الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                والناس في " الإيمان والإسلام " على ثلاث مراتب : ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات . فالمسلم ظاهرا وباطنا إذا كان ظالما لنفسه فلا بد أن يكون معه إيمان ; ولكن لم يأت بالواجب ولا ينعكس وكذلك في الآخر . وسيأتي إن شاء الله . والآيات التي احتج بها محمد بن نصر تدل على وجوب الإسلام وأنه دين الله وأن الله يحبه ويرضاه وأنه ليس له دين غيره وهذا كله حق ; لكن ليس في هذا ما يدل على أنه هو الإيمان ; بل ولا يدل على أن بمجرد الإسلام يكون الرجل من أهل الجنة كما ذكره في حجة القول الأول فإن الله وعد المؤمنين بالجنة في غير آية ولم يذكر هذا الوعد باسم الإسلام وحينئذ فمدحه وإيجابه ومحبة الله له تدل على دخوله في الإيمان ; وأنه بعض منه وهذا متفق عليه بين أهل السنة كلهم يقولون : كل مؤمن مسلم وكل من أتى بالإيمان الواجب فقد أتى بالإسلام الواجب لكن النزاع في العكس ; وهذا كما أن الصلاة يحبها الله ويأمر بها ويوجبها ويثني عليها وعلى أهلها في غير موضع ثم لم يدل ذلك على أن مسمى الصلاة مسمى الإيمان بل الصلاة تدخل في الإيمان فكل مؤمن مصل ولا يلزم أن يكون كل من صلى وأتى الكبائر مؤمنا . [ ص: 369 ] وجميع ما ذكره من الحجة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن فيها التفريق بين مسمى الإيمان والإسلام إذا ذكرا جميعا كما في حديث جبريل وغيره وفيها أيضا أن اسم الإيمان إذا أطلق دخل فيه الإسلام . قال أبو عبد الله بن حامد في كتابه المصنف في " أصول الدين " : قد ذكرنا أن الإيمان قول وعمل فأما الإسلام فكلام أحمد يحتمل روايتين . ( إحداهما أنه كالإيمان .

                ( والثانية : أنه قول بلا عمل . وهو نصه في رواية إسماعيل بن سعيد قال : والصحيح أن المذهب رواية واحدة أنه قول وعمل ويحتمل قوله : إن الإسلام قول يريد به أنه لا يجب فيه ما يجب في الإيمان من العمل المشروط فيه لأن الصلاة ليست من شرطه إذ النص عنه أنه لا يكفر بتركه الصلاة . قال : وقد قضينا أن الإسلام والإيمان اسمان لمعنيين وذكرنا اختلاف الفقهاء وقد ذكر قبل ذلك أن الإسلام والإيمان اسمان لمعنيين مختلفين وبه قال مالك وشريك وحماد بن زيد بالتفرقة بين الإسلام والإيمان قال : وقال أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة : إنهما اسمان معناهما واحد قال : ويفيد هذا أن الإيمان قد تنتفي عنه تسميته مع بقاء الإسلام عليه وهو بإتيان الكبائر التي ذكرت في الخبر فيخرج عن تسمية الإيمان إلا أنه مسلم ; فإذا تاب من ذلك عاد إلى ما كان عليه من الإيمان . ولا تنتفي عنه تسمية الإيمان بارتكاب الصغائر من الذنوب بل الاسم باق عليه ثم ذكر أدلة ذلك ولكن ما ذكره [ ص: 370 ] فيه أدلة كثيرة على من يقول : الإسلام مجرد الكلمة فإن الأدلة الكثيرة تدل على أن الأعمال من الإسلام ; بل النصوص كلها تدل على ذلك فمن قال : إن الأعمال الظاهرة المأمور بها ليست من الإسلام فقوله باطل بخلاف التصديق الذي في القلب فإن هذا ليس في النصوص ما يدل على أنه من الإسلام بل هو من الإيمان وإنما الإسلام الدين كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسلم وجهه وقلبه لله فإخلاص الدين لله إسلام وهذا غير التصديق ذاك من جنس عمل القلب وهذا من جنس علم القلب .

                وأحمد بن حنبل وإن كان قد قال في هذا الموضع : إن الإسلام هو الكلمة فقد قال في موضع آخر : إن الأعمال من الإسلام وهو اتبع هنا الزهري رحمه الله فإن كان مراد من قال ذلك إنه بالكلمة يدخل في الإسلام ولم يأت بتمام الإسلام فهذا قريب . وإن كان مراده أنه أتي بجميع الإسلام وإن لم يعمل فهذا غلط قطعا بل قد أنكر أحمد هذا الجواب وهو قول من قال : يطلق عليه السلام وإن لم يعمل متابعة لحديث جبريل فكان ينبغي أن يذكر قول أحمد جميعه . قال إسماعيل بن سعيد : سألت أحمد في الإسلام والإيمان فقال : " الإيمان " قول وعمل والإسلام الإقرار . وقال : وسألت أحمد عمن قال في الذي قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم إذ سأله عن الإسلام فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم ؟ فقال : نعم . فقال قائل : وإن لم يفعل الذي قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم فهو مسلم أيضا ؟ فقال : هذا معاند للحديث . [ ص: 371 ] فقد جعل أحمد من جعله مسلما إذا لم يأت بالخمس معاندا للحديث مع قوله : إن الإسلام الإقرار فدل ذلك على أن ذاك أول الدخول في الإسلام وأنه لا يكون قائما بالإسلام الواجب حتى يأتي بالخمس وإطلاق الاسم مشروط بها فإنه ذم من لم يتبع حديث جبريل . وأيضا فهو في أكثر أجوبته يكفر من لم يأت بالصلاة ; بل وبغيرها من المباني والكافر لا يكون مسلما باتفاق المسلمين فعلم أنه لم يرد أن الإسلام هو مجرد القول بلا عمل ; وإن قدر أنه أراد ذلك فهذا يكون أنه لا يكفر بترك شيء من المباني الأربعة . وأكثر الروايات عنه بخلاف ذلك والذين لا يكفرون من ترك هذه المباني يجعلونها من الإسلام كالشافعي ومالك وأبي حنيفة وغيرهم فكيف لا يجعلها أحمد من الإسلام وقوله في دخولها في الإسلام أقوى من قول غيره . وقد روي عنه أنه جعل حديث سعد معارضا لحديث عمر ورجح حديث سعد .

                قال الحسن بن علي : سألت أحمد بن حنبل عن الإيمان أوكد أو الإسلام ؟ قال : جاء حديث عمر هذا وحديث سعد أحب إلي . كأنه فهم أن حديث عمر يدل على أن الأعمال هي مسمى الإسلام فيكون مسماه أفضل . وحديث سعد يدل على أن مسمى الإيمان أفضل ولكن حديث عمر لم يذكر الإسلام إلا الأعمال الظاهرة فقط وهذه لا تكون إيمانا إلا مع الإيمان الذي في القلب بالله وملائكته وكتبه ورسله فيكون حينئذ بعض الإيمان فيكون مسمى الإيمان أفضل كما دل عليه حديث سعد فلا منافاة بين الحديثين : وأما تفريق أحمد بين الإسلام والإيمان فكان يقوله تارة وتارة يحكي [ ص: 372 ] الخلاف ولا يجزم به . وكان إذا قرن بينهما " تارة " يقول الإسلام الكلمة . " وتارة " لا يقول ذلك وكذلك التكفير بترك المباني كان تارة يكفر بها حتى يغضب ; وتارة لا يكفر بها . قال الميموني : قلت : يا أبا عبد الله تفرق بين الإسلام والإيمان ؟ قال : نعم . قلت بأي شيء تحتج ؟ قال : عامة الأحاديث تدل على هذا ثم قال : { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن } وقال الله تعالى : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } قال : وحماد بن زيد يفرق بين الإسلام والإيمان . قال : وحدثنا أبو سلمة الخزاعي قال : قال مالك وشريك وذكر قولهم وقول حماد بن زيد : فرق بين الإسلام والإيمان .

                قال أحمد : قال لي رجل : لو لم يجئنا في الإيمان إلا هذا لكان حسنا . قلت لأبي عبد الله : فتذهب إلى ظاهر الكتاب مع السنن ؟ قال : نعم . قلت : فإذا كانت المرجئة يقولون : إن الإسلام هو القول . قال : هم يصيرون هذا كله واحدا ويجعلونه مسلما ومؤمنا شيئا واحدا على إيمان جبريل ومستكمل الإيمان . قلت : فمن هاهنا حجتنا عليهم ؟ قال : نعم . فقد ذكر عنه الفرق مطلقا واحتجاجه بالنصوص . وقال صالح بن أحمد : سئل أبي عن الإسلام والإيمان قال : قال ابن أبي ذئب الإسلام : القول والإيمان : العمل . قيل له : ما تقول أنت ؟ قال : الإسلام غير الإيمان وذكر حديث سعد وقول النبي صلى الله عليه وسلم . [ ص: 373 ] فهو في هذا الحديث لم يختر قول من قال : الإسلام : القول ; بل أجاب بأن الإسلام غير الإيمان كما دل عليه الحديث الصحيح مع القرآن . وقال حنبل : حدثنا أبو عبد الله بحديث بريدة : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم : السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ; وإنا إن شاء الله بكم لاحقون } . . . الحديث . قال : وسمعت أبا عبد الله يقول في هذا الحديث : حجة على من قال : الإيمان قول . فمن قال : أنا مؤمن [ فقد خالف ] قوله : من المؤمنين والمسلمين . فبين المؤمن من المسلم ورد على من قال : أنا مؤمن مستكمل الإيمان وقوله : { وإنا إن شاء الله بكم لاحقون } وهو يعلم أنه ميت يشد قول من قال : أنا مؤمن إن شاء الله بالاستثناء في هذا الموضع . وقال أبو الحارث سألت : أبا عبد الله قلت : قوله : { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن } . قال : قد تأولوه فأما عطاء فقال : يتنحى عنه الإيمان . وقال طاووس : إذا فعل ذلك زال عنه الإيمان . وروي عن الحسن قال : إن رجع راجعه الإيمان . وقد قيل : يخرج من الإيمان إلى الإسلام ولا يخرج من الإسلام .

                وروى هذه المسألة صالح فإن مسائل أبي الحارث يرويها صالح أيضا . وصالح سأل أباه ع ن هذه القصة فقال فيها : هكذا يروى عن أبي جعفر قال : { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن } قال : يخرج من الإيمان إلى الإسلام فالإيمان مقصور في الإسلام [ ص: 374 ] فإذا زنى خرج من الإيمان إلى الإسلام . قال الزهري - يعني - لما روي حديث سعد : " أو مسلم " فنرى أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل قال أحمد : وهو حديث متأول والله أعلم . فقد ذكر أقوال التابعين ولم يرجح شيئا وذلك والله أعلم لأن جميع ما قالوه حق وهو يوافق على ذلك كله كما قد ذكر في مواضع أخر أنه يخرج من الإيمان إلى الإسلام ونحو ذلك وأحمد وأمثاله من السلف لا يريدون بلفظ التأويل صرف اللفظ عن ظاهره ; بل التأويل عندهم مثل التفسير وبيان ما يؤول إليه اللفظ كقول عائشة رضي الله عنها { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن } وإلا فما ذكره التابعون لا يخالف ظاهر الحديث بل يوافقه وقول أحمد يتأوله أي يفسر معناه ; وإن كان ذلك يوافق ظاهره لئلا يظن مبتدع أن معناه أنه صار كافرا لا إيمان معه بحال ; كما تقوله الخوارج فإن الحديث لا يدل على هذا . والذي نفى عن هؤلاء الإيمان كان يجعلهم مسلمين لا يجعلهم مؤمنين . قال المروذي : قيل لأبي عبد الله : نقول نحن المؤمنون ؟ فقال : نقول : نحن المسلمون .

                قلت لأبي عبد الله : نقول : إنا مؤمنون . قال : ولكن نقول : إنا مسلمون . وهذا لأن من أصله الاستثناء في الإيمان لأنه لا يعلم أنه مؤد لجميع ما أمره الله به فهو مثل قوله : أنا بر أنا تقي أنا ولي الله ; كما يذكر في [ ص: 375 ] موضعه ; وهذا لا يمنع ترك الاستثناء إذا أراد : إني مصدق فإنه يجزم بما في قلبه من التصديق ; ولا يجزم بأنه ممتثل لكل ما أمر به ; وكما يجزم بأنه يحب الله ورسوله فإنه يبغض الكفر ونحو ذلك مما يعلم أنه في قلبه ; وكذلك إذا أراد بأنه مؤمن في الظاهر ; فلا يمنع أن يجزم بما هو معلوم له ; وإنما يكره ما كرهه سائر العلماء من قول المرجئة إذ يقولون : الإيمان شيء متماثل في جميع أهله مثل كون كل إنسان له رأس ; فيقول أحدهم : أنا مؤمن حقا وأنا مؤمن عند الله ونحو ذلك ; كما يقول الإنسان : لي رأس حقا وأنا لي رأس في علم الله حقا : فمن جزم به على هذا الوجه فقد أخرج الأعمال الباطنة والظاهرة عنه ; وهذا منكر من القول وزور عند الصحابة والتابعين ومن اتبعهم من سائر المسلمين ; وللناس في " مسألة الاستثناء " كلام يذكر في موضعه

                التالي السابق


                الخدمات العلمية