الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

في تدبيره لأمر النوم واليقظة

من تدبر نومه ويقظته - صلى الله عليه وسلم - وجده أعدل نوم ، وأنفعه للبدن والأعضاء والقوى ، فإنه كان ينام أول الليل ، ويستيقظ في أول النصف الثاني ، فيقوم ويستاك ، ويتوضأ ويصلي ما كتب الله له ، فيأخذ البدن والأعضاء ، والقوى حظها من النوم والراحة ، وحظها من الرياضة مع وفور الأجر ، وهذا غاية صلاح القلب والبدن ، والدنيا والآخرة .

ولم يكن يأخذ من النوم فوق القدر المحتاج إليه ، ولا يمنع نفسه من القدر المحتاج إليه منه ، وكان يفعله على أكمل الوجوه ، فينام إذا دعته الحاجة إلى النوم على شقه الأيمن ، ذاكرا الله حتى تغلبه عيناه ، غير ممتلئ البدن من الطعام والشراب ، ولا مباشر بجنبه الأرض ، ولا متخذ للفرش المرتفعة ، بل له ضجاع من أدم حشوه ليف ، وكان يضطجع على الوسادة ، ويضع يده تحت خده أحيانا .

[ ص: 220 ] ونحن نذكر فصلا في النوم والنافع منه والضار ، فنقول :

النوم حالة للبدن يتبعها غور الحرارة الغريزية والقوى إلى باطن البدن لطلب الراحة ، وهو نوعان : طبيعي ، وغير طبيعي . فالطبيعي إمساك القوى النفسانية عن أفعالها ، وهي قوى الحس والحركة الإرادية ، ومتى أمسكت هذه القوى عن تحريك البدن استرخى ، واجتمعت الرطوبات والأبخرة التي كانت تتحلل وتتفرق بالحركات واليقظة في الدماغ الذي هو مبدأ هذه القوى فيتخدر ويسترخي ، وذلك النوم الطبيعي .

وأما النوم غير الطبيعي ، فيكون لعرض أو مرض ، وذلك بأن تستولي الرطوبات على الدماغ استيلاء لا تقدر اليقظة على تفريقها ، أو تصعد أبخرة رطبة كثيرة كما يكون عقيب الامتلاء من الطعام والشراب ، فتثقل الدماغ وترخيه ، فيتخدر ، ويقع إمساك القوى النفسانية عن أفعالها ، فيكون النوم .

وللنوم فائدتان جليلتان ، إحداهما : سكون الجوارح وراحتها مما يعرض لها من التعب ، فيريح الحواس من نصب اليقظة ، ويزيل الإعياء والكلال .

والثانية : هضم الغذاء ، ونضج الأخلاط لأن الحرارة الغريزية في وقت النوم تغور إلى باطن البدن ، فتعين على ذلك ، ولهذا يبرد ظاهره ويحتاج النائم إلى فضل دثار .

وأنفع النوم أن ينام على الشق الأيمن ؛ ليستقر الطعام بهذه الهيئة في المعدة استقرارا حسنا ، فإن المعدة أميل إلى الجانب الأيسر قليلا ، ثم يتحول إلى الشق الأيسر قليلا ليسرع الهضم بذلك لاستمالة المعدة على الكبد ، ثم يستقر نومه على الجانب الأيمن ؛ ليكون الغذاء أسرع انحدارا عن المعدة ، فيكون النوم على الجانب الأيمن بداءة نومه ونهايته ، وكثرة النوم على الجانب الأيسر مضر بالقلب بسبب ميل الأعضاء إليه ، فتنصب إليه المواد .

وأردأ النوم النوم على الظهر ، ولا يضر الاستلقاء عليه للراحة من غير [ ص: 221 ] نوم ، وأردأ منه أن ينام منبطحا على وجهه ، وفي " المسند " ، و " سنن ابن ماجه " عن أبي أمامة ، قال : ( مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على رجل نائم في المسجد منبطح على وجهه ، فضربه برجله ، وقال : قم أو اقعد ، فإنها نومة جهنمية )

قال أبقراط في كتاب " التقدمة " : وأما نوم المريض على بطنه من غير أن يكون عادته في صحته جرت بذلك ، يدل على اختلاط عقل ، وعلى ألم في نواحي البطن ، قال الشراح لكتابه : لأنه خالف العادة الجيدة إلى هيئة رديئة من غير سبب ظاهر ولا باطن .

والنوم المعتدل ممكن للقوى الطبيعية من أفعالها ، مريح للقوة النفسانية ، مكثر من جوهر حاملها ، حتى إنه ربما عاد بإرخائه مانعا من تحلل الأرواح .

ونوم النهار رديء يورث الأمراض الرطوبية والنوازل ، ويفسد اللون ، ويورث الطحال ، ويرخي العصب ، ويكسل ، ويضعف الشهوة إلا في الصيف وقت الهاجرة ، وأردؤه نوم أول النهار ، وأردأ منه النوم آخره بعد العصر ، ورأى عبد الله بن عباس ابنا له نائما نومة الصبحة ، فقال له : ( قم ، أتنام في الساعة التي تقسم فيها الأرزاق ) ؟ .

وقيل : نوم النهار ثلاثة : خلق ، وحرق ، وحمق . فالخلق : نومة الهاجرة ، وهي خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم . والحرق : نومة الضحى ، تشغل عن أمر الدنيا والآخرة . والحمق : نومة العصر . قال بعض السلف : من نام بعد [ ص: 222 ] العصر فاختلس عقله ، فلا يلومن إلا نفسه . وقال الشاعر :


ألا إن نومات الضحى تورث الفتى خبالا ونومات العصير جنون



ونوم الصبحة يمنع الرزق ؛ لأن ذلك وقت تطلب فيه الخليقة أرزاقها ، وهو وقت قسمة الأرزاق ، فنومه حرمان إلا لعارض أو ضرورة ، وهو مضر جدا بالبدن لإرخائه البدن ، وإفساده للفضلات التي ينبغي تحليلها بالرياضة ، فيحدث تكسرا وعيا وضعفا . وإن كان قبل التبرز والحركة والرياضة وإشغال المعدة بشيء فذلك الداء العضال المولد لأنواع من الأدواء .

والنوم في الشمس يثير الداء الدفين ، ونوم الإنسان بعضه في الشمس وبعضه في الظل رديء ، وقد روى أبو داود في " سننه " من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ( إذا كان أحدكم في الشمس فقلص عنه الظل ، فصار بعضه في الشمس وبعضه في الظل فليقم ) .

وفي " سنن ابن ماجه " وغيره من حديث بريدة بن الحصيب ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( نهى أن يقعد الرجل بين الظل والشمس ) ، وهذا تنبيه على منع النوم بينهما .

وفي " الصحيحين " عن البراء بن عازب ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ، ثم اضطجع على شقك الأيمن ، ثم قل : اللهم إني أسلمت نفسي إليك ، ووجهت وجهي إليك ، وفوضت أمري إليك ، وألجأت [ ص: 223 ] ظهري إليك ، رغبة ورهبة إليك ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، آمنت بكتابك الذي أنزلت ، ونبيك الذي أرسلت ، واجعلهن آخر كلامك ، فإن مت من ليلتك ، مت على الفطرة ) .

وفي " صحيح البخاري " عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( كان إذا صلى ركعتي الفجر - يعني سنتها - اضطجع على شقه الأيمن ) .

وقد قيل : إن الحكمة في النوم على الجانب الأيمن ، أن لا يستغرق النائم في نومه ، لأن القلب فيه ميل إلى جهة اليسار ، فإذا نام على جنبه الأيمن ، طلب القلب مستقره من الجانب الأيسر ، وذلك يمنع من استقرار النائم واستثقاله في نومه ، بخلاف قراره في النوم على اليسار ، فإنه مستقره فيحصل بذلك الدعة التامة ، فيستغرق الإنسان في نومه ويستثقل ، فيفوته مصالح دينه ودنياه .

ولما كان النائم بمنزلة الميت ، والنوم أخو الموت - ولهذا يستحيل على الحي الذي لا يموت ، وأهل الجنة لا ينامون فيها - كان النائم محتاجا إلى من يحرس نفسه ، ويحفظها مما يعرض لها من الآفات ، ويحرس بدنه أيضا من طوارق الآفات ، وكان ربه وفاطره تعالى هو المتولي لذلك وحده .

علم النبي - صلى الله عليه وسلم - النائم أن يقول كلمات التفويض والالتجاء ، والرغبة والرهبة ، ليستدعي بها كمال حفظ الله له ، وحراسته لنفسه وبدنه ، وأرشده مع ذلك إلى أن يستذكر الإيمان ، وينام عليه ، ويجعل التكلم به آخر كلامه ، فإنه ربما توفاه الله في منامه ، فإذا كان الإيمان آخر كلامه دخل الجنة ، فتضمن هذا الهدي في المنام مصالح القلب والبدن والروح في النوم واليقظة ، والدنيا والآخرة ، فصلوات الله وسلامه على من نالت به أمته كل خير .

[ ص: 224 ] وقوله : ( أسلمت نفسي إليك ) ، أي : جعلتها مسلمة لك تسليم العبد المملوك نفسه إلى سيده ومالكه . وتوجيه وجهه إليه يتضمن إقباله بالكلية على ربه ، وإخلاص القصد والإرادة له ، وإقراره بالخضوع والذل والانقياد ، قال تعالى : ( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ) [ سورة آل عمران الآية : 20 ] .

وذكر الوجه إذ هو أشرف ما في الإنسان ، ومجمع الحواس ، وأيضا ففيه معنى التوجه والقصد من قوله :


أستغفر الله ذنبا لست محصيه     رب العباد إليه الوجه والعمل



وتفويض الأمر إليه رده إلى الله سبحانه ، وذلك يوجب سكون القلب وطمأنينته ، والرضى بما يقضيه ويختاره له مما يحبه ويرضاه ، والتفويض من أشرف مقامات العبودية ، ولا علة فيه ، وهو من مقامات الخاصة خلافا لزاعمي خلاف ذلك .

وإلجاء الظهر إليه سبحانه يتضمن قوة الاعتماد عليه ، والثقة به والسكون إليه ، والتوكل عليه ، فإن من أسند ظهره إلى ركن وثيق لم يخف السقوط .

ولما كان للقلب قوتان : قوة الطلب ، وهي الرغبة ، وقوة الهرب ، وهي الرهبة ، وكان العبد طالبا لمصالحه ، هاربا من مضاره ، جمع الأمرين في هذا التفويض والتوجه ، فقال : رغبة ورهبة إليك ، ثم أثنى على ربه ، بأنه لا ملجأ للعبد سواه ، ولا منجا له منه غيره ، فهو الذي يلجأ إليه العبد لينجيه من نفسه ، كما في الحديث الآخر : ( أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك ) ، فهو سبحانه الذي يعيذ عبده وينجيه من بأسه الذي هو بمشيئته وقدرته ، [ ص: 225 ] فمنه البلاء ومنه الإعانة ، ومنه ما يطلب النجاة منه ، وإليه الالتجاء في النجاة ، فهو الذي يلجأ إليه في أن ينجي مما منه ، ويستعاذ به مما منه ، فهو رب كل شيء ، ولا يكون شيء إلا بمشيئته : ( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ) [ سورة الأنعام الآية : 17 ] ( قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ) [ سورة الأحزاب ، الآية : 17 ] ، ثم ختم الدعاء بالإقرار بالإيمان بكتابه ورسوله الذي هو ملاك النجاة ، والفوز في الدنيا والآخرة ، فهذا هديه في نومه .


لو لم يقل إني رسول لكا     ن شاهد في هديه ينطق



التالي السابق


الخدمات العلمية