الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 551 ] فصل إذا عرف أن أصل الإيمان في القلب فاسم " الإيمان " تارة يطلق على ما في القلب من الأقوال القلبية والأعمال القلبية من التصديق والمحبة والتعظيم ونحو ذلك وتكون الأقوال الظاهرة والأعمال لوازمه وموجباته ودلائله وتارة على ما في القلب والبدن جعلا لموجب الإيمان ومقتضاه داخلا في مسماه وبهذا يتبين أن الأعمال الظاهرة تسمى إسلاما وأنها تدخل في مسمى الإيمان تارة ولا تدخل فيه تارة . وذلك أن الاسم الواحد تختلف دلالته بالإفراد والاقتران فقد يكون عند الإفراد فيه عموم لمعنيين وعند الاقتران لا يدل إلا على أحدهما كلفظ الفقير والمسكين إذا أفرد أحدهما تناول الآخر وإذا جمع بينهما كان لكل واحد مسمى يخصه وكذلك لفظ المعروف والمنكر إذا أطلقا كما في قوله تعالى { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر } دخل فيه الفحشاء والبغي وإذا قرن بالمنكر أحدهما كما في قوله : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } أو كلاهما كما في قوله تعالى { وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي } كان اسم المنكر مختصا بما خرج من ذلك على قول أو متناولا للجميع على قول - بناء على [ ص: 552 ] أن الخاص المعطوف على العام هل يمنع شمول العام له ؟ أو يكون قد ذكر مرتين فيه نزاع - والأقوال والأعمال الظاهرة ( نتيجة الأعمال الباطنة ولازمها .

                وإذا أفرد اسم " الإيمان " فقد يتناول هذا وهذا كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم { الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق } . وحينئذ فيكون الإسلام داخلا في مسمى الإيمان وجزءا منه فيقال حينئذ : إن " الإيمان " اسم لجميع الطاعات الباطنة والظاهرة . ومنه { قوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس آمركم بالإيمان بالله أتدرون ما الإيمان بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وتؤدوا خمس المغنم } أخرجاه في الصحيحين . ففسر الإيمان هنا بما فسر به الإسلام لأنه أراد بالشهادتين هنا أن يشهد بهما باطنا وظاهرا وكان الخطاب لوفد عبد القيس وكانوا من خيار الناس وهم أول من صلى الجمعة ببلدهم بعد جمعة أهل المدينة كما { قال ابن عباس : أول جمعة جمعت في الإسلام بعد جمعة المدينة جمعة بجواثى - قرية من قرى البحرين - وقالوا يا رسول الله إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام فمرنا بأمر فصل نعمل به وندعو إليه من وراءنا وأرادوا بذلك أهل نجد من تميم وأسد وغطفان وغيرهم كانوا كفارا } فهؤلاء كانوا صادقين راغبين في طلب الدين فإذا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 553 ] بأقوال وأعمال ظاهرة فعلوها باطنا وظاهرا فكانوا بها مؤمنين . وأما إذا قرن الإيمان بالإسلام ; فإن الإيمان في القلب والإسلام ظاهر كما في " المسند " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الإسلام علانية والإيمان في القلب والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره } ومتى حصل له هذا الإيمان وجب ضرورة أن يحصل له الإسلام الذي هو الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج ; لأن إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله يقتضي الاستسلام لله . والانقياد له وإلا فمن الممتنع أن يكون قد حصل له الإقرار والحب والانقياد باطنا ولا يحصل ذلك في الظاهر مع القدرة عليه كما يمتنع وجود الإرادة الجازمة مع القدرة بدون وجود المراد . وبهذا تعرف أن من آمن قلبه إيمانا جازما امتنع أن لا يتكلم بالشهادتين مع القدرة فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام ; وبهذا يظهر خطأ جهم ومن اتبعه في زعمهم أن مجرد إيمان بدون الإيمان الظاهر ينفع في الآخرة ; فإن هذا ممتنع إذ لا يحصل الإيمان التام في القلب إلا ويحصل في الظاهر موجبه بحسب القدرة فإن من الممتنع أن يحب الإنسان غيره حبا جازما وهو قادر على مواصلته ولا يحصل منه حركة ظاهرة إلى ذلك .

                وأبو طالب إنما كانت محبته للنبي صلى الله عليه وسلم لقرابته منه لا لله وإنما [ ص: 554 ] نصره وذب عنه لحمية النسب والقرابة ; ولهذا لم يتقبل الله ذلك منه وإلا فلو كان ذلك عن إيمان في القلب لتكلم بالشهادتين ضرورة والسبب الذي أوجب نصره للنبي صلى الله عليه وسلم - وهو الحمية - هو الذي أوجب امتناعه من الشهادتين بخلاف أبي بكر الصديق ونحوه قال الله تعالى { وسيجنبها الأتقى } { الذي يؤتي ماله يتزكى } { وما لأحد عنده من نعمة تجزى } { إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } { ولسوف يرضى } ومنشأ الغلط في هذه المواضع من وجوه . ( أحدها ) أن العلم والتصديق مستلزم لجميع موجبات الإيمان . ( الثاني ) : ظن الظان أن ما في القلوب لا يتفاضل الناس فيه . ( الثالث ) ظن الظان أن ما في القلب من الإيمان المقبول يمكن تخلف القول الظاهر والعمل الظاهر عنه . ( الرابع ) : ظن الظان أن ليس في القلب إلا التصديق وأن ليس الظاهر إلا عمل الجوارح . والصواب أن القلب له عمل مع التصديق والظاهر قول ظاهر وعمل ظاهر وكلاهما مستلزم للباطن .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية