الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإذا أردت التحقيق ففصل فإن للصبر درجات أقلها ترك الشكوى مع ، الكراهية ووراءها الرضا وهو الرضا وهو مقام وراء الصبر ، ووراءه الشكر على البلاء ، وهو وراء الرضا ؛ إذ الصبر مع التألم ، والرضا يمكن بما لا ألم فيه ولا فرح ، والشكر لا يمكن إلا على محبوب مفروح به ، وكذلك الشكر درجات كثيرة ذكرنا أقصاها ، ويدخل في جملتها أمور دونها : فإن حياء العبد من تتابع نعم الله عليه شكر ، ومعرفته بتقصيره عن الشكر شكر ، والاعتذار من قلة الشكر شكر ، والمعرفة بعظيم حلم الله ، وكنف ستره شكر ، والاعتراف بأن النعم ابتداء من الله تعالى من غير استحقاق شكر ، والعلم بأن الشكر أيضا نعمة من نعم الله وموهبة منه شكر ، وحسن التواضع للنعم والتذلل فيها شكر ، وشكر الوسائط شكر ؛ إذ قال عليه : السلام من لم يشكر الناس لم يشكر الله وقد ذكرنا حقيقة ذلك في كتاب أسرار الزكاة وقلة الاعتراض ، وحسن الأدب بين يدي المنعم شكر ، وتلقي النعم بحسن القبول واستعظام صغيرها شكر ؛

وما يندرج من الأعمال والأحوال تحت اسم الشكر والصبر لا تنحصر آحادها ، وهي درجات مختلفة ، فكيف يمكن إجمال القول بتفضيل أحدهما على الآخر إلا على سبيل إرادة الخصوص باللفظ العام ، كما ورد في الأخبار والآثار

وقد روي عن بعضهم أنه قال : رأيت في بعض الأسفار شيخا كبيرا قد طعن في السن فسألته عن حاله ، فقال : إني كنت في ابتداء عمري أهوى : ابنة عم لي ، وهي كذلك كانت تهواني : فاتفق أنها زوجت مني فليلة زفافها قلت : تعالى حتى نحيي هذه الليلة شكرا لله تعالى على ما جمعنا : فصلينا تلك الليلة ، ولم يتفرغ أحدنا إلى صاحبه فلما كانت الليلة الثانية قلنا مثل ذلك فصلينا طول الليل فمنذ سبعين أو ثمانين سنة نحن على تلك الحالة كل ليلة أليس كذلك يا فلانة قالت العجوز : هو كما يقول الشيخ فانظر إليهما لو صبرا على بلاء الفرقة أو لو لم يجمع الله بينهما ، وانسب صبر الفرقة إلى شكر الوصال على هذا الوجه فلا يخفى عليك أن هذا الشكر أفضل ، فإذا لا وقوف على حقائق المفضلات إلا بتفضيل كما سبق والله أعلم

.

التالي السابق


(فإذا أردت التحقيق ففصل فإن للصبر درجات أقلها ترك الشكوى مع الكراهة، ووراءها الرضا) بمقدور الله تعالى (وهو مقام وراء الصبر، ووراءه الشكر على البلاء، وهو) مقام (وراء الرضا؛ إذ الصبر مع التألم، والرضا يمكن بما لا ألم فيه ولا فرح، والشكر لا يمكن إلا على محبوب مفروح به، وكذلك للشكر درجات كثيرة ذكرنا أقصاها، ويدخل في جملتها أمور دونها) أي: دون تلك الدرجات. (فإن) توفيقنا للحسنى، وتيسيرنا لليسرى، ثم صرف الكفر وأخلاق الكفرة وأعمالهم، ثم تزيين الإيمان وتحبيبه إلينا، وتكريه الفسوق والعصيان، فضلا منه ومنة، من جملة النعم بعد الإيمان، فشكر ذلك لا يقام به إلا بما وهب وأنعم به من المعرفة بذلك والمعونة .

و (حياء العبد من تتابع نعم الله عليه شكر، ومعرفته بتقصيره عن الشكر شكر، والاعتذار من قلة الشكر شكر، والمعرفة بعظيم حلم الله، وكنف ستره شكر، والاعتراف بأن النعم ابتداء من الله تعالى من غير استحقاق) من العبد بل مضاف إلى نعمه (شكر، والعلم بأن الشكر أيضا نعمة من نعم الله وموهبة منه شكر، وحسن التواضع بالنعم والتذلل فيها شكر، وشكر الوسائط) بالدعاء لهم وحسن الثناء عليهم بأنهم ظروف للعطاء وأسباب المعطي تخلقا بأخلاق المولى (شكر؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: من لم يشكر الناس لم يشكر الله) رواه أحمد والترمذي من حديث أبي سعيد وابن جرير من حديث أبي هريرة، والطبراني من حديث جرير، وقد تقدم في كتاب الزكاة. (وقد ذكرنا حقيقة ذلك في كتاب أسرار الزكاة) فليرجع إليه .

(وقلة الاعتراض، وحسن الأدب بين يدي المنعم شكر، وتلقي النعم بحسن القبول واستعظام صغيرها) وتعظيم تحقيرها (شكر؛ لأن طائفة هلكت باستصغار الأشياء واستحقار وجود المنافع بها جهلا بحكمة الله تعالى) واستصغار النعمة، وكان ذلك كفرا بالنعم، (وما يندرج من الأعمال والأحوال تحت اسم الشكر والصبر لا تنحصر آحادها، وهي درجات مختلفة، فكيف يمكن إجمال القول بتفضيل أحدها على الآخر إلا على سبيل إرادة الخصوص في اللفظ العام، كما ورد في الأخبار والآثار) على ما تقدم ذكرها. (وقد روي) كذا في النسخ، والأولى حكي كما هو نص الرسالة (عن بعضهم أنه قال: رأيت في بعض الأسفار شيخا كبيرا قد طعن بالسن) كثيرا وعنده عجوز (فسألته عن حاله، فقال: إني كنت في ابتداء عمري أهوى) أي: أحب (ابنة عم لي، وهي كذلك تهواني) أي: تحبني (فاتفق أنها زوجت مني فليلة زفافها) وفي بعض نسخ الرسالة: فلما زفت إلي بالليل (قلت: تعالي نحيي هذه الليلة شكرا لله تعالى على ما جمعنا) أي: على اجتماعنا على وجه حلال (فصليا تلك الليلة، ولم يتفرغ أحدنا إلى صاحبه) لينال شهوته منه (فلما كانت الليلة الثانية قلنا مثل ذلك) مع [ ص: 163 ] زيادة أي قال كل منا لصاحبه: تعالى نحيي هذه الليلة شكرا لله تعالى على ما من علينا به من الاجتماع، وما وفقنا له من الشكر (فصلينا طول الليلة) ودمنا على ذلك (فمنذ سبعين أو ثمانين سنة ونحن على تلك الحالة) وفي بعض نسخ الرسالة على تلك الصفة (كل ليلة) ثم قال هو لها (أليس) الأمر (كذلك يا فلانة) وسماها باسمها (قالت) له (العجوز: هو كما يقول الشيخ) . وهكذا يكون حال من عرف مقدار النعم، ورغب في تواليها عليه، فيشكرها بالعقل والقلب واللسان. هكذا أورد هذه القصة القشيري في الرسالة .

(فانظر إليهما لو صبرا على بلاء الفرقة أن لو لم يجمع الله بينهما، وانسب صبر الفرقة إلى شكر الوصال على هذا الوجه) وفائدة ذكر العجوز والشيخ الإعلام بأنهما داما على الاشتغال بالله من حالة الصبا إلى تلك الحالة. (فلا يخفى عليك أن هذا الشكر أفضل، فإذا لا وقوف على حال حقائق المفضلات إلا بتفصيل كما سبق) وأما ترجيح بعض على بعض على الإطلاق من غير اطلاع على حقائق المفضلات، فلا تحقق فيه؛ لأن من اطلع على مقاصد الشريعة ووسائلها عرف الفاضل والأفضل من نفس الحقائق، واطلع على حكمة الشرع في ذلك .

(والله تعالى أعلم) وبه تم كتاب الصبر والشكر، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد أفضل المخلوقات، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى ما بعد يوم الممات، قال مؤلفه: وكان الفراغ من تحرير ذلك في الثالثة من ليلة الثلاثاء سادس عشر شعبان 1200، وكتبه مؤلفه المذكور أستاذنا أبو الفيض سيدي محمد مرتضى الحسيني غفر الله له بمنه وكرمه حامدا لله ومصليا ومستغفرا .




الخدمات العلمية