الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ من الذي يلزمه العتق ]

وأما من يدخل عليهم العتق كرها فهم ثلاثة : 1 - من بعض العتق ، وهذا متفق عليه في أحد قسميه ، واثنان مختلف فيهما وهما : 2 - من ملك من يعتق عليه ، 3 - ومن مثل بعبده .

1 - فأما من بعض العتق ، فإنه ينقسم قسمين : أحدهما : من وقع تبعيض العتق منه وليس له من العبد إلا الجزء المعتق ، والثاني : أن يكون يملك العبد كله ولكن بعض عتقه اختيارا منه .

فأما العبد بين الرجلين يعتق أحدهما حظه منه ، فإن الفقهاء اختلفوا في حكم ذلك .

فقال مالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل : إن كان المعتق موسرا قوم عليه نصيب شريكه قيمة العدل ، فدفع ذلك إلى شريكه وعتق الكل عليه وكان ولاؤه له ، وإن كان المعتق معسرا لم يلزمه شيء وبقي المعتق بعضه عبدا وأحكامه أحكام العبد .

وقال أبو يوسف ومحمد : إن كان معسرا سعى العبد في قيمته للسيد الذي لم يعتق حظه منه وهو حر يوم أعتق حظه منه الأول ويكون ولاؤه للأول ، وبه قال الأوزاعي ، وابن شبرمة ، وابن أبي ليلى ، وجماعة الكوفيين ، إلا أن ابن شبرمة ، وابن أبي ليلى جعلا للعبد أن يرجع على المعتق بما سعى فيه متى أيسر . وأما [ ص: 694 ] شريك المعتق فإن الجمهور على أن له الخيار في أن يعتق أو يقوم نصيبه على المعتق .

وقال أبو حنيفة : لشريك الموسر ثلاث خيارات :

أحدها : أن يعتق كما أعتق شريكه ويكون الولاء بينهما ، وهذا لا خلاف فيه بينهم .

والخيار الثاني : أن تقوم عليه حصته .

والثالث : أن يكلف العبد السعي في ذلك إن شاء ويكون الولاء بينهما وللسيد المعتق عبده عنده إذا قوم عليه شريكه نصيبه أن يرجع على العبد فيسعى فيه ويكون الولاء كله للمعتق .

وعمدة مالك والشافعي حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة العدل ، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد ، وإلا فقد عتق منه ما عتق " .

وعمدة محمد ، وأبي يوسف صاحبي أبي حنيفة ومن يقول بقولهم حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من أعتق شقصا له في عبده فخلاصه في ماله إن كان له مال ، فإن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه " . وكلا الحديثين خرجه أهل الصحيح البخاري ، ومسلم وغيرهما ، ولكل طائفة منهم قول في ترجيح حديثه الذي أخذ به .

فمما وهنت فيه الكوفية حديث ابن عمر أن بعض رواته شك في الزيادة المعارضة فيه لحديث أبي هريرة " وإلا فقد عتق منه ما عتق " ، فهل هو من قوله - عليه الصلاة والسلام - ، أم من قول نافع ، وإن في ألفاظه أيضا بين رواته اضطرابا .

ومما وهن به المالكيون حديث أبي هريرة أنه اختلف أصحاب قتادة فيه على قتادة في ذكر السعاية . وأما من طريق المعنى فاعتمدت المالكية في ذلك على أنه إنما لزم السيد التقويم إن كان له مال للضرر الذي أدخله على شريكه والعبد لم يدخل ضررا فليس يلزمه شيء .

وعمدة الكوفيين من طريق المعنى أن الحرية حق شرعي لا يجوز تبعيضه ، فإذا كان الشريك المعتق موسرا عتق الكل عليه ، وإذا كان معسرا سعى العبد في قيمته وفيه مع هذا رفع الضرر الداخل على الشريك وليس فيه ضرر على العبد ، وربما أتوا بقياس شبهي ، وقالوا : لما كان العتق يوجد منه في الشرع نوعان : نوع يقع بالاختيار ، ( وهو إعتاق السيد عبده ابتغاء ثواب الله ) . ونوع يقع بغير اختبار ، ( وهو أن يعتق على السيد من لا يجوز له بالشريعة ملكه ) ، وجب أن يكون العتق بالسعي كذلك . فالذي بالاختيار منه هو الكتابة . والذي هو داخل بغير اختيار هو السعي .

واختلف مالك ، والشافعي في أحد قوليه إذا كان المعتق موسرا هل يعتق عليه نصيب شريكه بالحكم أو بالسراية ؟ ( أعني : أنه يسري وجوب عتقه عليه بنفس العتق ) ، فقالت الشافعية : يعتق بالسراية ، وقالت المالكية : بالحكم .

واحتجت المالكية بأنه لو كان واجبا بالسراية لسرى مع العدم واليسر . واحتجت الشافعية باللازم عن مفهوم قوله - عليه الصلاة والسلام - : " قوم عليه قيمة العدل " ، فقالوا : ما يجب تقويمه فإنما يجب بعد إتلافه فإذن بنفس العتق أتلف حظ صاحبه فوجب عليه تقويمه في وقت الإتلاف ، وإن لم يحكم عليه بذلك [ ص: 695 ] حاكم ، وعلى هذا فليس للشريك أن يعتق نصيبه ; لأنه قد نفذ العتق وهذا بين .

وقول أبي حنيفة في هذه المسألة مخالف لظاهر الحديثين ، وقد روي فيها خلاف شاذ ، فقيل عن ابن سيرين : إنه جعل حصة الشريك في بيت المال ، وقيل عن ربيعة فيمن أعتق نصيبا له في عبد : أن العتق باطل ، وقال قوم : لا يقوم على المعسر الكل ، وينفذ العتق فيما أعتق . وقال قوم بوجوب التقويم على المعتق موسرا أو معسرا ويتبعه شريكه ، وسقط العسر في بعض الروايات في حديث ابن عمر ، وهذا كله خلاف الأحاديث ، ولعلهم لم تبلغهم الأحاديث .

واختلف قول مالك من هذا في فرع وهو إذا كان معسرا فأخر الحكم عليه بإسقاط التقويم حتى أيسر ، فقيل : يقوم ، وقيل : لا يقوم . واتفق القائلون بهذه الآثار على أن من ملك باختياره شقصا يعتق عليه من عبد : أنه يعتق عليه الباقي إن كان موسرا إلا إذا ملكه بوجه لا اختيار له فيه ، وهو أن يملكه بميراث ، فقال قوم : يعتق عليه في حال اليسر ، وقال قوم : لا يعتق عليه ، وقال قوم : في حال اليسر بالسعاية ، وقال قوم : لا .

وإذا ملك السيد جميع العبد فأعتق بعضه ، فجمهور علماء الحجاز والعراق مالك والشافعي والثوري ، والأوزاعي ، وأحمد وابن أبي ليلى ، ومحمد بن الحسن ، وأبو يوسف يقولون : يعتق عليه كله ، وقال : أبو حنيفة ، وأهل الظاهر : يعتق منه ذلك القدر الذي عتق ويسعى العبد في الباقي ، وهو قول طاوس وحماد . وعمدة استدلال الجمهور أنه لما ثبتت السنة في إعتاق نصيب الغير على الغير لحرمة العتق كان أحرى أن يجب ذلك عليه في ملكه .

وعمدة أبي حنيفة أن سبب وجوب العتق على المبعض للعتق هو الضرر الداخل على شريكه ، فإذا كان ذلك كله ملكا له لم يكن هنالك ضرر .

فسبب الاختلاف من طريق المعنى هل علة هذا الحكم حرمة العتق ، ( أعني : أنه لا يقع فيه تبعيض ) ، أو مضرة الشريك ؟

واحتجت الحنفية بما رواه إسماعيل بن أمية عن أبيه عن جده أنه أعتق نصف عبده ، فلم ينكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عتقه .

ومن عمدة الجمهور ما رواه النسائي ، وأبو داود عن أبي المليح عن أبيه " أن رجلا من هذيل أعتق شقصا له من مملوك فتمم النبي - عليه الصلاة والسلام - عتقه ، وقال : " ليس لله شريك " ، وعلى هذا فقد نص على العلة التي تمسك بها الجمهور ، وصارت علتهم أولى ; لأن العلة المنصوص عليها أولى من المستنبطة .

فسبب اختلافهم تعارض الآثار في هذا الباب وتعارض القياس .

2 - وأما الإعتاق الذي يكون بالمثلة ، فإن العلماء اختلفوا فيه ، فقال : مالك والليث والأوزاعي : من مثل بعبده أعتق عليه ، وقال أبو حنيفة والشافعي : لا يعتق عليه ، وشذ الأوزاعي فقال : من مثل بعبد غيره أعتق عليه ، والجمهور على أنه يضمن ما نقص من قيمة العبد .

فمالك ومن قال بقوله اعتمد حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده " أن زنباعا وجد غلاما له مع [ ص: 696 ] جارية ، فقطع ذكره وجدع أنفه ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما حملك على ما فعلت ؟ فقال : فعل كذا وكذا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : اذهب فأنت حر " .

وعمدة الفريق الثاني قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر " من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته عتقه " قالوا : فلم يلزم العتق في ذلك وإنما ندب إليه . ولهم من طريق المعنى أن الأصل في الشرع هو أنه لا يكره السيد على عتق عبده إلا ما خصصه الدليل . وأحاديث عمرو بن شعيب مختلف في صحتها ، فلم تبلغ من القوة أن يخصص بها مثل هذه القاعدة .

3 - وأما هل يعتق على الإنسان أحد من قرابته ، وإن عتق فمن يعتق ؟ فإنهم اختلفوا في ذلك ، فجمهور العلماء على أنه يعتق على الرجل بالقرابة إلا داود وأصحابه ، فإنهم لم يروا أن يعتق أحد على أحد من قبل قربى .

والذين قالوا بالعتق اختلفوا فيمن يعتق ممن لا يعتق بعد اتفاقهم على أنه يعتق على الرجل أبوه وولده ، فقال مالك : يعتق على الرجل ثلاثة : أحدها : أصوله ( وهم الآباء والأجداد والجدات والأمهات ، وآباؤهمن وأمهاتهم ، وبالجملة كل من كان له على الإنسان ولادة ) . والثاني : فروعه ( وهم : الأبناء والبنات وولدهم ما سفلوا ، وسواء في ذلك ولد البنين وولد البنات ، وبالجملة كل من للرجل عليه ولادة بغير توسط أو بتوسط ، ذكر أو أنثى ) . والثالث : الفروع المشاركة له في أصله القريب ( وهم : الإخوة ، وسواء كانوا لأب وأم ، أو لأب فقط ، أو لأم فقط; واقتصر من هذا العمود على القريب فقط ، فلم يوجب عتق بني الإخوة ) .

وأما الشافعي ، فقال مثل قول مالك في العمودين الأعلى والأسفل ، وخالفه في الإخوة فلم يوجب عتقهم .

وأما أبو حنيفة فأوجب عتق كل ذي رحم محرم بالنسب كالعم والعمة والخال والخالة وبنات الأخ ، ومن أشبههم ممن هو من الإنسان ذو محرم .

وسبب اختلاف أهل الظاهر مع الجمهور اختلافهم في مفهوم الحديث الثابت ، وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - : " لا يجزي ولد عن والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه " خرجه مسلم والترمذي وأبو داود وغيرهم .

فقال : الجمهور : يفهم من هذا أنه إذا اشتراه وجب عليه عتقه ، وأنه ليس يجب عليه شراؤه .

وقالت الظاهرية : المفهوم من الحديث أنه ليس يجب عليه شراؤه ولا عتقه إذا اشتراه ، قالوا : لأن إضافة عتقه إليه دليل على صحة ملكه له ، ولو كان ما قالوا صوابا ، لكان اللفظ إلا أن يشتريه فيعتق عليه .

وعمدة الحنفية ما رواه قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من ملك ذا رحم محرم فهو حر " وكأن هذا الحديث لم يصح عند مالك والشافعي .

وقاس مالك الإخوة على الأبناء والآباء ، ولم يلحقهم بهم الشافعي واعتمد الحديث المتقدم فقط ، وقاس الأبناء على الآباء .

وقد رامت المالكية أن تحتج لمذهبها بأن البنوة صفة هي ضد العبودية ، وأنه ليس تجتمع معها لقوله [ ص: 697 ] تعالى : ( وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ) وهذه العبودية هي معنى غير العبودية التي يحتجون بها ، فإن هذه العبودية معقولة وبنوة معقولة . والعبودية التي بين المخلوقين والمولايية هي عبودية بالشرع لا بالطبع ( أعني : بالوضع ) لا مجال للعقل كما يقولون فيها عندهم ، وهو احتجاج ضعيف . وإنما أراد الله تعالى أن البنوة تساوي الأبوة في جنس الوجود أو في نوعه ( أعني : أن الموجودين اللذين أحدهما أب والآخر ابن هما متقاربان جدا ، حتى إنهما إما أن يكونا من نوع واحد أو جنس واحد ) ، وما دون الله من الموجودات فليس يجتمع معه سبحانه في جنس قريب ولا بعيد ، بل التفاوت بينهما غاية التفاوت ، فلم يصح أن يكون في الموجودات التي هاهنا شيء نسبته إليه نسبة الأب إلى الابن ، بل إن كان نسبة الموجودات إليه نسبة العبد إلى السيد كان أقرب إلى حقيقة الأمر من نسبة الابن إلى الأب ; لأن التباعد الذي بين السيد والعبد في المرتبة أشد من التباعد الذي بين الأب والابن ، وعلى الحقيقة فلا شبه بين النسبتين ، لكن لما لم يكن في الموجودات نسبة أشد تباعدا من هذه النسبة ( أعني : تباعد طرفيهما في الشرف والخسة ) ضرب المثال بها ( أعني : نسبة العبد للسيد ) ، ومن لحظ المحبة التي بين الأب والابن والرحمة والرأفة والشفقة أجاز أن يقول في الناس إنهم أبناء الله على ظاهر شريعة عيسى .

فهذه جملة المسائل المشهورة التي تتعلق بالعتق الذي يدخل على الإنسان بغير اختياره ، وقد اختلفوا من أحكام العتق في مسألة مشهورة تتعلق بالسماع .

التالي السابق


الخدمات العلمية