الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وفي الجملة : ففي الأخبار عمن نافق بعد إيمانه ما يطول ذكره هنا ; فأولئك كانوا مسلمين وكان معهم إيمان هو الضوء الذي ضرب الله به المثل فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق ماتوا على هذا الإسلام الذي يثابون عليه ولم يكونوا من [ ص: 281 ] المؤمنين حقا الذين امتحنوا فثبتوا على الإيمان ولا من المنافقين حقا الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة . وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم إذا ابتلوا بالمحن التي يتضعضع فيها أهل الإيمان ينقص إيمانهم كثيرا وينافق أكثرهم أو كثير منهم . ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالبا ; وقد رأينا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة . وإذا كانت العافية أو كان المسلمون ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمين . وهم مؤمنون بالرسول باطنا وظاهرا لكن إيمانا لا يثبت على المحنة . ولهذا يكثر في هؤلاء ترك الفرائض وانتهاك المحارم . وهؤلاء من الذين قالوا : { آمنا } فقيل لهم : { قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } أي الإيمان المطلق الذي أهله هم المؤمنون حقا فإن هذا هو الإيمان إذا أطلق في كتاب الله تعالى كما دل عليه الكتاب والسنة . ولهذا قال تعالى : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } فلم يحصل لهم ريب عند المحن التي تقلقل الإيمان في القلوب والريب يكون في علم القلب وفي عمل القلب ; بخلاف الشك فإنه لا يكون إلا في العلم ولهذا لا يوصف باليقين إلا من اطمأن قلبه علما وعملا ; وإلا فإذا كان عالما بالحق ; ولكن المصيبة أو الخوف أورثه جزعا عظيما لم يكن صاحب يقين . قال تعالى : { هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا } . [ ص: 282 ] وكثيرا ما تعرض للمؤمن شعبة من شعب النفاق ثم يتوب الله عليه ; وقد يرد على قلبه بعض ما يوجب النفاق . ويدفعه الله عنه . والمؤمن يبتلى بوساوس الشيطان وبوساوس الكفر التي يضيق بها صدره . كما { قالت الصحابة : يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لئن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به . فقال : ذاك صريح الإيمان } وفي رواية : { ما يتعاظم أن يتكلم به قال : الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة } أي حصول هذا الوسواس مع هذه الكراهة العظيمة له ودفعه عن القلب هو من صريح الإيمان ; كالمجاهد الذي جاءه العدو فدافعه حتى غلبه ; فهذا أعظم الجهاد و " الصريح " الخالص كاللبن الصريح . وإنما صار صريحا لما كرهوا تلك الوساوس الشيطانية ودفعوها فخلص الإيمان فصار صريحا . ولا بد لعامة الخلق من هذه الوساوس ; فمن الناس من يجيبها فيصير كافرا أو منافقا ; ومنهم من قد غمر قلبه الشهوات والذنوب فلا يحس بها إلا إذا طلب الدين فإما أن يصير مؤمنا وإما أن يصير منافقا ; ولهذا يعرض للناس من الوساوس في الصلاة ما لا يعرض لهم إذا لم يصلوا لأن الشيطان يكثر تعرضه للعبد إذا أراد الإنابة إلى ربه والتقرب إليه والاتصال به ; فلهذا يعرض للمصلين ما لا يعرض لغيرهم ويعرض لخاصة أهل العلم والدين أكثر مما يعرض للعامة ولهذا يوجد عند طلاب العلم والعبادة من الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم لأنه لم يسلك شرع الله ومنهاجه ; بل هو مقبل على هواه في غفلة عن ذكر ربه . وهذا مطلوب الشيطان بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة [ ص: 283 ] فإنه عدوهم يطلب صدهم عن الله . قال تعالى : { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا } ولهذا أمر قارئ القرآن أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم فإن قراءة القرآن على الوجه المأمور به تورث القلب الإيمان العظيم وتزيده يقينا وطمأنينة وشفاء . وقال تعالى : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } وقال تعالى : { هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين } وقال تعالى { هدى للمتقين } وقال تعالى : { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون } . وهذا مما يجده كل مؤمن من نفسه ; فالشيطان يريد بوساوسه أن يشغل القلب عن الانتفاع بالقرآن ; فأمر الله القارئ إذا قرأ القرآن أن يستعيذ منه قال تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } { إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } { إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون } فإن المستعيذ بالله مستجير به لاجئ إليه مستغيث به من الشيطان ; فالعائذ بغيره مستجير به ; فإذا عاذ العبد بربه كان مستجيرا به متوكلا عليه فيعيذه الله من الشيطان ويجيره منه ; ولذلك قال الله تعالى : { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } { وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم } { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم } . وفي " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إني لأعلم كلمة لو [ ص: 284 ] قالها لذهب عنه ما يجد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم } فأمر سبحانه بالاستعاذة عند طلب العبد الخير لئلا يعوقه الشيطان عنه ; وعند ما يعرض عليه من الشر ليدفعه عنه عند إرادة العبد للحسنات ; وعند ما يأمره الشيطان بالسيئات . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم { لا يزال الشيطان يأتي أحدكم فيقول : من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول : من خلق الله ؟ فمن وجد ذلك فليستعذ بالله ولينته } فأمر بالاستعاذة عندما يطلب الشيطان أن يوقعه في شر أو يمنعه من خير ; كما يفعل العدو مع عدوه . وكلما كان الإنسان أعظم رغبة في العلم والعبادة وأقدر على ذلك من غيره بحيث تكون قوته على ذلك أقوى ورغبته وإرادته في ذلك أتم ; كان ما يحصل له إن سلمه الله من الشيطان أعظم ; وكان ما يفتتن به إن تمكن منه الشيطان أعظم . ولهذا قال الشعبي : كل أمة علماؤها شرارها إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم . وأهل السنة في الإسلام ; كأهل الإسلام في الملل ; وذلك أن كل أمة غير المسلمين فهم ضالون وإنما يضلهم علماؤهم ; فعلماؤهم شرارهم والمسلمون على هدى وإنما يتبين الهدى بعلمائهم فعلماؤهم خيارهم ; وكذلك أهل السنة أئمتهم خيار الأمة وأئمة أهل البدع أضر على الأمة من أهل الذنوب . ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الخوارج ; ونهى عن قتال الولاة الظلمة ; وأولئك لهم [ ص: 285 ] نهمة في العلم والعبادة ; فصار يعرض لهم من الوساوس التي تضلهم - وهم يظنونها هدى فيطيعونها - ما لا يعرض لغيرهم ومن سلم من ذلك منهم كان من أئمة المتقين مصابيح الهدى وينابيع العلم ; كما قال ابن مسعود لأصحابه : كونوا ينابيع العلم مصابيح الحكمة سرج الليل ; جدد القلوب أحلاس البيوت خلقان الثياب ; تعرفون في أهل السماء وتخفون على أهل الأرض .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية