الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

في هديه - صلى الله عليه وسلم - في علاج لدغة العقرب بالرقية

روى ابن أبي شيبة في " مسنده " ، من حديث عبد الله بن مسعود قال : ( بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ، إذ سجد فلدغته عقرب في أصبعه فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : " لعن الله العقرب ما تدع نبيا ولا غيره " ، قال : ثم دعا بإناء فيه ماء وملح [ ص: 166 ] فجعل يضع موضع اللدغة في الماء والملح ، ويقرأ : ( قل هو الله أحد ) والمعوذتين حتى سكنت ) .

ففي هذا الحديث العلاج بالدواء المركب من الأمرين : الطبيعي والإلهي ، فإن في سورة الإخلاص من كمال التوحيد العلمي الاعتقادي ، وإثبات الأحدية لله ، المستلزمة نفي كل شركة عنه ، وإثبات الصمدية المستلزمة لإثبات كل كمال له مع كون الخلائق تصمد إليه في حوائجها ، أي : تقصده الخليقة وتتوجه إليه علويها وسفليها ، ونفي الوالد والولد ، والكفء عنه المتضمن لنفي الأصل والفرع والنظير والمماثل مما اختصت به وصارت تعدل ثلث القرآن ، ففي اسمه الصمد إثبات كل الكمال ، وفي نفي الكفء التنزيه عن الشبيه والمثال . وفي الأحد نفي كل شريك لذي الجلال ، وهذه الأصول الثلاثة هي مجامع التوحيد .

وفي المعوذتين الاستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلا ، فإن الاستعاذة من شر ما خلق تعم كل شر يستعاذ منه ، سواء كان في الأجسام ، أو الأرواح .

والاستعاذة من شر الغاسق وهو الليل ، وآيته وهو القمر إذا غاب ، تتضمن الاستعاذة من شر ما ينتشر فيه من الأرواح الخبيثة ، التي كان نور النهار يحول بينها وبين الانتشار ، فلما أظلم الليل عليها وغاب القمر انتشرت وعاثت .

والاستعاذة من شر النفاثات في العقد تتضمن الاستعاذة من شر السواحر وسحرهن .

والاستعاذة من شر الحاسد تتضمن الاستعاذة من النفوس الخبيثة المؤذية بحسدها ونظرها .

والسورة الثانية تتضمن الاستعاذة من شر شياطين الإنس والجن فقد [ ص: 167 ] جمعت السورتان الاستعاذة من كل شر ، ولهما شأن عظيم في الاحتراس والتحصن من الشرور قبل وقوعها ، ولهذا أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - عقبة بن عامر بقراءتهما عقب كل صلاة ، ذكره الترمذي في " جامعه " وفي هذا سر عظيم في استدفاع الشرور من الصلاة إلى الصلاة . وقال : ما تعوذ المتعوذون بمثلهما . وقد ذكر أنه - صلى الله عليه وسلم - سحر في إحدى عشرة عقدة ، وأن جبريل نزل عليه بهما ، فجعل كلما قرأ آية منهما انحلت عقدة ، حتى انحلت العقد كلها ، وكأنما أنشط من عقال .

وأما العلاج الطبيعي فيه ، فإن في الملح نفعا لكثير من السموم ، ولا سيما لدغة العقرب ، قال صاحب " القانون " : يضمد به مع بزر الكتان للسع العقرب ، وذكره غيره أيضا . وفي الملح من القوة الجاذبة المحللة ما يجذب السموم ويحللها ، ولما كان في لسعها قوة نارية تحتاج إلى تبريد وجذب وإخراج ، جمع بين الماء المبرد لنار اللسعة ، والملح الذي فيه جذب وإخراج ، وهذا أتم ما يكون من العلاج ، وأيسره ، وأسهله ، وفيه تنبيه على أن علاج هذا الداء بالتبريد والجذب والإخراج والله أعلم .

وقد روى مسلم في " صحيحه " عن أبي هريرة قال : ( جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ! ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة فقال : " أما لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك ) .

واعلم أن الأدوية الطبيعية الإلهية تنفع من الداء بعد حصوله ، وتمنع من وقوعه ، وإن وقع لم يقع وقوعا مضرا ، وإن كان مؤذيا ، والأدوية الطبيعية إنما تنفع ، بعد حصول الداء فالتعوذات والأذكار ، إما أن تمنع وقوع هذه الأسباب ، وإما أن تحول بينها وبين كمال تأثيرها بحسب كمال التعوذ وقوته وضعفه ، فالرقى [ ص: 168 ] والعوذ تستعمل لحفظ الصحة ، ولإزالة المرض ، أما الأول فكما في " الصحيحين " من حديث عائشة : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه ( قل هو الله أحد ) والمعوذتين . ثم يمسح بهما وجهه ، وما بلغت يده من جسده ) .

وكما في حديث عوذة أبي الدرداء المرفوع : ( اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت ، عليك توكلت ، وأنت رب العرش العظيم ) ، وقد تقدم وفيه : من قالها أول نهاره لم تصبه مصيبة حتى يمسي ، ومن قالها آخر نهاره لم تصبه مصيبة حتى يصبح . وكما في " الصحيحين " : ( من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ) .

وكما في " صحيح مسلم " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من نزل منزلا فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك ) .

وكما في " سنن أبي داود " : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في السفر يقول بالليل : " يا أرض ربي وربك الله ، أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك ، وشر ما يدب عليك ، أعوذ بالله من أسد وأسود ، ومن الحية والعقرب ، ومن ساكن البلد ومن والد وما ولد ) .

[ ص: 169 ] وأما الثاني : فكما تقدم من الرقية بالفاتحة ، والرقية للعقرب وغيرها مما يأتي .

التالي السابق


الخدمات العلمية