الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ( تنبيه ) وهذا حكم كل طهارة شرعية من غسل أو وضوء وإن لم تكن واجبة فلا يصح شيء من ذلك إلا بالماء المطلق كالأوضية المستحبة والأغسال المسنونة والمستحبة قال في التلقين ولا يجوز التطهر من حدث ولا نجس ولا شيء من المسنونات والقرب بمائع سوى الماء المطلق انتهى ، ولما كان الأمر كذلك احتاج المصنف إلى تعريف الماء المطلق والمطلق في اللغة ما أزيل منه القيد الحسي والمعنوي وهل هو حقيقة فيهما أو حقيقة فيما أزيل منه الحسي مجاز فيما أزيل منه القيد المعنوي ؟ طريقان ذكرهما صاحب الجمع وعزى الأولى لابن راشد وشيخه القرافي والثانية لابن هارون وأبي علي قال : واستعمله الأصوليون في اللفظ الذي لم يقيد انتهى . واستعمله الفقهاء في الماء الذي لم يخالطه شيء ينفك عنه غالبا مجازا لغويا وعرفيا قاله صاحب الجمع وهو في كلام المصنف صفة لمحذوف أي بالماء المطلق واختلف عبارات الأصحاب في تعريف فعرفه ابن شاس وابن الحاجب وغيرهما بأنه الباقي على أصل خلقته أي لم يخالطه شيء وجعلوا ما تغير بقراره أو بما يتولد منه أو بالمجاورة ملحقا بالمطلق في كونه طهورا فالمطلق عندهم أخص من الطهور وجعل القاضي عبد الوهاب وابن عسكر وغيرهما المطلق مرادفا للطهور فعرفوه بأنه الذي لم يتغير أحد أوصافه بما ينفك عنه غالبا مما ليس بقراره ولا متولد منه فجعلوا ما تغير بقراره أو بما يتولد منه أو بالمجاورة داخلا في حد المطلق وتبعهم المصنف على ذلك فأدخلها كلها في حد المطلق وعرفه بقوله وهو ما صدق عليه اسم ماء بلا قيد يعني أن الماء المطلق هو الذي يصدق عليه في العرف اسم ماء من غير تقييد بإضافة أو صفة أو غير ذلك أي يصح أن يسمى ماء . وهذا معنى قول غيره هو الذي يكتفي بالإخبار عنه بمجرد إطلاق اسم الماء عليه فقوله ما صدق عليه اسم ماء معناه ما صح أن يطلق عليه اسم الماء وليس المراد به جزئيات المطلق التي يصدق عليها حتى يرد عليه أن الشيء لا يعرف بما يصدق عليه ولا يرد على المصنف ما أورده البساطي وغيره أنه قدم التصديق على التصور لأن المصنف لم يحكم على المطلق بشيء وإنما حكم على الحدث والخبث بأنهما يرتفعان بالمطلق فلما جرى في كلامه [ ص: 46 ] ذكر المطلق احتاج إلى تعريفه

                                                                                                                            والإضافة في قوله اسم ماء بيانية أي اسم هو ماء وقوله ما صدق عليه اسم ماء كالجنس وقوله بلا قيد كالفصل خرج به ما لا يصدق عليه اسم الماء إلا مقيدا بإضافة كماء الورد ونحوه أو صفة كالماء المضاف والماء النجس أو بالألف واللام التي للعهد كقوله صلى الله عليه وسلم { إذا رأت الماء } يعني المني ودخل في حده ما كانت إضافته بيانية كماء المطر وماء الندى وما قيد بإضافة لمحله لأن ذلك لا يمنع من صدق اسم الماء عليه في العرف ويكتفي بالإخبار عنه بمجرد اسم الماء كماء السماء وكذا ما قيد بإضافة لمحله كماء البحر ولا خلاف في جواز التطهير به وإن كان قد حكى عن ابن عمر كراهة الوضوء به فقد انعقد الإجماع على خلافه وماء العيون والآبار والماء الذي نبع من بين أصابعه - صلى الله عليه وسلم - وهو أشرف المياه قال القرطبي لم نسمع بمثل هذه المعجزة عن غير نبينا صلى الله عليه حيث نبع الماء من بين عظمه وعصبه ولحمه ودمه .

                                                                                                                            ونقله عنه ابن حجر في علامات النبوة من كتاب المناقب من شرح البخاري وقال في القبس ونبع الماء من بين أصابعه خصيصة لم تكن لأحد قبله . قال النووي في أول كتاب الفضائل من شرح مسلم وفي كيفية هذا النبع قولان حكاهما القاضي عياض وغيره أحدهما ونقله القاضي عن المازري وأكثر العلماء أن الماء كان يخرج من بين أصابعه - صلى الله عليه وسلم - وينبع من ذاتها قالوا وهو أعظم في المعجزة من نبعه من حجر الثاني أن الله كثر الماء في ذاته فصار يفور من بين أصابعه انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) : وعلى القول الأول فهو أشرف مياه الدنيا والآخرة وقد ذكر شيخ شيوخنا القاضي تقي الدين الفاسي المالكي في تاريخ مكة عن شيخه شيخ الإسلام البلقيني .

                                                                                                                            وذكره أيضا صاحب المواهب اللدنية عن البلقيني أن ماء زمزم أفضل من ماء الكوثر لغسل قلبه - صلى الله عليه وسلم - به فكيف بما خرج من ذاته - صلى الله عليه وسلم - ودخل في ماء الآبار ماء زمزم وهو كذلك قال في كتاب الجنائز من النوادر عن ابن شعبان لا يغسل بماء زمزم ميت ولا نجاسة قال الشيخ ابن أبي زيد ما ذكره في ماء زمزم لا وجه له عند مالك وأصحابه ونقله عنه ابن عرفة في كتاب الجنائز بلفظ قوله ولا يغسل بماء زمزم ميت ولا نجاسة خلاف قول مالك وأصحابه .

                                                                                                                            قال ابن عرفة : وأبعد منه سماعي ابتداء قراءتي فتوى ابن عبد السلام لا يكفن بثوب غسل بماء زمزم انتهى وقال الجزولي في شرح قول الرسالة : وماء السماء وماء الآبار وماء العيون وماء البحر طيب طاهر مطهر للنجاسات هذا عام يدخل فيه بئر زمزم وهو المشهور أن ماء زمزم يتوضأ به وتزال به النجاسة ولا خلاف فيه إلا ما روي عن ابن شعبان من أنه قال لا تزال به النجاسة تشريفا له انتهى ، ونحوه للشيخ يوسف بن عمر .

                                                                                                                            ( قلت ) : أما الوضوء به لمن كان طاهر الأعضاء فلا أعلم في جوازه خلافا بل صرح باستحبابه غير واحد نقلا عن ابن حبيب .

                                                                                                                            وكذلك لا أعلم في جواز الغسل به لمن كان طاهر الأعضاء خلافا بل صرح ابن حبيب أيضا باستحباب الغسل به قال فضل بن مسلمة في اختصار الواضحة لابن حبيب ويستحب لمن حج أن يستكثر من ماء زمزم تبركا ببركته يكون منه شربه ووضوءه واغتساله ما أقام بمكة ويكثر من الدعاء عند شربه انتهى ، ويؤخذ استحباب الغسل أيضا من كلام اللخمي كما سيأتي قريبا إن شاء الله وقال النووي في شرح المهذب : مذهب الجمهور كمذهبنا أنه لا يكره الوضوء والغسل به وعن أحمد رواية بكراهيته لأنه جاء عن العباس أنه قال عند زمزم : لا أحله لمغتسل وهو لشارب حل وبل قال : ودليلنا النصوص الصحيحة الصريحة المطلقة في المياه بلا فرق ولم يزل المسلمون على الوضوء به بلا إنكار ولم يصح ما ذكروه عن العباس بل حكي عن أبيه عبد المطلب ولو ثبت عن العباس لم يجز ترك النصوص به وأجاب أصحابنا [ ص: 47 ] بأنه قاله في وقت ضيق الماء لكثرة الشاربين انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) : وذكر المحب الطبري في الباب السابع والعشرين من القرن أثر العباس وقال : لا أحلها المغتسل وهي للشارب حل وبل قال : والبل الحل كرره تأكيدا والظاهر أنه يريد الغسل من الجنابة لمكان تحريم اللبث في المسجد . وإنما أسند التحريم إلى نفسه لأنه ملك الماء بحيازته في حياض كان يجعلها هناك فالمغتسل من الجنابة ارتكب التحريم من وجهين من جهة اللبث في المسجد ومن جهة استعمال المملوك دون إذن مالكه انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) : أما الوجه الأول فغير ظاهر لأن موضع زمزم وحريمها سابق على المسجد فلا يدخل في تحبيس المسجد وقد ذكر صاحب المدخل وغيره أن البيت إذا كانت سابقة على المسجد لا يدخل حريمها في تحبيس المسجد وقد ذكر الأزرقي أن حد المسجد الحرام كان إلى جدار زمزم ورأيت لبعض الشافعية تأليفا صرح فيه بأن موضع زمزم غير داخل في تحبيس المسجد والله أعلم . نعم مرور الجنب في المسجد لا يجوز عند المالكية وأما إزالة النجاسة بماء زمزم فالظاهر أن ذلك مكروه ابتداء فإن أزيلت به طهر المحل ويختلف في كراهة غسل الميت به على الخلاف في طهارة الميت ونجاسته فإن قلنا بطهارته كما هو الأظهر الصحيح جاز غسله به بل قال اللخمي : إنه أولى لما يرجى من بركته كما سيأتي وإن قلنا بنجاسته على القول الذي قدمه المصنف في كلامه الآتي كره غسله به كما صرح به ابن بشير وغيره قال ابن بشير في كتاب الجنائز : واختلف في كراهة غسله بماء زمزم وسبب الخلاف ما قدمنا من الحكم بنجاسته فإن حكمنا بها كرهنا غسله به لكراهة استعمال هذا الماء في النجاسات وأهل مكة يحكون أن رجلا استنجى به فحصل له الباسور وإن حكمنا بطهارة الميت أجزنا غسله به انتهى . وقال ابن الحاجب في كراهة غسله بماء زمزم قولان إلا أن تكون فيه نجاسة انتهى وقال اللخمي بعد أن ذكر قول ابن شعبان لا يغسل به ميت ولا نجاسة وهذا على أصله لأنه يقول إن الميت نجس ولا يقرب ذلك الماء النجاسة وقد ذكر أن بعض الناس استنجى به فحدث به الباسور وأهل مكة يتقون الاستنجاء وعلى القول بأن الميت طاهر يجوز أن يغسل بماء زمزم بل هو أولى لما يرجى من بركته انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) : هذا كلام اللخمي الموعود به فإنه يفهم منه استحباب الغسل به لمن كان طاهر الأعضاء لأنه إذا كان غسل الميت به أولى لرجاء بركته فالحي من باب أولى للاتفاق على طهارته وصرح ابن الكروي في كتاب الوافي له بكراهة استعماله في النجاسات احتراما له وقال ابن فرحون في منسكه لما ذكر في فضل زمزم حديث النظر إليها عبادة والطهور منها يحبط الخطايا ما نصه ( تنبيه ) الطهور منها يحبط الخطايا يريد الوضوء خاصة إذا كانت أعضاء الوضوء طاهرة وأما الاستنجاء به فقد شدد في الكراهة فيه وجاء أنه يحدث البواسير وكذا غسل النجاسات التي على البدن أو غيره قال ابن شعبان من أصحابنا ولا يغسل به نجس انتهى وقوله يريد الوضوء خاصة يعني أو الغسل إذا كان طاهر الأعضاء وسلم من المرور في المسجد وهو جنب وإنما خص الوضوء بالذكر لأنه هو الذي يتصور غالبا قال القاضي تقي الدين الفاسي في تاريخه يصح التطهر به بالإجماع على ما ذكره الروياني في البحر الماوردي في الحاوي والنووي في شرح المهذب وينبغي توقي النجاسة به خصوصا في الاستنجاء فقد قيل إنه يورث الباسور وجزم المحب الطبري بتحريم إزالة النجاسة به وإن حصل التطهير به إذا علم هذا فقول ابن شعبان لا يغسل به ميت ولا نجاسة إن حمل على المنع من ذلك أو على أنه لا يزيل النجاسة فهو خلاف قول مالك وأصحابه وإن حمل على الكراهة فالظاهر أنه موافق للمذهب وقد نقله صاحب الطراز بلفظ الكراهة فقال : وكره ابن شعبان من [ ص: 48 ] أصحابنا أن تغسل به نجاسة أو يغسل به ميت ونحوه في الذخيرة ولا يقال إن ذلك يدل على أن المذهب عدم كراهة غسل النجاسة به لعزوهم ذلك لابن شعبان لأنا نقول إن الذي عزوه لابن شعبان فقط هو عدم غسل الميت به كما يفهم ذلك من كلام اللخمي والله أعلم .

                                                                                                                            والذي يفهم من كلام الشيخ ابن أبي زيد أنه حمله على المنع وكذلك ابن عبد السلام والمصنف في التوضيح فإنهما فسرا القولين المتقدمين في كلام ابن الحاجب بكلام ابن شعبان وكلام الشيخ ابن أبي زيد قال ابن عبد السلام : القول بالمنع في كتاب ابن شعبان وأنكره الشيخ أبو محمد ورأى أنه مخالف لقول مالك وأصحابه ولا شك أنه ماء مبارك ومع ذلك فلا يمنع أن يصرف فيما تصرف فيه أنواع المياه إذ من المعلوم أن هاجر لم تكن تستعمل هي وابنها إسماعيل - صلوات الله وسلامه عليه - ومن نزل عليهما من العرب في كل ما يحتاجون إليه سواه حين لم يكن بمكة غيره وجعل قول ابن الحاجب إلا أن يكون فيه نجاسة عائدا إلى المسألة التي قبل مسألة غسله بماء زمزم ونقله في التوضيح عن ابن عبد السلام وعن شيخه أيضا قال : وكأنهما فرا من إعادته على ماء زمزم لأنه لو أعيد عليه لفهم أنه يتفق على المنع منه وليس كذلك إذ ظاهر المذهب الجواز انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) : وهذا إنما يشكل إذا حمل كلام ابن شعبان على المنع أما إذا حمل كلام ابن شعبان على الكراهة وفسر القولان في كلام ابن الحاجب به وبما ذكره اللخمي فلا إشكال في ذلك وقد ذكر ابن فرحون عن ابن راشد أنه فسر كلام ابن الحاجب بذلك ونحوه للبساطي في المغني قال في كتاب الجنائز : واختلف هل يكره تغسيله بماء زمزم إذا لم يكن على الميت نجاسة وهو منصوص ابن شعبان أولا وشهره خليل في مختصره على قولين ( تنبيه ) ظاهر كلام ابن شعبان أنه لا يجوز قال ابن أبي زيد وهو خلاف قول مالك وأصحابه وقال اللخمي : هو مبني على أصله أن الميت نجس .

                                                                                                                            ( قلت ) : فعلى هذا يكون المشهور ما قاله ابن شعبان فإنه لا يجوز الاستنجاء به ولا إزالة النجاسة وأما أنه يزيلها أولا محل نظر انتهى كلام البساطي وقوله فعلى هذا يكون المشهور ما قال ابن شعبان يعني لأن الشيخ خليلا شهر القول بنجاسة الميت وقوله فإنه لا يجوز الاستنجاء به الظاهر أنه بالفاء كما يدل عليه كلامه ورأيته في نسخة بالواو والظاهر أن قول المصنف في فصل الجنائز ولو بزمزم وإنما أراد به - والله أعلم - أن يبين أن المذهب صحة غسل الميت به وأنه غير ممنوع كما يقول ابن شعبان بناء على ما فهمه المصنف وابن عبد السلام عن ابن شعبان وكذلك قول ابن عبد السلام لا شك أنه ماء مبارك ومع ذلك لا يمنع أن يصرف فيما يصرف فيه غيره وقول المصنف في التوضيح .

                                                                                                                            إذ ظاهر المذهب الجواز إنما قال ذلك في مقابلة كلام ابن شعبان حيث فهماه على المنع ولم يريدا نفي الكراهة إذا قلنا إن الميت نجس لا ينبغي أن يختلف في كراهة غسل النجاسة وقد تقدم التصريح بها في كلام ابن بشير وابن الحاجب وابن الكروي وابن فرحون وقوة كلام اللخمي يدل عليها ولم نقف على نص في نفيها إلا ما يفهم من كلام الشيخ ابن أبي زيد في رده على ابن شعبان وقد تقدم أن الظاهر أنه إنما رد عليه لأنه فهم كلامه على المنع بل تقدم في كلام ابن عرفة أن ابن عبد السلام أفتى بأنه لا يكفن الميت في ثوب غسل بماء زمزم فإن من المعلوم أنه إنما أراد بذلك على سبيل الكراهة وإن كان ذلك خلاف الظاهر والله أعلم . وقال ابن فرحون في شرح قول ابن الحاجب : ولا تزال النجاسة إلا بالماء يدخل في كلامه ماء زمزم وهو خارج ولا تزال به نجاسة من البدن ولا من الثوب انتهى .

                                                                                                                            قلت : فينبغي أن يحمل كلامه على الكراهة وإلا كان مخالفا للمذهب ونقل سيدي الشيخ زروق في شرح الرسالة عن ابن شعبان أنه قال : لا يتطهر بماء زمزم لأنه طعام لقوله عليه الصلاة والسلام [ ص: 49 ] { هو طعام طعم وشفاء سقم } والمعول عليه خلافه لا في النجاسات فيحمل على استعماله فيها انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) : كلامه يقتضي أن ابن شعبان منع التطهير به مطلقا ولم أقف على ذلك في كلام غيره وكذلك لم أقف على أنه علل ذلك بكونه طعاما إلا في كلامه والمنقول عن ابن شعبان ما تقدم فليعتمد عليه ثم وقفت على كلام ابن شعبان في الزاهي ونصه في أول كتاب الطهارة : ولا يستعمل ماء زمزم في المراحيض ولا يخلط به نجس ولا يزال به ولا يغسل به في حمام ولا بأس أن يتوضأ به من سلمت أعضاء وضوئه من النجس وكذلك يغتسل به من الجنابة من ليس بظاهر جسده أذى وإن أصاب الفرجين إذا كانا طاهرين انتهى . قال في باب الحج : ويتوضأ منه ولا يغسل به نجس انتهى . والله أعلم .

                                                                                                                            ( وإنما أطلت الكلام في هذه المسألة ) لاضطراب النقول فيها فأردت تحرير ما ظهر لي من كلام أهل المذهب فيها وأما الكلام على فضلها وفضل الشرب منها فسيأتي إن شاء الله في كتاب الحج ويستثنى من الآبار آبار ثمود فلا يجوز الوضوء بمائها ولا الانتفاع به كما ذكره القرطبي في شرح مسلم وابن فرحون في ألغازه ناقلا له عن ابن العربي في أحكام القرآن ونقله غير واحد وذلك { لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر الصحابة - رضي الله عنهم - حين مروا بها أن يشربوا إلا من البئر التي كانت تردها الناقة وأمرهم أن يطرحوا ما عجنوه من تلك الآبار ويهريقوا الماء } والحديث في الصحيحين رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء وذكره مسلم في أواخر صحيحه بعد كتاب الزهد وفيه أنه أمرهم أن يعلفوا العجين الإبل قال القرطبي في شرح مسلم أمره - صلى الله عليه وسلم - بإراقة ما سقوا وعلف العجين للدواب حكم على ذلك الماء بالنجاسة إذ ذلك حكم ما خالطته النجاسة أو كان نجسا ولولا نجاسة الماء لما أتلف الطعام المحترم شرعا ، وأمره أن يستقوا من بئر الناقة دليل على التبرك بآثار الأنبياء والصالحين وإن تقادمت أعصارهم انتهى وقالابن فرحون في الألغاز : ( فإن قلت ) : ماء كثير باق على أصل خلقته لا يجوز الوضوء ولا الانتفاع به .

                                                                                                                            ( قلت ) : هو ماء الآبار التي في أرض ثمود .

                                                                                                                            وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها ، قالوا : قد استقينا وعجنا فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ويريقوا الماء وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة وذلك لأجل أنه ماء سخط فلم يجز الانتفاع به فرارا من سخط الله انظر أحكام القرآن لابن العربي عند قوله تعالى { ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين } وهو مذهب الشافعي ولا نحكم بنجاسته لأن الحديث ليس فيه تعرض للنجاسة وإنما هو ماء سخط وغضب انتهى . وقال الشيخ زروق في شرح الرسالة ذكر ابن العربي في الأحكام عند قوله تعالى { ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين } منع الوضوء من بئر ثمود لأنها بئر غضب ولأنه عليه الصلاة والسلام أمر بطرح ما عجن منها وبالتيمم وترك استعمالها فهي مستثناة من الآبار وهو خلاف ما هنا من العموم يعني قول الرسالة وماء الآبار .

                                                                                                                            ( قلت ) : والظاهر ما قاله ابن فرحون والشيخ زروق أنه لا يحكم بنجاسة الماء وإنما يمنع من استعماله فقط لأنه ماء سخط وغضب لأنه لم يروا أنه - عليه الصلاة والسلام أمرهم بغسل أوعيتهم وأيديهم منه وما أصابه من ثيابهم ولو وقع ذلك لنقل على أنه لو نقل لما دل على النجاسة لاحتمال أن يكون ذلك مبالغة في اجتناب ذلك الماء وهو الذي يؤخذ من كلام الفاكهاني في شرح الرسالة فإنه لما ذكر الآبار قال : إلا مياه أبيار الحجر فإنه نهى عن شربها والطهارة بها إلا بئر الناقة ثبت ذلك في الصحيح انتهى . وقد صرح النووي في شرح المهذب بعدم نجاسته ولا إشكال في منع الوضوء منها على ما قاله القرطبي والله أعلم .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية