الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في أصناف كفارة اليمين بالله تعالى

                                                                                                                                                                                        كفارة اليمين بالله تعالى أربعة أصناف، حسب ما ذكره في كتابه في قوله تعالى: فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم . . . الآية [المائدة: 89].

                                                                                                                                                                                        والإطعام غداء وعشاء، قال مالك : ومن كفر بالمدينة; فمد بمد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما البلدان; فإن لهم عيشا غير عيشنا; فليكفروا بالأوسط من عيشهم. قال ابن القاسم : وإن كفر بمد النبي - صلى الله عليه وسلم - حيثما كفر أجزأه .

                                                                                                                                                                                        وقول مالك أبين، فإن كان قوم الوسط من عيشهم أكثر من مد النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأوسط من عيشهم. وإن كان أقل; جاز له أن يقتصر على الوسط من عيشهم، وأن يبلغ مد النبي - صلى الله عليه وسلم -; لأن القرآن ورد مقيدا. وهذا في القمح وإن كان عيشهم الشعير أو التمر; أخرج الوسط من عيشهم من ذلك الصنف، ولا يراعى المد. واختلف هل يخرج مع ذلك الإدام، فقال ابن حبيب : لا يجزئه الخبز قفارا

                                                                                                                                                                                        وفي شرح ابن مزين : يجزئه. والأول أحسن; لقول الله تعالى: من أوسط ما تطعمون ، وذلك يقتضي الإدام وغيره، ومعلوم أنه أراد بذلك الوسط في الجودة والدناءة، وإذا أخرجه بغير إدام ; كان عدم الإدام في معنى الدناءة. [ ص: 1700 ]

                                                                                                                                                                                        واختلف في صفة الإدام، فقيل: الزيت يجزئ من ذلك. وقال ابن سيرين : أفضله الخبز واللحم، وأوسطه الخبز والسمن، وأخشنه الخبز والتمر.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن حبيب في الإدام: الزيت أو اللبن أو القطنية أو لحم أو بقل .

                                                                                                                                                                                        واختلف هل المراد بالأهل: أهل المكفر، أو أهل البلد الذي هو فيه؟ فقال في المدونة: يخرج من عيش البلد الذي هو فيه . وقال في كتاب محمد : من عيش المكفر .

                                                                                                                                                                                        وهو أحسن، ومحمل الآية على الأهل الأخص حتى يعلم غيره; ولأن إطلاق الأمر على أهله حقيقة، وعلى أهل البلد مجاز.

                                                                                                                                                                                        فإن كان يأكل القمح; لم يجزئه الشعير، وإن كان ذلك عيش أهل ذلك البلد.

                                                                                                                                                                                        وإن كان يأكل الشعير; أجزأه، وإن كان عيش أهل البلد القمح.

                                                                                                                                                                                        قال ابن حبيب : إلا أن يكون فعل ذلك مع سعة، ومثله يأكل القمح; فلا يجزئه الشعير .

                                                                                                                                                                                        وأما القدر; فقال في المدونة: قدر قوت البلد . وعلى القول الآخر أن [ ص: 1701 ] محمل الآية على أهل المكفر: يخرج الوسط أيضا من قدر أكلهم. فقد يكون المكفر وأهله لهم أكل; فلا يجزئهم قدر ما يأكله أهل البلد. أو يكون هو وأهله قليلي الأكل، فلا يكون عليه أن يبلغوا إلى عادة البلد، وإلى هذا ذهب ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك ، وقالوا: إن كان ممن يشبع أهله; أشبع المساكين العشرة. وإن كان لا يشبعهم لعجزه; أطعم المساكين العشرة على قدر ما يفعل مع أهله في عسره ويسره .

                                                                                                                                                                                        وقال محمد بن سيرين والأوزاعي وأبو عبيدة : يجزئهم أكلة واحدة غداء أو عشاء، وروي ذلك عن الحسن .

                                                                                                                                                                                        وفي الترمذي : أن النبي أعطى المظاهر ليكفر عن ظهاره عرقا، قال: وهو مكتل يأخذ خمسة عشر صاعا، أو ستة عشر صاعا. فقال: "أطعم ستين مسكينا" . وفي بعض طرقه: "أنه كان تمرا" . فينوب كل مسكين مد أو مد تمر قوت يومه، وحمل الآية على أقل ما يتضمنه الأمر، وهو فعل مرة.

                                                                                                                                                                                        وإذا أخرج الوسط من شبع أهل البلد أو من شبع أهله على الاختلاف [ ص: 1702 ] المتقدم; لم ينظر إلى الفقير المعطى إن كان أكولا لا يشبعه، أو كان فيه فضلة; لأنه قليل الأكل أو مريض أو صغير.

                                                                                                                                                                                        ويجوز أن يعطي الفطيم، واختلف في الرضيع، والقياس: أن لا يجزئ . ويعطي الحر المسلم الفقير الذي لا يلزم المعطي نفقته .

                                                                                                                                                                                        وإن أعطى عبدا أو كافرا أو غنيا، لم يجزئه إن كان عالما .

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا لم يعلم: هل يجزئ؟ وهذا إذا فاتت، فإن كانت قائمة; انتزعت منهم، وصرفت لمن يجوز. وإن ضاعت من أيديهم لم يضمنوها، إلا أن يعلموا أنها كفارة وغروا من أنفسهم; فيضمنوا.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا لم يعلموا وأكلوها، وصانوا بها أموالهم: هل يغرمونها؟.

                                                                                                                                                                                        وأن يغرموها أحسن لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار" . فإذا غرموا ما صانوا به أموالهم; لم يضروا بشيء. وهذا على القول أنها لا تجزئ المكفر، وأما على القول أنها تجزئه فيغرمونها; لأن ذلك من باب الاستحقاق، والمستحق غير المتسلط، وهم المساكين. وأن لا تجزئه الكفارة في جميع هذه الوجوه أحسن، بخلاف الزكاة; لأن الكفارة في الذمة، وقد خوطب بأن يطعم المساكين أو يكسوهم، وليس بأن يخرج ذلك. وخوطب في الزكاة بأن يخرج ذلك القدر. [ ص: 1703 ]

                                                                                                                                                                                        فإن عزله ثم ضاع; برئ. فالخطأ وقع على ما قد برئت ذمته منه قبل، كما لو أخطأ الإمام.

                                                                                                                                                                                        ولو ضاعت الكفارة قبل أن يعطيها لم يبرأ. وإن دفعت المرأة مدا من كفارتها لزوجها وهو فقير أجزأها. وكذلك إن أعطته ولدها صغارا كانوا أو كبارا; لأن نفقتهم غير لازمة لها.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية