الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                ومن العجب أن الأصل الذي أوقعهم في هذا اعتقادهم أنه لا يجتمع في الإنسان بعض الإيمان وبعض الكفر أو ما هو إيمان وما هو كفر واعتقدوا أن هذا متفق عليه بين المسلمين كما ذكر ذلك أبو الحسن وغيره فلأجل اعتقادهم هذا الإجماع وقعوا فيما هو مخالف للإجماع الحقيقي إجماع [ ص: 405 ] السلف الذي ذكره غير واحد من الأئمة ; بل وصرح غير واحد منهم بكفر من قال بقول جهم في الإيمان . ولهذا نظائر متعددة ; يقول الإنسان قولا مخالفا للنص والإجماع القديم حقيقة ويكون معتقدا أنه متمسك بالنص والإجماع .

                وهذا إذا كان مبلغ علمه واجتهاده ; فالله يثيبه على ما أطاع الله فيه من اجتهاده ويغفر له ما عجز عن معرفته من الصواب الباطن وهم لما توهموا أن الإيمان الواجب على جميع الناس نوع واحد ; صار بعضهم يظن أن ذلك النوع من حيث هو لا يقبل التفاضل . فقال لي مرة بعضهم : الإيمان من حيث هو إيمان لا يقبل الزيادة والنقصان . فقلت له : قولك من حيث هو ; كما تقول : الإنسان من حيث هو إنسان والحيوان من حيث هو حيوان والوجود من حيث هو وجود والسواد من حيث هو سواد وأمثال ذلك لا يقبل الزيادة والنقصان والصفات ; فتثبت لهذه المسميات وجودا مطلقا مجردا عن جميع القيود والصفات وهذا لا حقيقة له في الخارج وإنما هو شيء يقدره الإنسان في ذهنه كما يقدر موجودا لا قديما ولا حادثا ولا قائما بنفسه ولا بغيره ويقدر إنسانا لا موجودا ولا معدوما ويقول : الماهية من حيث هي هي لا توصف بوجود ولا عدم والماهية من حيث هي هي شيء يقدره الذهن وذلك موجود في الذهن لا في الخارج . وأما تقدير شيء لا يكون في الذهن ولا في الخارج فممتنع وهذا التقدير لا يكون إلا في الذهن كسائر تقدير الأمور الممتنعة ; مثل تقدير صدور العالم عن صانعين ونحو ذلك ; فإن هذه المقدرات في الذهن . [ ص: 406 ] فهكذا تقدير إيمان لا يتصف به مؤمن ; بل هو مجرد عن كل قيد . وتقدير إنسان لا يكون موجودا ولا معدوما ; بل ما ثم إيمان إلا مع المؤمنين ولا ثم إنسانية إلا ما اتصف بها الإنسان ; فكل إنسان له إنسانية تخصه وكل مؤمن له إيمان يخصه ; فإنسانية زيد تشبه إنسانية عمر وليست هي هي . وإذا اشتركوا في نوع الإنسانية فمعنى ذلك أنهما يشتبهان فيما يوجد في الخارج ويشتركان في أمر كلي مطلق يكون في الذهن . وكذلك إذا قيل : إيمان زيد مثل إيمان عمرو ; فإيمان كل واحد يخصه . فلو قدر أن الإيمان يتماثل لكان لكل مؤمن إيمان يخصه وذلك الإيمان مختص معين ليس هو الإيمان من حيث هو هو ; بل هو إيمان معين وذلك الإيمان يقبل الزيادة .

                والذين ينفون التفاضل في هذه الأمور يتصورون في أنفسهم إيمانا مطلقا أو إنسانا مطلقا أو وجودا مطلقا مجردا عن جميع الصفات المعينة له ثم يظنون أن هذا هو الإيمان الموجود في الناس وذلك لا يقبل التفاضل ولا يقبل في نفسه التعدد ; إذ هو تصور معين قائم في نفس متصوره . ولهذا يظن كثير من هؤلاء أن الأمور المشتركة في شيء واحد هي واحدة بالشخص والعين . حتى انتهى الأمر بطائفة من علمائهم علما وعبادة إلى أن جعلوا الوجود كذلك ; فتصوروا أن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود وتصوروا هذا في أنفسهم فظنوه في الخارج كما هو في أنفسهم ثم ظنوا أنه الله ; فجعلوا الرب هو هذا الوجود الذي لا يوجد قط إلا في نفس متصوره ; ولا يكون في الخارج . [ ص: 407 ] وهكذا كثير من الفلاسفة تصوروا أعدادا مجردة وحقائق مجردة ويسمونها المثل الأفلاطونية وزمانا مجردا عن الحركة والمتحرك وبعدا مجردا عن الأجسام وصفاتها ثم ظنوا وجود ذلك في الخارج وهؤلاء كلهم اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان وهؤلاء قد يجعلون الواحد اثنين والاثنين واحدا ; فتارة يجيئون إلى الأمور المتعددة المتفاضلة في الخارج فيجعلونها واحدة أو متماثلة وتارة يجيئون إلى ما في الخارج من الحيوان والمكان والزمان فيجعلون الواحد اثنين . والمتفلسفة والجهمية وقعوا في هذا وهذا فجاءوا إلى صفات الرب التي هي أنه عالم وقادر فجعلوا هذه الصفة هي عين الأخرى وجعلوا الصفة هي الموصوف . وهكذا القائلون بأن الإيمان شيء واحد وأنه متماثل في بني آدم غلطوا في كونه واحدا وفي كونه متماثلا كما غلطوا في أمثال ذلك من مسائل " التوحيد " و " الصفات " و " القرآن " ونحو ذلك ; فكان غلط جهم وأتباعه في الإيمان كغلطهم في صفات الرب الذي يؤمن به المؤمنون وفي كلامه وصفاته سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا . وكذلك السواد والبياض يقبل الاشتداد والضعف ; بل عامة الصفات التي يتصف بها الموصوفون تقبل التفاضل ; ولهذا كان العقل يقبل التفاضل والإيجاب والتحريم يقبل التفاضل فيكون إيجاب أقوى من إيجاب وتحريم أقوى من تحريم . وكذلك المعرفة التي في القلوب تقبل التفاضل [ ص: 408 ] على الصحيح عند أهل السنة وفي هذا كله نزاع فطائفة من المنتسبين إلى السنة تنكر التفاضل في هذا كله كما يختار ذلك القاضي أبو بكر وابن عقيل وغيرهما .

                وقد حكي عن أحمد في التفاضل في المعرفة روايتان . وإنكار التفاضل في هذه الصفات هو من جنس أصل قول المرجئة ولكن يقوله من يخالف المرجئة وهؤلاء يقولون : التفاضل إنما هو في الأعمال وأما الإيمان الذي في القلوب فلا يتفاضل وليس الأمر كما قالوه بل جميع ذلك يتفاضل وقد يقولون : إن أعمال القلب تتفاضل ; بخلاف معارف القلب وليس الأمر كذلك بل إيمان القلوب يتفاضل من جهة ما وجب على هذا ومن جهة ما وجب على هذا فلا يستوون في الوجوب . وأمة محمد وإن وجب عليهم جميعهم الإيمان بعد استقرار الشرع فوجوب الإيمان بالشيء المعين موقوف على أن يبلغ العبد إن كان خبرا وعلى أن يحتاج إلى العمل به إن كان أمرا وعلى العلم به إن كان علما وإلا فلا يجب على كل مسلم أن يعرف كل خبر وكل أمر في الكتاب والسنة ويعرف معناه ويعلمه ; فإن هذا لا يقدر عليه أحد .

                فالوجوب يتنوع بتنوع الناس فيه ; ثم قدرهم في أداء الواجب متفاوتة ; ثم نفس المعرفة تختلف بالإجمال والتفصيل والقوة والضعف ودوام الحضور ومع الغفلة فليست المفصلة المستحضرة الثابتة التي يثبت الله صاحبها بالقول [ ص: 409 ] الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة كالمجملة التي غفل عنها وإذا حصل له ما يريبه فيها وذكرها في قلبه ثم رغب إلى الله في كشف الريب . ثم أحوال القلوب وأعمالها مثل محبة الله ورسوله وخشية الله والتوكل عليه والصبر على حكمه والشكر له والإنابة إليه وإخلاص العمل له ما يتفاضل الناس فيها تفاضلا لا يعرف قدره إلا الله عز وجل ومن أنكر تفاضلهم في هذا فهو إما جاهل لم يتصوره وإما معاند . قال الإمام أحمد : فإن زعموا أنهم لا يقبلون زيادة الإيمان من أجل أنهم لا يدرون ما زيادته وأنها غير محدودة فما يقولون في أنبياء الله وكتبه ورسله ؟ هل يقرون بهم في الجملة ؟ ويزعمون أنه من الإيمان ; فإذا قالوا : نعم ; قيل لهم : هل تحدونهم وتعرفون عددهم ؟ أليس إنما يصيرون في ذلك إلى الإقرار بهم في الجملة ثم يكفون عن عددهم ؟ فكذلك زيادة الإيمان . وبين أحمد أن كونهم لم يعرفوا منتهى زيادته لا يمنعهم من الإقرار بها في الجملة ; كما أنهم يؤمنون بالأنبياء والكتب وهم لا يعرفون عدد الكتب والرسل . وهذا الذي ذكره أحمد وذكره محمد بن نصر وغيرهما يبين أنهم لم يعلموا عدد الكتب والرسل وأن حديث أبي ذر في ذلك لم يثبت عندهم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية