله مدورا ، والشكل فيه الضم والكسر والفتح ، والهمز ، والتشديد بعلامات مختلفة . وذلك عامته مجتمع في النقط . غير أنه يحتاج أن يكون الناظر فيه قد عرف أصوله . ففي النقط الإعراب ، وهو الرفع والنصب والخفض . وفيه علامات الممدود والمهموز ، والتشديد في الموضع الذي يجوز أن يكون مخففا ، والتخفيف في الموضع الذي يجوز أن يكون مشددا .

ثم ذكر أصولا من النقط . ثم قال : ففي نقط المصاحف المدور الرفع والنصب والخفض ، والتشديد ، والتنوين ، والمد والقصر . ولولا أن ذلك كله فيه ما كان له معنى . قال : وقد كان بعض من يحب أن يزيد في بيان النقط ، ممن يستعمل المصحف لنفسه ، ينقط الرفع والخفض والنصب بالحمرة ، وينقط الهمز مجردا بالخضرة ، وينقط المشدد بالصفرة . كل ذلك بقلم مدور . وهذا أسرع [ ص: 24 ] إلى فهم القارئ من النقط بلون واحد ، بقلم مدور . قال : وفي النقط علم كبير ، واختلاف بين أهله . ولا يقدر أحد على القراءة في مصحف منقوط ، إذا لم يكن عنده علم بالنقط ، بل لا ينتفع به إن لم يعلمه .

قال أبو عمرو : جميع ما أورده ابن مجاهد في هذا الباب صحيح بين لطيف حسن ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية