الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل وأما الأمر الطبي : فهو أن الحرير من الأدوية المتخذة من الحيوان ، ولذلك يعد في الأدوية الحيوانية ، لأن مخرجه من الحيوان وهو كثير المنافع جليل الموقع ، ومن خاصيته تقوية القلب وتفريحه والنفع من كثير من أمراضه ، ومن غلبة المرة السوداء والأدواء الحادثة عنها ; وهو مقو للبصر إذا اكتحل به والخام منه - وهو المستعمل في صناعة الطب - حار يابس في الدرجة الأولى . وقيل حار رطب فيها : وقيل معتدل . وإذا اتخذ منه ملبوس كان معتدل الحرارة في مزاجه ، مسخنا للبدن ، وربما برد البدن بتسمينه إياه .

قال الرازي : الإبريسم أسخن من الكتان وأبرد من القطن ، يربي اللحم ، وكل لباس خشن فإنه يهزل ويصلب البشرة وبالعكس .

قلت : والملابس ثلاثة أقسام : قسم يسخن البدن ويدفئه ، وقسم يدفئه ولا يسخنه ، وقسم لا يسخنه ولا يدفئه ، وليس هناك ما يسخنه ولا يدفئه ، إذ ما يسخنه فهو أولى بتدفئته ، فملابس الأوبار والأصواف تسخن وتدفئ ، وملابس الكتان والحرير والقطن تدفئ ولا تسخن ، فثياب الكتان باردة يابسة ، وثياب الصوف حارة يابسة ، وثياب القطن معتدلة الحرارة ، وثياب الحرير ألين من القطن وأقل حرارة منه .

قال صاحب " المنهاج " : ولبسه لا يسخن كالقطن بل هو معتدل ، وكل لباس أملس صقيل فإنه أقل إسخانا للبدن ، وأقل عونا في تحلل ما يتحلل منه ، وأحرى أن يلبس في الصيف وفي البلاد الحارة .

ولما كانت ثياب الحرير كذلك ، وليس فيها شيء من اليبس والخشونة [ ص: 73 ] الكائنين في غيرها صارت نافعة من الحكة ، إذ الحكة لا تكون إلا عن حرارة ويبس وخشونة ، فلذلك رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير وعبد الرحمن في لباس الحرير لمداواة الحكة ، وثياب الحرير أبعد عن تولد القمل فيها ، إذ كان مزاجها مخالفا لمزاج ما يتولد منه القمل .

وأما القسم الذي لا يدفئ ولا يسخن فالمتخذ من الحديد والرصاص والخشب والتراب ونحوها ، فإن قيل : فإذا كان لباس الحرير أعدل اللباس وأوفقه للبدن ، فلماذا حرمته الشريعة الكاملة الفاضلة التي أباحت الطيبات وحرمت الخبائث ؟

قيل : هذا السؤال يجيب عنه كل طائفة من طوائف المسلمين بجواب ، فمنكرو الحكم والتعليل لما رفعت قاعدة التعليل من أصلها لم يحتاجوا إلى جواب عن هذا السؤال .

ومثبتو التعليل والحكم - وهم الأكثرون - منهم من يجيب عن هذا بأن الشريعة حرمته لتصبر النفوس عنه ، وتتركه لله فتثاب على ذلك لا سيما ولها عوض عنه بغيره .

ومنهم من يجيب عنه بأنه خلق في الأصل للنساء كالحلية بالذهب ، فحرم على الرجال لما فيه من مفسدة تشبه الرجال بالنساء ، ومنهم من قال : حرم لما يورثه من الفخر والخيلاء والعجب . ومنهم من قال حرم لما يورثه بملامسته للبدن من الأنوثة والتخنث وضد الشهامة والرجولة ، فإن لبسه يكسب القلب صفة من صفات الإناث ؛ ولهذا لا تكاد تجد من يلبسه في الأكثر إلا وعلى شمائله من التخنث والتأنث والرخاوة ما لا يخفى ، حتى لو كان من أشهم الناس وأكثرهم فحولية ورجولية ، فلا بد أن ينقصه لبس الحرير منها ، وإن لم يذهبها ، ومن غلظت طباعه وكثفت عن فهم هذا فليسلم للشارع الحكيم ؛ ولهذا كان [ ص: 74 ] أصح القولين : أنه يحرم على الولي أن يلبسه الصبي لما ينشأ عليه من صفات أهل التأنيث .

وقد روى النسائي من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن الله أحل لإناث أمتي الحرير والذهب : وحرمه على ذكورها ) وفي لفظ ( حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم )

وفي " صحيح البخاري " عن حذيفة قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير والديباج ، وأن يجلس عليه ، وقال : ( هو لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية