الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
المسألة الرابعة

وهي موجب القسامة عند القائلين بها

أجمع جمهور العلماء القائلون بها أنها لا تجب إلا بشبهة . واختلفوا في الشبهة ما هي ؟ فقال الشافعي : إذا كانت الشبهة في معنى الشبهة التي قضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقسامة وهو أن يوجد قتيل في محلة قوم لا يخالطهم غيرهم ، وبين أولئك القوم ، وبين قوم المقتول عداوة كما كانت العداوة بين الأنصار واليهود ، وكانت خيبر دار اليهود مختصة بهم ، ووجد فيها القتيل من الأنصار ، قال : وكذلك لو وجد في ناحية قتيل وإلى جانبه رجل مختضب بالدم ، وكذلك لو دخل على نفر في بيت فوجد بينهم قتيلا وما أشبه هذه الشبه مما يغلب على ظن الحكام أن المدعي محق لقيام تلك الشبهة .

وقال مالك بنحو من هذا ( أعني : أ‍ن القسامة لا تجب إلا بلوث ) ، والشاهد الواحد عنده إذا كان عدلا لوث باتفاق عند أصحابه ، واختلفوا إذا لم يكن عدلا . وكذلك وافق الشافعي في قرينة الحال المخيلة مثل أن يوجد قتيل متشحطا بدمه وبقربه إنسان بيده حديدة مدماة ، إلا أن مالكا يرى أن وجود القتيل في المحلة ليس لوثا ، وإن كانت هنالك عداوة بين القوم الذين منهم القتيل وبين أهل المحلة ، وإذا كان ذلك كذلك لم يبق هاهنا شيء يجب أن يكون أصلا لاشتراط اللوث في وجوبها ، ولذلك لم يقل بها قوم .

[ ص: 745 ] وقال أبو حنيفة وصاحباه : إذا وجد قتيل في محلة قوم وبه أثر وجبت القسامة على أهل المحلة .

ومن أهل العلم من أوجب القسامة بنفس وجود القتيل في المحلة دون سائر الشرائط التي اشترط الشافعي ، ودون وجود الأثر بالقتيل الذي اشترطه أبو حنيفة ، وهو مروي عن عمر وعلي وابن مسعود ، وقال به الزهري وجماعة من التابعين وهو مذهب ابن حزم قال : القسامة تجب متى وجد قتيل لا يعرف من قتله أينما وجد ، فادعى ولاة الدم على رجل وحلف منهم خمسون رجلا خمسين يمينا ; فإن هم حلفوا على العمد فالقود وإن حلفوا على الخطأ فالدية ، وليس يحلف عنده أقل من خمسين رجلا ، وعند مالك رجلان فصاعدا من أولئك .

وقال داود : لا أقضي بالقسامة إلا في مثل السبب الذي قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وانفرد مالك والليث من بين فقهاء الأمصار القائلين بالقسامة ، فجعلا قول المقتول فلان قتلني لوثا يوجب القسامة .

وكل قال بما غلب على ظنه أنه شبهة يوجب القسامة ولمكان الشبهة رأى تبدئة المدعين بالأيمان من رأى ذلك منهم ، فإن الشبه عند مالك تنقل اليمين من المدعى عليه إلى المدعي ، إذ سبب تعليق الشرع عنده اليمين بالمدعى عليه ، إنما هو لقوة شبهته فيما ينفيه عن نفسه ، وكأنه شبه ذلك باليمين مع الشاهد في الأموال .

وأما القول بأن نفس الدعوى شبهة فضعيف ومفارق للأصول والنص لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " لو يعطى الناس بدعاويهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه " وهو حديث ثابت من حديث ابن عباس ، وخرجه مسلم في صحيحه ، وما احتجت به المالكية من قصة بقرة بني إسرائيل فضعيف ; لأن التصديق هنالك أسند إلى الفعل الخارق للعادة .

واختلف الذين أوجبوا القود بالقسامة هل يقتل بها أكثر من واحد ؟ فقال مالك : لا تكون القسامة إلا على واحد ، وبه قال : أحمد بن حنبل ، وقال أشهب : يقسم على الجماعة ويقتل منها واحد يعينه الأولياء ، وهو ضعيف ، وقال المغيرة المخزومي : كل من أقسم عليه قتل ، وقال مالك والليث : إذا شهد اثنان عدلان أن إنسانا ضرب آخر وبقي المضروب أياما بعد الضرب ثم مات أقسم أولياء المضروب إنه مات من ذلك الضرب وقيد به ، وهذا كله ضعيف .

واختلفوا في القسامة في العبد ، فبعض أثبتها ، وبه قال أبو حنيفة تشبيها بالحر ، وبعض نفاها تشبيها بالبهيمة ، وبها قال مالك ، والدية عندهم فيها في مال القاتل .

ولا يحلف فيها أقل من خمسين رجلا خمسين يمينا عند مالك ، ولا يحلف عنده أقل من اثنين في الدم ويحلف الواحد في الخطأ .

وإن نكل عنده أحد من ولاة الدم بطل القود وصحت الدية في حق من لم ينكل ( أعني : حظه منها ) . وقال الزهري : إن نكل منهم أحد بطلت الدية في حق الجميع ، وفروع هذا الباب كثيرة .

قال القاضي : والقول في القسامة هو داخل فيما تثبت به الدماء ، وهو في الحقيقة جزء من كتاب الأقضية ، ولكن ذكرناه هنا على عادتهم ، وذلك أنه إذا ورد قضاء خاص بجنس من أجناس الأمور الشرعية [ ص: 746 ] رأوا أن الأولى أن يذكر في ذلك الجنس . وأما القضاء الذي يعم أكثر من جنس واحد من أجناس الأشياء التي يقع فيها القضاء فيذكر في كتاب الأقضية ، وقد تجدهم يفعلون الأمرين جميعا كما فعل مالك في الموطأ ، فإنه ساق فيه الأقضية من كل كتاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية