الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الإيمان باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى وبيان الدليل على التبري ممن لا يؤمن بالقدر وإغلاظ القول في حقه قال أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري رحمه الله بعون الله نبتدئ وإياه نستكفي وما توفيقنا إلا بالله جل جلاله

                                                                                                                8 حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا وكيع عن كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر ح وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري وهذا حديثه حدثنا أبي حدثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر قال كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي فقلت أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف قال فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم قال حدثني أبي عمر بن الخطاب قال بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا قال صدقت قال فعجبنا له يسأله ويصدقه قال فأخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال صدقت قال فأخبرني عن الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال فأخبرني عن الساعة قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل قال فأخبرني عن أمارتها قال أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان قال ثم انطلق فلبثت مليا ثم قال لي يا عمر أتدري من السائل قلت الله ورسوله أعلم قال فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم حدثني محمد بن عبيد الغبري وأبو كامل الجحدري وأحمد بن عبدة قالوا حدثنا حماد بن زيد عن مطر الوراق عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر قال لما تكلم معبد بما تكلم به في شأن القدر أنكرنا ذلك قال فحججت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حجة وساقوا الحديث بمعنى حديث كهمس وإسناده وفيه بعض زيادة ونقصان أحرف وحدثني محمد بن حاتم حدثنا يحيى بن سعيد القطان حدثنا عثمان بن غياث حدثنا عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن قالا لقينا عبد الله بن عمر فذكرنا القدر وما يقولون فيه فاقتص الحديث كنحو حديثهم عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه شيء من زيادة وقد نقص منه شيئا وحدثني حجاج بن الشاعر حدثنا يونس بن محمد حدثنا المعتمر عن أبيه عن يحيى بن يعمر عن ابن عمر عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو حديثهم

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                باب بيان أن الإسناد من الدين

                                                                                                                وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقات وأن جرح الرواة بما هو فيهم جائز بل واجب وأنه ليس من الغيبة المحرمة بل من الذب عن الشريعة المكرمة .

                                                                                                                قال - رحمه الله - ( حدثنا حسن بن الربيع قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب وهشام عن محمد وحدثنا فضيل عن هشام وحدثنا مخلد بن حسين عن هشام عن ابن سيرين ) أما ( هشام ) أولا فمجرور معطوف على أيوب وهو هشام بن حسان القردوسي بضم القاف ، ومحمد هو ابن سيرين ، والقائل : وحدثنا فضيل وحدثنا مخلد ، هو حسن بن الربيع .

                                                                                                                وأما ( فضيل ) فهو ابن عياض أبو علي الزاهد السيد الجليل - رضي الله عنه - .

                                                                                                                وأما قوله : ( وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم ) فهذه مسألة قدمناها في أول الخطبة وبينا المذاهب فيها .

                                                                                                                قوله : ( حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ) هو ابن راهويه الإمام المشهور حافظ أهل زمانه .

                                                                                                                وأما ( الأوزاعي ) فهو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد بضم المثناة من تحت وكسر الميم الشامي الدمشقي إمام أهل الشام في زمنه بلا مدافعة ولا مخالفة ، كان يسكن دمشق خارج باب الفراديس ، ثم تحول إلى بيروت فسكنها مرابطا إلى أن مات بها ، وقد انعقد الإجماع على إمامته وجلالته وعلو مرتبته ، وكمال فضيلته ، وأقاويل السلف كثيرة مشهورة في ورعه وزهده وعبادته وقيامه بالحق وكثرة حديثه وفقهه وفصاحته واتباعه السنة وإجلال أعيان أئمة زمانه من جميع الأقطار له واعترافهم بمزيته ، وروينا من غير وجه أنه أفتى في سبعين ألف مسألة وروى عن كبار التابعين وروى عنه قتادة والزهري ويحيى بن أبي كثير وهم من التابعين وليس هو من التابعين ، وهذا من رواية الأكابر عن الأصاغر .

                                                                                                                واختلفوا في الأوزاع التي نسب إليها فقيل : بطن من حمير ، وقيل : قرية كانت عند باب الفراديس من دمشق ، وقيل : من أوزاع القبائل أي فرقهم وبقايا مجتمعة من قبائل شتى ، وقال أبو زرعة الدمشقي : كان اسم الأوزاعي عبد العزيز فسمى نفسه عبد الرحمن وكان ينزل الأوزاع فغلب ذلك عليه ، وقال محمد بن سعد : الأوزاع بطن من همدان والأوزاعي من أنفسهم والله أعلم .

                                                                                                                [ ص: 77 ] قوله : ( لقيت طاوسا فقلت : حدثني فلان كيت وكيت فقال : إن كان مليا فخذ عنه ) قوله : ( كيت وكيت ) هما بفتح التاء وكسرها لغتان نقلهما الجوهري في صحاحه عن أبي عبيدة . وقوله ( إن كان مليا ) يعني : ثقة ضابطا متقنا يوثق بدينه ومعرفته ، ويعتمد عليه كما يعتمد على معاملة الملي بالمال ، ثقة بذمته .

                                                                                                                وأما قول مسلم : ( وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ) فهذا الدارمي هو صاحب المسند المعروف كنيته أبو محمد السمرقندي منسوب إلى دارم بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم ، وكان أبو محمد الدارمي هذا أحد حفاظ المسلمين في زمانه قل من كان يدانيه في الفضيلة والحفظ ، قال رجاء بن مرجى : ما أعلم أحدا هو أعلم بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدارمي ، وقال أبو حاتم : هو إمام أهل زمانه ، وقال أبو حامد بن الشرقي : إنما أخرجت خراسان من أئمة الحديث خمسة رجال : محمد بن يحيى ، ومحمد بن إسماعيل ، وعبد الله بن عبد الرحمن ، ومسلم بن الحجاج ، وإبراهيم بن أبي طالب .

                                                                                                                وقال محمد بن عبد الله : غلبنا الدارمي بالحفظ والورع . ولد الدارمي سنة إحدى وثمانين ومائة ، ومات سنة خمس وخمسين ومائتين رحمه الله .

                                                                                                                قال مسلم - رحمه الله - : ( حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا الأصمعي عن ابن أبي الزناد عن أبيه ) أما ( الجهضمي ) فبفتح الجيم وإسكان الهاء وفتح الضاد المعجمة .

                                                                                                                قال الإمام الحافظ أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني في كتابه الأنساب : هذه النسبة إلى الجهاضمة وهي محلة بالبصرة قال : وكان نصر بن علي هذا قاضي البصرة وكان من العلماء المتقنين ، وكان المستعين بالله بعث إليه ليشخصه للقضاء فدعاه أمير البصرة لذلك فقال : أرجع فأستخير الله تعالى فرجع إلى بيته نصف النهار فصلى ركعتين وقال : اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك فنام فأنبهوه فإذا هو ميت ، وكان ذلك في شهر ربيع الآخر سنة خمسين ومائتين ، وأما ( الأصمعي ) فهو الإمام المشهور من كبار أئمة اللغة والمكثرين والمعتمدين منهم ، واسمه عبد الملك بن قريب بقاف [ ص: 78 ] مضمومة ثم راء مفتوحة ثم ياء مثناة من تحت ساكنة ثم باء موحدة ابن عبد الملك بن أصمع البصري أبو سعيد نسب إلى جده ، وكان الأصمعي من ثقات الرواة ومتقنيهم وكان جامعا للغة والغريب والنحو والأخبار والملح ، والنوادر . قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : ما رأيت بذلك العسكر أصدق لهجة من الأصمعي ، وقال الشافعي - رحمه الله تعالى - أيضا : ما عبر أحد من العرب بأحسن من عبارة الأصمعي ، وروينا عن الأصمعي قال : أحفظ ست عشرة ألف أرجوزة . ( وأما أبو الزناد ) وبكسر الزاي فاسمه عبد الله بن ذكوان كنيته أبو عبد الرحمن وأبو الزناد لقب له كان يكرهه واشتهر به وهو قرشي مولاهم مدني .

                                                                                                                وكان الثوري يسمي أبا الزناد أمير المؤمنين في الحديث . قال البخاري : أصح أسانيد أبي هريرة أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة . وقال مصعب : كان أبو الزناد فقيه أهل المدينة .

                                                                                                                وأما ( ابن أبي الزناد ) فهو عبد الرحمن ولأبي الزناد ثلاثة بنين يروون عنه : عبد الرحمن وقاسم وأبو القاسم .

                                                                                                                وأما ( مسعر ) فبكسر الميم وهو ابن كدام الهلالي العامري الكوفي أبو سلمة المتفق على جلالته وحفظه وإتقانه . وقوله : ( لا يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا الثقات ) معناه لا يقبل إلا من الثقات .

                                                                                                                وأما قوله - رحمه الله - ( حدثني محمد عن عبد الله بن قهزاد من أهل مرو قال سمعت عبدان بن عثمان يقول : سمعت ابن المبارك يقول : الإسناد من الدين ) ففيه لطيفة من لطائف الإسناد الغريبة وهو أنه إسناد خراساني كله من شيخنا أبي إسحاق إبراهيم بن عمر بن مضر إلى آخره . فإني قد قدمت أن الإسناد من شيخنا إلى مسلم خراسانيون نيسابوريون وهؤلاء الثلاثة المذكورون أعني محمدا وعبدان وابن المبارك خراسانيون وهذا قل أن يتفق مثله في هذه الأزمان .

                                                                                                                أما ( قهزاذ ) فبقاف مضمومة ثم هاء ساكنة ثم زاي ثم ألف ثم ذال معجمة ، هذا هو الصحيح المشهور المعروف في ضبطه ، وحكى صاحب مطالع الأنوار عن بعضهم أنه قيده بضم الهاء وتشديد الزاي وهو أعجمي فلا ينصرف . قال ابن ماكولا : مات محمد بن عبد الله بن قهزاد هذا يوم الأربعاء لعشر خلون من المحرم سنة اثنتين وستين ومائتين . فتحصل من هذا أن مسلما - رحمه الله - مات قبل شيخه هذا بخمسة أشهر ونصف كما قدمناه أول هذا الكتاب من تاريخ وفاة مسلم رحمه الله .

                                                                                                                وأما ( عبدان ) فبفتح العين وهو لقب له واسمه عبد الله بن عثمان بن جبلة العتكي مولاهم ، أبو عبد الرحمن المروزي قال البخاري في تاريخه : توفي عبدان سنة إحدى أو اثنتين وعشرين ومائتين .

                                                                                                                وأما ( ابن المبارك ) فهو السيد الجليل جامع أنواع المحاسن أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي مولاهم . سمع [ ص: 79 ] جماعات من التابعين ، وروى عنه جماعات من كبار العلماء وشيوخه وأئمة عصره كسفيان الثوري وفضيل بن عياض ، وآخرين ، وقد أجمع العلماء على جلالته وإمامته وكبر محله وعلو مرتبته . روينا عن الحسن بن عيسى قال : اجتمع جماعة من أصحاب ابن المبارك مثل الفضل بن موسى ومخلد بن حسين ومحمد بن النضر ، فقالوا : تعالوا حتى نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير فقالوا : جمع العلم والفقه والأدب والنحو واللغة والزهد والشعر والفصاحة والورع والإنصاف وقيام الليل والعبادة والشدة في رأيه وقلة الكلام فيما لا يعنيه وقلة الخلاف على أصحابه ، وقال العباس بن مصعب : جمع ابن المبارك الحديث والفقه والعربية وأيام الناس والشجاعة والتجارة والسخاء والمحبة عند الفرق . وقال محمد بن سعد : صنف ابن المبارك كتبا كثيرة في أبواب العلم وصنوفه ، وأحواله مشهورة معروفة .

                                                                                                                وأما ( مرو ) فغير مصروفة وهي مدينة عظيمة بخراسان وأمهات مدائن خراسان أربع : نيسابور ، ومرو ، وبلخ وهراة . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( حدثني العباس بن أبي رزمة قال : سمعت عبد الله يقول : بيننا وبين القوم القوائم يعني الإسناد ) أما ( رزمة ) فبراء مكسورة ثم زاي ساكنة ثم ميم ثم هاء .

                                                                                                                وأما ( عبد الله ) فهو ابن المبارك ومعنى هذا الكلام إن جاء بإسناد صحيح قبلنا حديثه وإلا تركناه . فجعل الحديث كالحيوان لا يقوم بغير إسناد كما لا يقوم الحيوان بغير قوائم . ثم إنه وقع في بعض الأصول العباس بن رزمة ، وفي بعضها العباس بن أبي رزمة وكلاهما مشكل . ولم يذكر البخاري في تاريخه وجماعة من أصحاب كتب أسماء الرجال العباس ابن رزمة ولا العباس بن أبي رزمة وإنما ذكروا عبد العزيز بن أبي رزمة أبا محمد المروزي سمع عبد الله بن المبارك ومات في المحرم سنة ست ومائتين واسم أبي رزمة غزوان . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( أبا إسحاق الطالقاني - هو بفتح اللام - قال : قلت لابن المبارك : الحديث الذي جاء إن من البر بعد البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك وتصوم لهما مع صومك قال ابن المبارك : عمن هذا ؟ قلت : من حديث شهاب بن خراش ، قال : ثقة ، عمن ؟ قلت : عن الحجاج بن دينار ، قال : ثقة ، عمن ؟ قال . قلت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : يا أبا إسحق إن بين الحجاج بن دينار وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي ولكن ليس في الصدقة اختلاف ) معنى هذه الحكاية أنه لا يقبل الحديث إلا بإسناد صحيح .

                                                                                                                وقوله : ( مفاوز ) جمع مفازة وهي الأرض القفر البعيدة عن العمارة وعن الماء التي [ ص: 80 ] يخاف الهلاك فيها ، قيل : سميت مفازة للتفاؤل بسلامة سالكها كما سموا اللديغ سليما ، وقيل : لأن من قطعها فاز ونجا ، وقيل : لأنها تهلك صاحبها يقال : فوز الرجل : إذا هلك . ثم إن هذه العبارة التي استعملها هنا استعارة حسنة وذلك لأن الحجاج بن دينار هذا من تابعي التابعين ، فأقل ما يمكن أن يكون بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - اثنان التابعي والصحابي فلهذا قال بينهما مفاوز أي : انقطاع كثير .

                                                                                                                وأما قوله : ( ليس في الصدقة اختلاف ) فمعناه أن هذا الحديث لا يحتج به ، ولكن من أراد بر والديه فليتصدق عنهما فإن الصدقة تصل إلى الميت وينتفع بها بلا خلاف بين المسلمين وهذا هو الصواب .

                                                                                                                وأما ما حكاه أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي البصري الفقيه الشافعي في كتابه الحاوي عن بعض أصحاب الكلام من أن الميت لا يلحقه بعد موته ثواب فهو مذهب باطل قطعا وخطأ بين مخالف لنصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة فلا التفات إليه ولا تعريج عليه .

                                                                                                                وأما الصلاة والصوم فمذهب الشافعي وجماهير العلماء أنه لا يصل ثوابهما إلى الميت إلا إذا كان الصوم واجبا على الميت فقضاه عنه وليه أو من أذن له الولي فإن فيه قولين للشافعي أشهرهما عنه أنه لا يصح وأصحهما عند محققي متأخري أصحابه أنه يصح وستأتي المسألة في كتاب الصيام إن شاء الله .

                                                                                                                وأما قراءة القرآن فالمشهور من مذهب الشافعي أنه لا يصل ثوابها إلى الميت وقال بعض أصحابه : يصل ثوابها إلى الميت .

                                                                                                                وذهب جماعات من العلماء إلى أنه يصل إلى الميت ثواب جميع العبادات من الصلاة والصوم والقراءة وغير ذلك ، وفي صحيح البخاري في باب من مات وعليه نذر أن ابن عمر أمر من ماتت أمها وعليها صلاة أن تصلي عنها . وحكى صاحب الحاوي عن عطاء بن أبي رباح وإسحاق بن راهويه أنهما قالا بجواز الصلاة عن الميت . وقال الشيخ أبو سعد عبد الله بن محمد بن هبة الله بن أبي عصرون من أصحابنا المتأخرين في كتابه الانتصار إلى اختيار هذا ، وقال الإمام أبو محمد البغوي من أصحابنا في كتابه التهذيب : لا يبعد أن يطعم عن كل صلاة مد من طعام وكل هذه المذاهب ضعيفة . ودليلهم القياس على الدعاء والصدقة والحج فإنها تصل بالإجماع ودليل الشافعي وموافقيه قول الله : تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له واختلف أصحاب الشافعي في ركعتي الطواف في حج الأجير هل تقعان عن الأجير أم عن المستأجر ؟ والله أعلم .

                                                                                                                وأما ( خراش ) المذكور فبكسر الخاء المعجمة وقد تقدم في الفصول أنه ليس في الصحيحين حراش بالمهملة إلا والد ربعي .

                                                                                                                وأما قول مسلم : ( حدثني أبو بكر بن النضر بن أبي النضر قال : حدثني أبو النضر هاشم بن [ ص: 81 ] القاسم قال : حدثنا أبو عقيل صاحب بهية ) فهكذا وقع في الأصول أبو بكر بن النضر بن أبي النضر قال : حدثني أبو النضر . و ( أبو النضر ) هذا جد أبي بكر هذا وأكثر ما يستعمل أبو بكر بن أبي النضر ، واسم أبي النضر هاشم بن القاسم ، ولقب أبي النضر قيصر ، وأبو بكر هذا الاسم له لا كنيته هذا هو المشهور ، وقال عبد الله بن أحمد الدورقي : اسمه أحمد ، قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر : قيل : اسمه محمد .

                                                                                                                وأما ( أبو عقيل ) فبفتح العين و ( بهية ) بضم الباء الموحدة وفتح الهاء وتشديد الياء وهي امرأة تروي عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - قيل : إنها سمتها بهية ، ذكره أبو علي الغساني في تقييد المهمل ، وروى عن بهية مولاها أبو عقيل المذكور واسمه يحيى بن المتوكل الضرير المدني وقيل : الكوفي ، وقد ضعفه يحيى بن معين وعلي بن المديني وعمرو بن علي وعثمان بن سعيد الدارمي وابن عمار والنسائي ، ذكر هذا كله الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد بأسانيده عن هؤلاء .

                                                                                                                فإن قيل : فإذا كان هذا حاله فكيف روى له مسلم ؟ فجوابه من وجهين : أحدهما : أنه لم يثبت جرحه عنده مفسرا ولا يقبل الجرح إلا مفسرا .

                                                                                                                والثاني : أنه لم يذكره أصلا ومقصودا بل ذكره استشهادا لما قبله .

                                                                                                                وأما قوله في الرواية الأولى للقاسم بن عبيد الله : ( لأنك ابن إمامي هدى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ) . وفي الرواية الثانية ( وأنت ابن إمامي الهدى يعني عمر وابن عمر رضي الله عنهما ) فلا مخالفة بينهما فإن القاسم هذا هو ابن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فهو ابنهما ، وأم القاسم هي أم عبد الله بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - . فأبو بكر جده الأعلى لأمه [ ص: 82 ] وعمر جده الأعلى لأبيه وابن عمر جده الحقيقي لأبيه رضي الله عنهم أجمعين .

                                                                                                                وأما قول سفيان في الرواية الثانية : ( أخبروني عن أبي عقيل ) فقد يقال فيه : هذه رواية عن مجهولين وجوابه ما تقدم أن هذا ذكره متابعة واستشهادا والمتابعة والاستشهاد يذكرون فيهما من لا يحتج به على انفراده ; لأن الاعتماد على ما قبلهما لا عليهما وقد تقدم بيان هذا في الفصول والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( سئل ابن عون عن حديث لشهر وهو قائم على أسكفة الباب فقال : إن شهرا نزكوه ، قال : يقول : أخذته ألسنة الناس : تكلموا فيه ) أما ( ابن عون ) فهو الإمام الجليل المجمع على جلالته وورعه عبد الله بن عون بن أرطبان أبو عون البصري كان يسمى سيد القراء أي العلماء وأحواله ومناقبه أكثر من أن تحصر .

                                                                                                                وقوله : ( أسكفة الباب ) هي العتبة السفلى التي توطأ وهي بضم الهمزة والكاف وتشديد الفاء .

                                                                                                                وقوله : ( نزكوه ) هو بالنون والزاي المفتوحتين معناه طعنوا فيه وتكلموا بجرحه فكأنه يقول : طعنوه بالنيزك بفتح النون المثناة وإسكان المثناة من تحت وفتح الزاي وهو رمح قصير وهذا الذي ذكرته هو الرواية الصحيحة المشهورة وكذا ذكرها من أهل الأدب واللغة والغريب الهروي في غريبه ، وحكى القاضي عياض عن كثيرين من رواة مسلم أنهم رووه ( تركوه ) بالتاء والراء وضعفه القاضي وقال : الصحيح بالنون والزاي قال : وهو الأشبه بسياق الكلام وقال غير القاضي : رواية التاء تصحيف وتفسير مسلم يردها . ويدل عليه أيضا أن شهرا ليس متروكا بل وثقه كثيرون من كبار أئمة السلف أو أكثرهم ، فممن وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وآخرون وقال أحمد بن حنبل : ما أحسن حديثه ، ووثقه ، وقال أحمد بن عبد الله العجلي : هو تابعي ثقة ، وقال ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين : هو ثقة . ولم يذكر ابن أبي خيثمة غير هذا وقال أبو زرعة : لا بأس به ، وقال الترمذي : قال محمد يعني البخاري : شهر حسن الحديث وقوي أمره ، وقال : إنما تكلم فيه ابن عون ثم روى عن هلال بن أبي زينب عن شهر وقال يعقوب بن شيبة : شهر ثقة ، وقال صالح بن محمد : شهر روى عنه الناس من أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الشام ولم يوقف منه على كذب وكان رجلا ينسك أي يتعبد إلا أنه روى أحاديث لم يشركه فيها أحد فهذا كلام هؤلاء الأئمة في الثناء عليه . وأما ما ذكر من جرحه أنه أخذ خريطة من بيت المال فقد حمله العلماء المحققون على محمل صحيح وقول أبي حاتم بن حيان أنه سرق من [ ص: 83 ] رفيقه في الحج عيبة غير مقبول عند المحققين بل أنكروه والله أعلم .

                                                                                                                وهو ( شهر بن حوشب ) بفتح الحاء المهملة والشين المعجمة أبو سعيد ويقال : أبو عبد الله وأبو عبد الرحمن وأبو الجعد الأشعري الشامي الحمصي وقيل : الدمشقي .

                                                                                                                وقوله : ( أخذته ألسنة الناس ) جمع لسان على لغة من جعل اللسان مذكرا وأما من جعله مؤنثا فجمعه ألسن بضم السين قاله ابن قتيبة . والله أعلم .

                                                                                                                وقوله رحمه الله : ( حدثنا حجاج بن الشاعر حدثنا شبابة ) هو حجاج بن يوسف بن حجاج الثقفي أبو محمد البغدادي ، كان أبوه يوسف شاعرا صحب أبا نواس ، وحجاج هذا يوافق الحجاج بن يوسف بن الحكم الثقفي أبا محمد الوالي الجائر المشهور بالظلم وسفك الدماء فيوافقه في اسمه واسم أبيه وكنيته ونسبته ، ويخالفه في جده وعصره وعدالته وحسن طريقته .

                                                                                                                وأما ( شبابة ) فبفتح الشين المعجمة وبالباءين الموحدتين وهو شبابة ابن سوار أبو عمرو الفزاري مولاهم المدايني قيل : اسمه مروان وشبابة لقب .

                                                                                                                وأما قوله : ( عباد بن كثير من تعرف حاله ) فهو بالتاء المثناة فوق خطابا يعني أنت عارف بضعفه .

                                                                                                                وأما ( الحسين بن واقد ) فبالقاف .

                                                                                                                وأما ( محمد بن أبي عتاب ) فبالعين المهملة .

                                                                                                                وأما قول يحيى بن سعيد : ( لم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث ) وفي الرواية الأخرى ( لم تر ) ضبطناه في الأول بالنون وفي الثاني بالتاء المثناة ومعناه ما قاله مسلم أنه يجري الكذب [ ص: 84 ] على ألسنتهم ولا يتعمدون ذلك لكونهم لا يعانون صناعة أهل الحديث ، فيقع الخطأ في رواياتهم ولا يعرفونه ويروون الكذب ، ولا يعلمون أنه كذب . وقد قدمنا أن مذهب أهل الحق أن الكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عمدا كان أو سهوا أو غلطا .

                                                                                                                وقوله : ( فلقيت أنا محمد بن يحيى بن سعيد القطان ) فالقطان مجرور صفة ليحيى وليس منصوبا على أنه صفة لمحمد والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( فأخذه البول فقام فنظرت في الكراسة فإذا فيها حدثني أبان عن أنس ) أما قوله : ( أخذه البول ) فمعناه ضغطه وأزعجه واحتاج إلى إخراجه .

                                                                                                                وأما ( الكراسه ) بالهاء في آخرها فمعروفة قال أبو جعفر النحاس في كتابه صناعة الكتاب : الكراسه معناها الكتبة المضموم بعضها إلى بعض والورق الذي قد ألصق بعضه إلى بعض مشتق من قولهم : رسم مكرس إذا ألصقت الريح التراب به ، قال : وقال الخليل الكراسه مأخوذة من أكراس الغنم وهو أن تبول في الموضع شيئا بعد شيء فيتلبد . وقال أقضى القضاة الماوردي أصل الكرسي العلم ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب كراسه . والله أعلم .

                                                                                                                وأما ( أبان ) ففيه وجهان لأهل العربية الصرف وعدمه ، فمن لم يصرفه جعله فعلا ماضيا والهمزة زائدة ، فيكون أفعل . ومن صرفه جعل الهمزة أصلا فيكون فعالا ، وصرفه هو الصحيح هو الذي اختاره الإمام محمد بن جعفر في كتابه جامع اللغة والإمام أبو محمد بن السيد البطليوسي .

                                                                                                                قال رحمه الله : ( وسمعت الحسن بن علي الحلواني يقول رأيت في كتاب عفان حديث هشام أبي المقدام حديث عمر بن عبد العزيز قال هشام حدثني رجل يقال له يحيى بن فلان عن محمد بن كعب قلت : إنهم يقولون هشام سمعه من محمد بن كعب فقال : إنما ابتلي من قبل هذا الحديث فكان يقول : حدثني يحيى عن محمد ثم ادعى بعد أنه سمعه من محمد ) .

                                                                                                                أما قوله : ( حديث عمر ) فيجوز في إعرابه النصب والرفع . فالرفع على تقدير هو حديث عمر ، والنصب على وجهين : [ ص: 85 ] أحدهما البدل من قوله حديث هشام ، والثاني على تقدير أعني .

                                                                                                                وقوله ( قال هشام حدثني رجل إلى آخره ) هو بيان للحديث الذي رآه في كتاب عفان .

                                                                                                                وأما ( هشام ) هذا فهو ابن زياد الأموي مولاهم البصري ضعفه الأئمة . ثم هنا قاعدة ننبه عليها ثم نحيل عليها فيما بعد - إن شاء الله تعالى - وهي : أن عفان - رحمه الله - قال : إنما ابتلي هشام يعني : إنما ضعفوه من قبل هذا الحديث ، كان يقول : حدثني يحيى عن محمد ثم ادعى بعد أنه سمعه من محمد . وهذا القدر وحده لا يقتضي ضعفا لأنه ليس فيه تصريح بكذب لاحتمال أنه سمعه من محمد ثم نسيه ، فحدث به عن يحيى عنه ، ثم ذكر سماعه من محمد فرواه عنه ، ولكن انضم إلى هذا قرائن وأمور اقتضت عند العلماء بهذا الفن الحذاق فيه من أهله العارفين بدقائق أحوال رواته أنه لم يسمعه من محمد ، فحكموا بذلك لما قامت الدلائل الظاهرة عندهم بذلك ، وسيأتي بعد هذا أشياء كثيرة من أقوال الأئمة في الجرح بنحو هذا وكلها يقال فيها ما قلنا هنا . والله أعلم .

                                                                                                                قال - رحمه الله - : ( حدثنا محمد بن عبد الله بن قهزاذ قال : سمعت عبد الله بن عثمان بن جبلة يقول : قلت لعبد الله بن المبارك : من هذا الرجل الذي رويت عنه حديث عبد الله بن عمرو : يوم الفطر يوم الجوائز ؟ قال : سليمان بن الحجاج انظر ما وضعت في يدك منه ) .

                                                                                                                قال قهزاد : وسمعت وهب بن زمعة يذكر عن سفيان بن عبد الملك قال : قال عبد الله - يعني ابن المبارك - : رأيت روح بن غطيف صاحب ( الدم قدر درهم ) وجلست إليه مجلسا فجعلت أستحي من أصحابي أن يروني جالسا معه كره حديثه

                                                                                                                أما ( قهزاذ ) فتقدم ضبطه .

                                                                                                                وأما ( عبد الله بن عثمان بن جبلة ) فهو الملقب بعبدان وتقدم بيانه .

                                                                                                                و ( جبلة ) بفتح الجيم والموحدة .

                                                                                                                وأما حديث يوم الفطر يوم الجوائز فهو ما روي : " إذا كان يوم الفطر وقفت الملائكة على أفواه الطرق ونادت يا معشر المسلمين اغدوا إلى رب رحيم يأمر بالخير ويثيب عليه الجزيل ، أمركم فصمتم وأطعتم ربكم فاقبلوا جوائزكم .

                                                                                                                فإذا صلوا العيد نادى مناد من السماء : [ ص: 86 ] ارجعوا إلى منازلكم راشدين فقد غفرت ذنوبكم كلها ويسمى ذلك اليوم يوم الجوائز
                                                                                                                " وهذا الحديث رويناه في كتاب المستقصى في فضائل المسجد الأقصى تصنيف الحافظ أبي محمد بن عساكر الدمشقي - رحمه الله - والجوائز جمع جائزة وهي العطاء .

                                                                                                                وأما قوله : ( انظر ما وضعت في يدك ) ضبطناه بفتح التاء من وضعت ولا يمتنع ضمها وهو مدح وثناء على سليمان بن الحجاج .

                                                                                                                وأما ( زمعة ) فبإسكان الميم وفتحها ، وأما ( غطيف ) فبغين معجمة مضمومة ثم طاء مهملة مفتوحة هذا هو الصواب وحكى القاضي عن أكثر شيوخه أنهم رووه ( غضيف ) بالضاد المعجمة قال وهو خطأ ، قال البخاري في تاريخه : هو منكر الحديث .

                                                                                                                وقوله : ( صاحب الدم قدر الدرهم ) يريد وصفه وتعريفه بالحديث الذي رواه روح هذا عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة يرفعه " تعاد الصلاة من قدر الدرهم " يعني من الدم ، وهذا الحديث ذكره البخاري في تاريخه . وهو حديث باطل لا أصل له عند أهل الحديث . والله أعلم .

                                                                                                                وقوله ( أستحيي ) هو بياءين ويجوز حذف إحداهما وسيأتي - إن شاء الله تعالى - تفسير حقيقة الحياء في بابه من كتاب الإيمان .

                                                                                                                وقوله : ( كره حديثه ) هو بضم الكاف ونصب الهاء أي كراهية له . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( ولكنه يأخذ عمن أقبل وأدبر ) يعني عن الثقات والضعفاء .

                                                                                                                وقوله : ( عن الشعبي قال : حدثني الحارث الأعور الهمداني ) أما الهمداني فبإسكان الميم وبالدال المهملة .

                                                                                                                وأما ( الشعبي ) فبفتح الشين واسمه عامر بن شراحيل ، وقيل : ابن شرحبيل .

                                                                                                                والأول هو المشهور منسوب إلى شعب بطن من همدان ولد لست سنين خلت من خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وكان الشعبي إماما عظيما جليلا جامعا للتفسير والحديث والفقه والمغازي والعبادة ، قال الحسن : كان الشعبي والله كثير العلم عظيم الحلم قديم السلم من الإسلام بمكان .

                                                                                                                وأما ( الحارث الأعور ) فهو الحارث بن عبد الله ، وقيل : ابن عبيد أبو زهير الكوفي متفق على ضعفه .

                                                                                                                قال - رحمه الله - : ( وحدثنا أبو عامر عبد الله بن براد الأشعري قال : حدثنا أبو أسامة عن مفضل عن مغيرة قال : سمعت الشعبي يقول : حدثني الحارث الأعور وهو يشهد أنه أحد الكذابين ) هذا إسناد كله كوفيون .

                                                                                                                فأما ( براد ) : فبباء موحدة مفتوحة ثم راء مشددة ثم ألف ثم دال مهملة . وهو عبد الله بن براد بن يوسف بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري الكوفي .

                                                                                                                وأما ( أبو أسامة ) فاسمه حماد [ ص: 87 ] بن أسامة بن يزيد القرشي مولاهم الكوفي الحافظ الضابط المتقن العابد .

                                                                                                                وأما ( مفضل ) فهو ابن مهلل ، أبو عبد الرحمن السعدي الكوفي الحافظ الضابط المتقن العابد .

                                                                                                                وأما ( مغيرة ) فهو ابن مقسم أبو هشام الضبي الكوفي وتقدم أن ميم المغيرة تضم وتكسر .

                                                                                                                وأما قوله : ( أحد الكذابين ) فبفتح النون على الجمع والضمير في قوله : ( وهو يشهد ) يعود على الشعبي . والقائل ( وهو يشهد ) هو المغيرة . والله أعلم .

                                                                                                                وأما قول الحارث : ( تعلمت الوحي في سنتين أو في ثلاث سنين ) وفي الرواية الأخرى ( القرآن هين والوحي أشد ) فقد ذكره مسلم في جملة ما أنكر على الحارث وجرح به ، وأخذ عليه من قبيح مذهبه وغلوه في التشيع ، وكذبه ، قال القاضي عياض - رحمه الله - : وأرجو أن هذا من أخف أقواله لاحتماله الصواب فقد فسره بعضهم بأن الوحي هنا الكتابة ومعرفة الخط قاله الخطابي ، يقال : أوحى ووحى إذا كتب ، وعلى هذا ليس على الحارث في هذا درك وعليه الدرك في غيره ، قال القاضي : ولكن لما عرف قبح مذهبه وغلوه في مذهب الشيعة ودعواهم الوصية إلى علي - رضي الله عنه - وسر النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه من الوحي وعلم الغيب ما لم يطلع غيره عليه بزعمهم سيء الظن بالحارث في هذا وذهب به ذلك ، ولعل هذا القائل فهم من الحارث معنى منكرا فيما أراده . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( حدثنا زائدة عن منصور والمغيرة عن إبراهيم ) فالمغيرة مجرور معطوف على منصور .

                                                                                                                قوله : ( وأحس الحارث بالشر ) هكذا ضبطناه من أصول محققة ( أحس ) ووقع في كثير من الأصول أو أكثرها ( حس ) بغير ألف وهما لغتان حس وأحس ، ولكن أحس أفصح وأشهر وبها جاء القرآن العزيز ، قال الجوهري وآخرون : حس وأحس لغتان بمعنى علم وأيقن .

                                                                                                                وأما قول الفقهاء وأصحاب الأصول : الحاسة والحواس الخمس فإنما يصح على اللغة القليلة حس بغير ألف والكثير في حس بغير ألف أن يكون بمعنى قتل .

                                                                                                                [ ص: 88 ] قوله : ( إياكم والمغيرة بن سعيد وأبا عبد الرحيم فإنهما كذابان ) أما ( المغيرة بن سعيد ) فقال النسائي في كتابه كتاب الضعفاء : هو كوفي دجال أحرق بالنار زمن النخعي ادعى النبوة .

                                                                                                                وأما ( أبو عبد الرحيم ) فقيل : هو شقيق الضبي الكوفي القاص ، وقيل هو سلمة بن عبد الرحمن النخعي وكلاهما يكنى أبا عبد الرحيم ، وهما ضعيفان ، وسيأتي ذكرهما قريبا أيضا إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                قوله : ( وحدثني أبو كامل الجحدري ) هو بجيم مفتوحة ثم حاء ساكنة ثم دال مفتوحة مهملتين واسم أبي كامل فضيل بن حسين بالتصغير ، فيهما ابن طلحة البصري قال أبو سعيد السمعاني : هو منسوب إلى جحدر اسم رجل .

                                                                                                                قوله : ( كنا نأتي أبا عبد الرحمن السلمي ونحن غلمة أيفاع وكان يقول : لا تجالسوا القصاص غير أبي الأحوص وإياكم وشقيقا ، قال : وكان شقيق هذا يرى رأي الخوارج وليس بأبي وائل ) أما ( أبو عبد الرحمن السلمي ) فبضم السين ، واسمه عبد الله بن حبيب بن ربيعة بضم الراء وفتح الموحدة وكسر المثناة المشددة وآخره هاء الكوفي التابعي الجليل .

                                                                                                                وقوله : ( غلمة ) جمع غلام ، واسم الغلام يقع على الصبي من حين يولد على اختلاف حالاته إلى أن يبلغ .

                                                                                                                وقوله : ( أيفاع ) أي شببة قال القاضي عياض : معناه بالغون ، يقال : غلام يافع ويفع ويفعة بفتح الفاء فيهما إذا شب وبلغ أو كاد يبلغ ، قال الثعالبي : إذ قارب البلوغ أو بلغه يقال له : يافع وقد أيفع وهو نادر ، وقال أبو عبيد : أيفع الغلام إذا شارف الاحتلام ولم يحتلم هذا آخر نقل القاضي عياض ، وكأن اليافع مأخوذ من اليفاع بفتح الياء وهو ما ارتفع من الأرض ، قال الجوهري : ويقال غلمان أيفاع ويفعة أيضا .

                                                                                                                وأما ( القصاص ) بضم القاف فجمع قاص وهو الذي يقرأ القصص على الناس قال أهل اللغة : القصة الأمر والخبر وقد اقتصصت الحديث إذا رويته على وجهه وقص عليه الخبر قصصا بفتح القاف . والاسم أيضا القصص بالفتح . والقصص بكسر القاف اسم جمع للقصة .

                                                                                                                وأما ( شقيق ) الذي نهى عن مجالسته فقال القاضي عياض : هو شقيق الضبي الكوفي القاص ، ضعفه النسائي ، كنيته أبو عبد الرحيم ، قال بعضهم : وهو أبو عبد الرحيم الذي حذر منه إبراهيم قبل هذا في الكتاب ، وقيل : إن أبا عبد الرحيم الذي حذر منه إبراهيم هو سلمة بن عبد الرحمن النخعي ذكر ذلك ابن أبي حاتم الرازي في كتابه عن ابن المديني .

                                                                                                                وقول مسلم : ( وليس بأبي وائل ) يعني ليس هذا الذي نهى عن مجالسته بشقيق بن سلمة أبي وائل الأسدي المشهور ، معدود من كبار التابعين هذا آخر كلام القاضي رحمه الله .

                                                                                                                [ ص: 89 ] قوله : ( وحدثنا أبو غسان محمد بن عمرو الرازي ) هو بفتح الغين المعجمة وتشديد السين المهملة والمسموع في كتب المحدثين ورواياتهم غسان غير مصروف ، وذكره ابن فارس في المجمل وغيره من أهل اللغة في باب غسن وفي باب وهذا تصريح بأنه يجوز صرفه وترك صرفه فمن جعل النون أصلا صرفه ، ومن جعلها زائدة لم يصرفه ، وأبو غسان هذا هو الملقب بزنيج بضم الزاي والجيم .

                                                                                                                قوله في جابر الجعفي : ( كان يؤمن بالرجعة ) هي بفتح الراء قال الأزهري وغيره : لا يجوز فيها إلا بفتح . وأما رجعة المرأة المطلقة ففيها لغتان الكسر والفتح ، قال القاضي عياض - رحمه الله تعالى - وحكي في هذه الرجعة التي كان يؤمن بها جابر الكسر أيضا : ومعنى إيمانه بالرجعة هو ما تقوله الرافضة وتعتقده بزعمها الباطل أن عليا - كرم الله وجهه - في السحاب فلا نخرج يعني مع من يخرج من ولده حتى ينادي من السماء أن اخرجوا معه . وهذا نوع من أباطيلهم وعظيم من جهالاتهم اللاصقة بأذهانهم السخيفة وعقولهم الواهية .

                                                                                                                قوله - رحمه الله تعالى - : ( وحدثني سلمة بن شبيب حدثنا الحميدي حدثنا سفيان ) هو سفيان بن عيينة الإمام المشهور .

                                                                                                                وأما ( الحميدي ) فهو عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبد الله بن الزبير بن عبيد الله بن حميد أبو بكر القرشي الأسدي المكي .

                                                                                                                وقوله : ( حدثنا أبو يحيى الحماني ) هو بكسر الحاء المهملة واسمه عبد الحميد بن عبد الرحمن الكوفي منسوب إلى بطن من همدان .

                                                                                                                وأما ( الجراح بن مليح ) فبفتح الميم وكسر اللام وهو والد وكيع ، وهذا الجراح ضعيف عند المحدثين ، ولكنه مذكور هنا في المتابعات .

                                                                                                                وقوله : ( عندي سبعون ألف حديث عن أبي جعفر ) أبو جعفر هذا هو محمد بن علي بن الحسين [ ص: 90 ] بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - المعروف بالباقر لأنه بقر العلم أي شقه وفتحه فعرف أصله وتمكن فيه .

                                                                                                                وقوله : ( سمعت أبا الوليد يقول سمعت سلام بن أبي مطيع ) اسم أبي الوليد هشام بن عبد الملك وهو الطيالسي .

                                                                                                                و ( سلام ) بتشديد اللام ، واسم أبي مطيع سعد .

                                                                                                                وقوله : ( إن الرافضة تقول : إن عليا - رضي الله عنه - في السحاب فلا نخرج ) إلى آخره ( نخرج ) بالنون وسموا رافضة : من الرفض وهو الترك ، قال الأصمعي وغيره : سموا رافضة لأنهم رفضوا زيد بن علي فتركوه .

                                                                                                                قال - رحمه الله - : ( وحدثني سلمة حدثنا الحميدي حدثنا سفيان قال : سمعت جابرا يحدث بنحو من ثلاثين ألف حديث ) قال أبو علي الغساني الجياني : سقط ذكر سلمة بن شبيب بين مسلم والحميدي عند ابن ماهان والصواب رواية الجلودي بإثباته فإن مسلما لم يلق الحميدي ، قال أبو عبد الله بن الحذاء - أحد رواة كتاب مسلم - : سألت عبد الغني بن سعد هل روى مسلم عن الحميدي؟ فقال : لم أره إلا في هذا الموضع وما أبعد ذلك أو يكون سقط قبل الحميدي رجل ، قال القاضي عياض وعبد الغني : إنما رأى من مسلم نسخة ابن ماهان فلذلك قال ما قال ، ولم تكن نسخة [ ص: 91 ] الجلودي دخلت مصر ، قال : وقد ذكر مسلم قبل هذا حدثنا سلمة . حدثنا في حديث آخر كذا هو عند جميعهم وهو الصواب هنا أيضا إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                قوله : ( الحارث بن حصيرة ) هو بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين وآخره هاء وهو أزدي كوفي سمع زيد بن وهب قاله البخاري .

                                                                                                                قال رحمه الله : ( حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي ) هو بفتح الدال وإسكان الواو وفتح الراء وبالقاف واختلف في معنى هذه النسبة فقيل : كان أبوه ناسكا أي عابدا وكانوا في ذلك الزمان يسمون الناسك دورقيا ، وهذا القول مروي عن أحمد الدورقي ، هذا وهو من أشهر الأقوال ، وقيل هي نسبة إلى القلانس الطوال التي تسمى ، وقيل : منسوب إلى دورق بلدة : بفارس أو غيرها .

                                                                                                                قوله : ( ذكر أيوب رجلا فقال : لم يكن بمستقيم اللسان وذكر آخر فقال : هو يزيد في الرقم ) أيوب هذا هو السختياني تقدم ذكره أول الكتاب . وهذان اللفظان كناية عن الكذب ، وقول أيوب في عبد الكريم : رحمه الله كان غير ثقة لقد سألني عن حديث لعكرمة ثم قال : سمعت عكرمة ، هذا القطع بكذبه ، وكونه غير ثقة بمثل هذه القضية قد يستشكل من حيث إنه يجوز أن يكون سمعه من عكرمة ثم نسيه فسئل عنه ثم ذكره فرواه ، ولكن عرف كذبه بقرائن وقد قدمت إيضاح هذا في أول هذا الباب ، وممن نص على ضعف عبد الكريم هذا سفيان بن عيينة وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل وابن عدي ، وكان عبد الكريم هذا من فضلاء فقهاء البصرة والله أعلم .

                                                                                                                [ ص: 92 ] قوله : ( قدم علينا أبو داود الأعمى فجعل يقول : حدثنا البراء حدثنا زيد بن أرقم فذكرنا ذلك لقتادة فقال : كذب ما سمع منهم إنما كان إذ ذاك سائلا يتكفف الناس زمن طاعون الجارف ) وفي الرواية الأخرى ( قبل الجارف ) .

                                                                                                                أما ( أبو داود ) هذا فاسمه نفيع بن الحارث القاص الأعمى متفق على ضعفه ، قال عمرو بن علي : هو متروك ، وقال يحيى بن معين وأبو زرعة : ليس هو بشيء ، وقال أبو حاتم : منكر الحديث ، وضعفه آخرون .

                                                                                                                وقوله : ( ما سمع منهم ) يعني البراء وزيدا وغيرهما ممن زعم أنه روى عنه ، فإنه زعم أنه رأى ثمانية عشر بدريا كما صرح به في الرواية الأخرى في الكتاب .

                                                                                                                وقوله : ( يتكفف الناس ) معناه يسألهم في كفه أو بكفه ، ووقع في بعض النسخ ( يتطفف ) بالطاء وهو بمعنى يتكفف أي يسأل في كفه الطفيف وهو القليل ، وذكر ابن أبي حاتم في كتابه الجرح والتعديل وغيره : يتنطف ، ولعله مأخوذ من قولهم : ما تنطفت به أي ما تلطخت .

                                                                                                                وأما ( طاعون الجارف ) فسمي بذلك لكثرة من مات فيه من الناس وسمي الموت جارفا لاجترافه الناس ، وسمي السيل جارفا لاجترافه على وجه الأرض ، والجرف : الغرف من فوق الأرض وكشح ما عليها .

                                                                                                                وأما الطاعون فوباء معروف وهو بثر وورم مؤلم جدا يخرج مع لهب ويسود ما حوله أو يخضر أو يحمر حمرة بنفسجية كدرة ويحصل معه خفقان القلب والقيء .

                                                                                                                وأما زمن طاعون الجارف فقد اختلف فيه أقوال العلماء - رحمهم الله - اختلافا شديدا متباينا تباينا بعيدا . فمن ذلك ما قاله الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر في أول التمهيد قال : مات أيوب السختياني في سنة اثنتين وثلاثين ومائة في طاعون الجارف . ونقل ابن قتيبة في المعارف عن الأصمعي : أن طاعون الجارف كان في زمن ابن الزبير سنة سبع وستين وكذا قال أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدايني في كتاب التعازي : أن طاعون الجارف كان في زمن ابن الزبير - رضي الله عنهما - سنة سبع وستين في شوال ، وكذا ذكر الكلاباذي في كتابه في رجال البخاري معنى هذا فإنه قال : ولد أيوب السختياني سنة ست وستين وفي قوله : إنه ولد قبل الجارف بسنة ، وقال القاضي عياض في هذا الموضع : كان الجارف سنة تسع عشرة ومائة ، وذكر الحافظ عبد الغني المقدسي في ترجمة عبد الله بن مطرف عن يحيى القطان قال : مات مطرف بعد طاعون الجارف ، وكان الجارف سنة سبع وثمانين ، وذكر في ترجمة يونس بن عبيد أنه رأى أنس بن مالك وأنه ولد بعد الجارف ومات سنة سبع وثلاثين ومائة ; فهذه أقوال متعارضة فيجوز أن يجمع بينها بأن كل طاعون من هذه تسمى جارفا لأن معنى الجرف موجود في جميعها وكانت الطواعين كثيرة .

                                                                                                                ذكر ابن قتيبة في المعارف عن الأصمعي أن أول طاعون كان في الإسلام طاعون عمواس بالشام في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فيه توفي أبو عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - ، ومعاذ بن جبل وامرأتاه وابنه - رضي الله عنهم - . [ ص: 93 ] ثم الجارف في زمن ابن الزبير ، ثم طاعون الفتيات ; لأنه بدأ في العذارى والجواري بالبصرة وبواسط وبالشام والكوفة ، وكان الحجاج يومئذ بواسط في ولاية عبد الملك بن مروان وكان يقال له : طاعون الأشراف - يعني لما مات فيه من الأشراف ثم طاعون عدي بن أرطأة سنة مائة ، ثم طاعون غراب سنة سبع وعشرين ومائة ، وغراب : رجل ، ثم طاعون مسلم بن قتيبة سنة إحدى وثلاثين ومائة في شعبان وشهر رمضان وأقلع في شوال ، وفيه مات أيوب السختياني قال : ولم يقع بالمدينة ولا بمكة طاعون قط ، هذا ما حكاه ابن قتيبة .

                                                                                                                وقال أبو الحسن المدايني : كانت الطواعين المشهورة العظام في الإسلام خمسة : طاعون شيرويه بالمدائن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في سنة ست من الهجرة ، ثم طاعون عمواس في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وكان بالشام مات فيه خمسة وعشرون ألفا ، ثم طاعون الجارف في زمن ابن الزبير في شوال سنة تسع وستين ، هلك في ثلاثة أيام في كل يوم سبعون ألفا ، مات فيه لأنس بن مالك - رضي الله عنه - ثلاثة وثمانون ابنا ويقال : ثلاثة وسبعون ابنا ، ومات لعبد الرحمن بن أبي بكرة أربعون ابنا ، ثم طاعون الفتيات في شوال سنة سبع وثمانين ، ثم كان طاعون في سنة إحدى وثلاثين ومائة في رجب ، واشتد في شهر رمضان فكان يحصى في سكة المريد في كل يوم ألف جنازة أياما ، ثم خف في شوال ، وكان بالكوفة طاعون وهو الذي مات فيه المغيرة بن شعبة سنة خمسين . هذا ما ذكره المدائني ، وكان طاعون عمواس سنة ثماني عشرة ، وقال أبو زرعة الدمشقي : كان سنة سبع عشرة . أو ثماني عشرة قرية بين الرملة وبيت المقدس ، نسب الطاعون إليها لكونه بدأ فيها ، وقيل : لأنه عم الناس فيه ، ذكر القولين الحافظ عبد الغني في ترجمة أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - بفتح العين والميم فهذا مختصر ما يتعلق بالطاعون ، فإذا علم ما قالوه في طاعون الجارف فإن قتادة ولد سنة إحدى وستين ومات سنة سبع عشرة ومائة على المشهور وقيل : سنة ثماني عشرة ; ويلزم من هذا بطلان ما فسر به القاضي عياض - رحمه الله - طاعون الجارف هنا ويتعين أحد الطاعونين فإما سنة سبع وستين فإن قتادة كان ابن ست سنين في ذلك الوقت ، ومثله يضبطه . وإما سنة سبع وثمانين وهو الأظهر إن شاء الله تعالى ، والله أعلم .

                                                                                                                وأما قوله : " لا يعرض لشيء من هذا " فهو بفتح الياء وكسر الراء ومعناه لا يعتني بالحديث .

                                                                                                                وقوله : ( ما حدثنا الحسن عن بدري مشافهة ، ولا حدثنا سعيد بن المسيب عن بدري مشافهة إلا عن سعد بن مالك ) المراد بهذا الكلام إبطال قول أبي داود الأعمى هذا وزعمه أنه لقي ثمانية عشر بدريا فقال قتادة : الحسن البصري وسعيد بن المسيب أكبر من أبي داود الأعمى ، وأجل وأقدم سنا وأكثر اعتناء بالحديث وملازمة أهله والاجتهاد في الأخذ عن الصحابة ، ومع هذا كله ما حدثنا واحد منهما عن بدري واحد ، فكيف يزعم أبو داود الأعمى أنه لقي ثمانية عشر بدريا ، هذا بهتان [ ص: 94 ] عظيم .

                                                                                                                وقوله : ( سعد بن مالك ) هو سعد بن أبي وقاص واسم أبي وقاص مالك بن أهيب ويقال : وهيب ، وأما ( المسيب ) والد سعيد فصحابي مشهور - رضي الله عنه - وهو بفتح الياء ، هذا هو المشهور ، وحكى صاحب مطالع الأنوار عن علي بن المديني أنه قال : أهل العراق يفتحون الياء ، وأهل المدينة يكسرونها ، قال : وحكى أن سعيدا كان يكره الفتح . وسعيد إمام التابعين وسيدهم ومقدمهم في الحديث والفقه وتعبير الرؤيا والورع والزهد وغير ذلك ، وأحواله أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر ، وهو مدني كنيته أبو محمد . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( عن رقبة أن أبا جعفر الهاشمي المدني كان يضع أحاديث كلام حق ) أما ( رقبة ) فعلى لفظ رقبة الإنسان ، وهو رقبة بن مسقلة بفتح الميم وإسكان السين المهملة وفتح القاف ابن عبد الله العبدي الكوفي أبو عبد الله ، وكان عظيم القدر جليل الشأن رحمه الله .

                                                                                                                وأما قوله : ( كلام حق ) فبنصب كلام ، وهو بدل من أحاديث ، ومعناه كلام صحيح المعنى وحكمة من الحكم ، ولكنه كذب فنسبه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس هو من كلامه - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                وأما ( أبو جعفر ) هذا فهو عبد الله بن مسور المدائني أبو جعفر الذي تقدم في أول الكتاب في الضعفاء والواضعين ، قال البخاري في تاريخه : هو عبد الله بن مسور بن عون بن جعفر بن أبي طالب أبو جعفر القرشي الهاشمي ، وذكر كلام رقبة وهو هذا الكلام الذي هنا ، ثم إنه وقع في الأصول هنا ( المدني ) وفي بعضها ( المديني ) بزيادة ياء ولم أر في شيء منها هنا المدائني ، ووقع في أول الكتاب المدائني ، فأما المديني والمدني فنسبة إلى مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والقياس المدني بحذف الياء ومن أثبتها فهو على الأصل .

                                                                                                                وروى أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي الإمام الحافظ في كتاب الأنساب المتفقة في الخط المتماثلة في النقط والضبط بإسناده عن الإمام أبي عبد الله البخاري قال : المديني - يعني بالياء - : هو الذي أقام بالمدينة ولم يفارقها ، والمدني الذي تحول عنها وكان منها .

                                                                                                                قال - رحمه الله - : ( حدثنا الحسن الحلواني قال : حدثنا نعيم قال : أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان : وحدثنا محمد بن يحيى قال : حدثنا نعيم بن حماد حدثنا أبو داود الطيالسي ) هكذا وقع في كثير من الأصول المحققة قول أبي إسحاق ، ولم يقع قوله في بعضها وأبو إسحاق هذا صاحب مسلم ورواية الكتاب عنه ، فيكون قد ساوى مسلما في هذا الحديث وعلا فيه برجل ، وأما ( أبو داود الطيالسي ) فاسمه سليمان بن أبي داود ، تقدم بيانه .

                                                                                                                [ ص: 95 ] قوله : ( قلت لعوف بن أبي جميلة : إن عمرو بن عبيد حدثنا عن الحسن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من حمل علينا السلاح فليس منا . قال : كذب والله عمرو ، ولكنه أراد أن يحوزها إلى قوله الخبيث ) .

                                                                                                                أما ( عوف ) فتقدم بيانه في أول الكتاب .

                                                                                                                وأما ( عمرو بن عبيد ) فهو القدري المعتزلي الذي كان صاحب الحسن البصري .

                                                                                                                وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من حمل علينا السلاح فليس منا ) . صحيح مروي من طرق وقد ذكرها مسلم - رحمه الله - بعد هذا . ومعناه عند أهل العلم أنه ليس ممن اهتدى بهدينا واقتدى بعلمنا وعملنا وحسن طريقتنا ، كما يقول الرجل لولده إذا لم يرض فعله : لست مني ، وهكذا القول في كل الأحاديث الواردة بنحو هذا القول ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من غش فليس منا " وأشباهه ، ومراد مسلم - رحمه الله - بإدخال هذا الحديث هنا بيان أن عوفا جرح عمرو بن عبيد وقال : كذب ، وإنما كذبه مع أن الحديث صحيح لكونه نسبه إلى الحسن ، وكان عوف من كبار أصحاب الحسن والعارفين بأحاديثه ، فقال كذب في نسبته إلى الحسن ، فلم يرو الحسن هذا ، أو لم يسمعه هذا من الحسن .

                                                                                                                وقوله : ( أراد أن يحوزها إلى قوله الخبيث ) معناه : كذب بهذه الرواية ليعضد بها مذهبه الباطل الرديء وهو الاعتزال ، فإنهم يزعمون أن ارتكاب المعاصي يخرج صاحبه عن الإيمان ويخلده في النار ولا يسمونه كافرا بل فاسقا مخلدا في النار ، وسيأتي الرد عليهم بقواطع الأدلة في كتاب الإيمان إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                وقول أيوب السختياني : ( إنما نفر أو نفرق من تلك الغرائب ) معناه : إنما نهرب أو نخاف من هذه الغرائب التي يأتي بها عمرو بن عبيد ، مخافة من كونها كذبا فنقع في الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن كانت أحاديث ، وإن كانت من الآراء والمذاهب فحذرا من الوقوع في البدع أو في مخالفة الجمهور .

                                                                                                                وقوله : ( نفرق بفتح الراء .

                                                                                                                وقوله : ( نفر أو نفرق ) شك من الراوي في إحداهما .

                                                                                                                [ ص: 96 ] قوله : ( حدثنا عمرو بن عبيد قبل أن يحدث ) هو بضم الياء وإسكان الحاء وكسر الدال يعني قبل أن يصير مبتدعا قدريا .

                                                                                                                قوله : ( كتبت إلى شعبة أسأله عن أبي شيبة قاضي واسط فكتب إلي : لا تكتب عنه شيئا ومزق كتابي ) وأبو شيبة هذا هو جد أولاد أبي شيبة وهم : أبو بكر وعثمان والقاسم بنو محمد بن إبراهيم أبي شيبة وأبو شيبة ضعيف ، وقد قدمنا بيانه وبيانهم في أول الكتاب ، وواسط مصروف ، كذا سمع من العرب ، وهي من بناء الحجاج بن يوسف .

                                                                                                                وقوله : ( مزق كتابي ) هو بكسر الزاي أمره بتمزيقه مخافة من بلوغه إلى أبي شيبة ووقوفه على ذكره له بما يكره لئلا يناله منه أذى أو يترتب على ذلك مفسدة .

                                                                                                                قوله في صالح المري : ( كذب ) هو من نحو ما قدمناه في قوله لم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث ، معناه ما قاله مسلم : يجري الكذب على ألسنتهم من غير تعمد ، وذلك لأنهم لا يعرفون صناعة هذا الفن فيخبرون بكل ما سمعوه وفيه الكذب فيكونون كاذبين ، فإن الكذب الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو سهوا كان الإخبار أو عمدا ، كما قدمناه ، وكان صالح هذا من كبار العباد الزهاد الصالحين ، وهو صالح بن بشير بفتح الباء وكسر الشين أبو بشير البصري القاضي ، وقيل له : المري ; لأن امرأة من بني مرة أعتقته .

                                                                                                                وأبوه عربي وأمه معتقة للمرأة المرية . وكان صالح - رحمه الله - حسن الصوت بالقرآن ، وقد مات بعض من سمع قراءته ، وكان شديد الخوف من الله تعالى ، كثير البكاء ، قال عفان بن مسلم : كان صالح إذا أخذ في قصصه كأنه رجل مذعور ، يفزعك أمره من حزنه ، [ ص: 97 ] وكثرة بكائه كأنه ثكلى ، والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( عن مقسم ) هو بكسر الميم وفتح السين .

                                                                                                                وقوله : ( قلت للحكم ما تقول في أولاد الزنى قال : يصلى عليهم ، قلت : من حديث من يروى ، قال : يروى عن الحسن البصري ، فقال الحسن بن عمارة : حدثنا الحكم عن يحيى بن الجزار عن علي ) معنى هذا الكلام أن الحسن بن عمارة كذب فروى هذا الحديث عن الحكم عن يحيى عن علي ، وإنما هو عن الحسن البصري من قوله ، وقد قدمنا أن مثل هذا وإن كان يحتمل كونه جاء عن الحسن وعن علي ، لكن الحفاظ يعرفون كذب الكذابين بقرائن ، وقد يعرفون ذلك بدلائل قطعية يعرفها أهل هذا الفن فقولهم مقبول في كل هذا ، والحسن بن عمارة متفق على ضعفه وتركه . وعمارة بضم العين ، ويحيى بن الجزار بالجيم والزاي وبالراء آخره قال صاحب المطالع : ليس في الصحيحين والموطأ غيره ، ومن سواه خزار أو خراز بالخاء فيهما .

                                                                                                                قال - رحمه الله - : ( حدثنا الحسن الحلواني قال : سمعت يزيد بن هارون وذكر زياد بن ميمون فقال : حلفت أن لا أروي عنه شيئا ولا عن خالد بن محدوج قال : لقيت زياد بن ميمون فسألته عن حديث فحدثني به عن بكر المزني ، ثم عدت إليه فحدثني به عن مورق ثم عدت إليه فحدثني به عن الحسن . وكان ينسبهما إلى الكذب ) أما ( محدوج ) فبميم مفتوحة ثم حاء ساكنة ثم دال مضمومة مهملتين ثم واو ثم جيم ، و ( خالد ) هذا واسطي ضعيف ، ضعفه أيضا النسائي وكنيته أبو روح رأى أنس بن مالك رضي الله عنه .

                                                                                                                وأما ( زياد بن ميمون ) فبصري كنيته أبو عمار ضعيف ، قال البخاري في تاريخه : تركوه .

                                                                                                                وأما ( بكر المزني ) فهو بفتح الباء وإسكان الكاف وهو بكر بن عبد الله المزني أبو [ ص: 98 ] عبد الله البصري التابعي الجليل الفقيه رحمه الله .

                                                                                                                وأما ( مورق ) فبضم الميم وفتح الواو وكسر الراء المشددة وهو مورق بن المشمرج بضم الميم الأولى وفتح الشين المعجمة وكسر الراء وبالجيم العجلي الكوفي أبو المعتمر التابعي الجليل العابد .

                                                                                                                وأما قوله : ( وكان ينسبهما إلى الكذب ) فالقائل هو الحلواني ، والناسب يزيد بن هارون ، والمنسوبان خالد بن محدوج وزياد بن ميمون .

                                                                                                                وأما قوله : ( حلفت أن لا أروي عنهما ) ففعله نصيحة للمسلمين ومبالغة في التنفير عنهما لئلا يغتر أحد بهما فيروي عنهما الكذب ; فيقع في الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وربما راج حديثهما فاحتج به ، وأما حكمه بكذب ميمون لكونه حدثه بالحديث عن واحد ثم عن آخر ثم عن آخر فهو جار على ما قدمناه من انضمام القرائن والدلائل على الكذب . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( حديث العطارة ) قال القاضي عياض - رحمه الله - : هو حديث رواه زياد بن ميمون هذا عن أنس أن امرأة يقال لها : الحولاء ، عطارة كانت بالمدينة فدخلت على عائشة - رضي الله عنها - وذكرت خبرها مع زوجها ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر لها في فضل الزوج وهو حديث طويل غير صحيح ، ذكره ابن وضاح بكماله ويقال : إن هذه العطارة هي الحولاء بنت تويت .

                                                                                                                قوله : ( فأنا لقيت زياد بن ميمون وعبد الرحمن بن مهدي ) فعبد الرحمن مرفوع معطوف على الضمير في قوله لقيت .

                                                                                                                قوله : ( إن كان لا يعلم الناس فأنتما لا تعلمان أني لم ألق أنسا ) هكذا وقع في الأصول فأنتما لا تعلمان ومعناه فأنتما تعلمان فيجوز أن تكون لا زائدة ، ويجوز أن يكون معناه أفأنتما لا تعلمان ويكون استفهام تقرير وحذف همزة الاستفهام .

                                                                                                                قوله : ( سمعت شبابة يقول : كان عبد القدوس يحدثنا فيقول : سويد بن عقلة قال شبابة : وسمعت عبد القدوس يقول : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتخذ الروح عرضا قال : فقيل له أي شيء [ ص: 99 ] هذا ؟ فقال : يعني يتخذ كوة في حائطه ليدخل عليه الروح ) المراد بهذا المذكور بيان تصحيف عبد القدوس وغباوته واختلال ضبطه وحصول الوهم في إسناده ومتنه ، فأما الإسناد فإنه قال : سويد بن عقلة بالعين المهملة والقاف وهو تصحيف ظاهر وخطأ بين ، وإنما هو غفلة بالغين المعجمة والفاء المفتوحتين .

                                                                                                                وأما المتن فقال : الروح بفتح الراء وعرضا بالعين المهملة وإسكان الراء وهو تصحيف قبيح وخطأ صريح ، وصوابه الروح بضم الراء وغرضا بالغين المعجمة والراء المفتوحتين . ومعناه : نهى أن نتخذ الحيوان الذي فيه الروح غرضا أي هدفا للرمي فيرمى إليه بالنشاب وشبهه ، وسيأتي إيضاح هذا الحديث وبيان فقهه في كتاب الصيد والذبائح إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                وأما ( شبابة ) فتقدم بيان اسمه وضبطه .

                                                                                                                وأما ( الكوة ) فبفتح الكاف على اللغة المشهورة قال صاحب المطالع : وحكي فيها الضم .

                                                                                                                وقوله ( ليدخل عليه الروح ) أي النسيم .

                                                                                                                قوله : ( قال حماد بعدما جلس مهدي بن هلال : ما هذه العين المالحة التي نبعت قبلكم ، قال : نعم يا أبا إسماعيل ) أما ( مهدي ) هذا : فمتفق على ضعفه ، قال النسائي هو بصري متروك يروي عن داود بن أبي هند ويونس بن عبيد .

                                                                                                                وقوله : ( العين المالحة ) كناية عن ضعفه وجرحه .

                                                                                                                وقوله : ( قال : نعم يا أبا إسماعيل ) كأنه وافقه على جرحه ، وأبو إسماعيل كنية حماد بن زيد .

                                                                                                                قوله : ( سمعت أبا عوانة قال : ما بلغني عن الحسن حديث إلا أتيت به أبان بن أبي عياش فقرأه علي ) أما ( أبو عوانة ) فاسمه الوضاح بن عبد الله ، وأبان يصرف ولا يصرف والصرف أجود وقد تقدم ذكر أبي عوانة وأبان ، ومعنى هذا الكلام أنه كان يحدث عن الحسن بكل ما يسأل عنه ، وهو كاذب في ذلك .

                                                                                                                قوله : ( إن حمزة الزيات رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فعرض عليه ما سمعه من أبان فما عرف منه إلا شيئا يسيرا ) قال القاضي عياض - رحمه الله - : هذا ومثله استئناس واستظهار على ما تقرر من [ ص: 100 ] ضعف أبان لا أنه يقطع بأمر المنام ولا أنه تبطل بسببه سنة ثبتت ولا تثبت به سنة لم تثبت وهذا بإجماع العلماء ، هذا كلام القاضي . وكذا قاله غيره من أصحابنا وغيرهم فنقلوا الاتفاق على أنه لا يغير بسبب ما يراه النائم ما تقرر في الشرع . وليس هذا الذي ذكرناه مخالفا لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من رآني في المنام فقد رآني " . فإن معنى الحديث أن رؤيته صحيحة وليست من أضغاث الأحلام وتلبيس الشيطان ولكن لا يجوز إثبات حكم شرعي به لأن حالة النوم ليست حالة ضبط وتحقيق لما يسمعه الرائي ، وقد اتفقوا على أن من شرط من تقبل روايته وشهادته أن يكون متيقظا لا مغفلا ولا سيئ الحفظ ولا كثير الخطأ ولا مختل الضبط ، والنائم ليس بهذه الصفة فلم تقبل روايته لاختلال ضبطه ، هذا كله في منام يتعلق بإثبات حكم على خلاف ما يحكم به الولاة ، أما إذا رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمره بفعل ما هو مندوب إليه أو ينهاه عن منهي عنه أو يرشده إلى فعل مصلحة فلا خلاف في استحباب العمل على وفقه ; لأن ذلك ليس حكما بمجرد المنام بل تقرر من أصل ذلك الشيء . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( حدثنا الدارمي ) قد تقدم بيانه وأنه منسوب إلى دارم .

                                                                                                                وأما ( أبو إسحاق الفزاري ) فبفتح الفاء واسمه إبراهيم بن محمد بن الحسن بن أسماء بن جارحة الكوفي الإمام الجليل المجمع على جلالته وتقدمه في العلم وفضيلته . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( قال أبو إسحاق الفزاري : اكتب عن بقية ما روى عن المعروفين ، ولا تكتب عنه ما روى عن غير المعروفين ، ولا تكتب عن إسماعيل بن عياش ما روى عن المعروفين ولا غيرهم ) هذا الذي قاله أبو إسحاق الفزاري في إسماعيل خلاف قول جمهور الأئمة ، قال عباس : سمعت يحيى بن معين يقول : إسماعيل بن عياش ثقة وكان أحب إلى أهل الشام من بقية ، وقال ابن أبي خيثمة : سمعت يحيى بن معين يقول : هو ثقة ، والعراقيون يكرهون حديثه وقال البخاري : ما روي عن الشاميين أصح ، وقال عمرو بن علي : إذا حدث عن أهل بلاده فصحيح ، وإذا حدث عن أهل المدينة مثل هشام بن عروة ويحيى بن سعيد وسهيل بن أبي صالح فليس بشيء ، وقال يعقوب بن سفيان : كنت أسمع أصحابنا يقولون : علم الشام عند إسماعيل بن عياش والوليد بن مسلم ، قال يعقوب : وتكلم قوم في إسماعيل ، وهو ثقة عدل أعلم الناس بحديث الشام ، ولا يدفعه دافع ، وأكثر ما تكلموا قالوا : يغرب عن ثقات المكيين والمدنيين ، وقال يحيى بن معين : إسماعيل ثقة فيما روى عن الشاميين ، وأما روايته عن أهل الحجاز فإن كتابه ضاع فخلط في حفظه عنهم ، وقال أبو حاتم : هو لين يكتب حديثه ولا أعلم أحدا كف عنه إلا أبا إسحاق الفزاري وقال الترمذي : قال أحمد : هو أصلح من بقية فإن لبقية أحاديث مناكير ، وقال أحمد بن أبي الحواري : قال لي وكيع : يروون عندكم عن إسماعيل بن [ ص: 101 ] عياش ، فقلت : أما الوليد ومروان فيرويان عنه ، وأما الهيثم بن خارجة ومحمد بن إياس فلا ، فقال : وأي شيء الهيثم وابن إياس إنما أصحاب البلد الوليد ومروان ، والله أعلم .

                                                                                                                قال - رحمه الله - : ( وحدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال سمعت بعض أصحاب عبد الله قال : قال ابن المبارك : نعم الرجل بقية لولا أنه يكني الأسامي ويسمي الكنى ، كان دهرا يحدثنا عن أبي سعيد الوحاظي فنظرنا فإذا هو عبد القدوس ) قوله : ( سمعت بعض أصحاب عبد الله ) هذا مجهول ولا يصح الاحتجاج به ، ولكن ذكره مسلم متابعة لا أصلا . وقد تقدم في الكتاب نظير هذا وقد قدمنا وجه إدخاله هنا .

                                                                                                                وأما قوله : ( يكني الأسامي ويسمي الكنى ) فمعناه : أنه إذا روى عن إنسان معروف باسمه كناه ولم يسمه ، وإذا روى عن معروف بكنيته سماه ولم يكنه ، وهذا نوع من التدليس وهو قبيح مذموم فإنه يلبس أمره على الناس ويوهم أن ذلك الراوي ليس هو ذلك الضعيف فيخرجه عن حاله المعروفة بالجرح المتفق عليه وعلى تركه إلى حالة الجهالة التي لا تؤثر عند جماعة من العلماء ; بل يحتجون لصاحبها وتفضي توقفا عن الحكم بصحته أو ضعفه عند الآخرين ، وقد يعتضد المجهول فيحتج به أو يرجح به غيره أو يستأنس به . وأقبح هذا النوع أن يكني الضعيف ، أو يسميه بكنية الثقة أو باسمه لاشتراكهما في ذلك ، وشهرة الثقة به فيوهم الاحتجاج به . وقد قدمنا حكم التدليس وبسطه في الفصول المتقدمة والله أعلم .

                                                                                                                وأما ( الوحاظي ) فبضم الواو وتخفيف الحاء المهملة وبالظاء المعجمة وحكى صاحب المطالع وغيره فتح الواو أيضا ، قال أبو علي الغساني : بطن من حمير ، وعبد القدوس هذا هو الشامي الذي تقدم تضعيفه وتصحيفه وهو عبد القدوس بن حبيب الكلاعي بفتح الكاف أبو سعيد الشامي فهو كلاعي وحاظي .

                                                                                                                وقول الدارمي : ( سمعت أبا نعيم وذكر المعلى بن عرفان فقال : حدثنا أبو وائل قال : خرج علينا ابن مسعود بصفين فقال أبو نعيم : أتراه بعث بعد الموت ) معنى هذا الكلام أن المعلى كذب على أبي وائل في قوله هذا ; لأن ابن مسعود - رضي الله عنه - توفي سنة اثنتين وثلاثين ، وقيل : سنة [ ص: 102 ] ثلاث وثلاثين ، والأول قول الأكثرين ، وهذا قبل انقضاء خلافة عثمان - رضي الله عنه - بثلاث سنين ، وصفين كانت في خلافة علي - رضي الله عنه - بعد ذلك بسنتين فلا يكون ابن مسعود - رضي الله عنه - خرج عليهم بصفين إلا أن يكون بعث بعد الموت وقد علمتم أنه لم يبعث بعد الموت ، وأبو وائل مع جلالته وكمال فضيلته وعلو مرتبته والاتفاق على صيانته لا يقول خرج علينا من لم يخرج عليهم ، هذا ما لا شك فيه فتعين أن يكون الكذب من المعلى بن عرفان مع ما عرف من ضعفه .

                                                                                                                وقوله : ( أتراه ) هو بضم التاء ومعناه أتظنه .

                                                                                                                وأما ( صفين ) فبكسر الصاد والفاء المشددة وبعدها ياء في الأحوال الثلاث : الرفع والنصب والجر ، وهذه هي اللغة المشهورة وفيها لغة أخرى حكاها أبو عمر الزاهد عن ثعلب عن الفراء ، وحكاها صاحب المطالع وغيره من المتأخرين بالواو في حال الرفع ، وهي موضع الوقعة بين أهل الشام والعراق مع علي ومعاوية - رضي الله عنهما - .

                                                                                                                وأما ( عرفان ) والد المعلى فبضم العين المهملة وإسكان الراء وبالفاء هذا وهو المشهور ، وحكي فيه كسر العين ، وبالكسر ضبطه الحافظ أبو عامر العبدري ، والمعلى هذا أسدي كوفي ضعيف ، قال البخاري - رحمه الله - في تاريخه : هو منكر الحديث ، وضعفه النسائي أيضا وغيره .

                                                                                                                وأما ( أبو نعيم ) فهو الفضل بن دكين بضم المهملة ، لقب واسمه عمرو بن حماد بن زهير وأبو نعيم كوفي من أجل أهل زمانه ومن أتقنهم رحمه الله .

                                                                                                                قال - رحمه الله - : ( وحدثني أبو جعفر الدارمي ) اسم جعفر هذا أحمد بن سعيد بن صخر النيسابوري ، كان ثقة عالما ثبتا متقنا أحد حفاظ الحديث ، وكان أكثر أيامه الرحلة في طلب الحديث .

                                                                                                                قوله : ( صالح مولى التوءمة ) هو بتاء مثناة من فوق ثم واو ساكنة ثم همزة مفتوحة قال القاضي عياض - رحمه الله - : هذا صوابها ، قال : وقد يسهل فتفتح الواو وينقل إليها حركة الهمزة ، قال القاضي : ومن ضم التاء وهمز الواو فقد أخطأ ، وهي رواية أكثر المشايخ والرواة وكما قيدناه أولا قيده أصحاب المؤتلف والمختلف ، وكذلك أتقناه على أهل المعرفة من شيوخنا ، قال : والتوءمة هذه هي بنت أمية بن خلف الجمحي قاله البخاري وغيره ، قال الواقدي : وكانت مع أخت لها في بطن واحد فلذلك قيل : التوءمة وهي مولاة أبي صالح ، وأبو صالح هذا اسمه نبهان ، هذا آخر كلام القاضي ، ثم إن [ ص: 103 ] مالكا - رحمه الله - حكم بضعف صالح مولى التوأمة وقال : ليس هو ثقة ، وقد خالفه غيره فقال يحيى ابن معين : صالح هذا ثقة حجة فقيل : إن مالكا ترك السماع منه فقال : إنما أدركه مالك بعدما كبر وخرف وكذلك الثوري إنما أدركه بعد أن خرف فسمع منه أحاديث منكرات ، ولكن من سمع منه قبل أن يختلط فهو ثبت . وقال أبو أحمد بن عدي : لا بأس به إذا سمعوا منه قديما مثل ابن أبي ذئب وابن جريج وزياد بن سعد وغيرهم . وقال أبو زرعة : صالح هذا ضعيف ، وقال أبو حاتم الرازي : ليس بقوي . وقال أبو حاتم بن حيان : تغير صالح مولى التوءمة في سنة خمس وعشرين ومائة ، واختلط حديثه الأخير بحديثه القديم ولم يتميز فاستحق الترك . والله أعلم .

                                                                                                                وأما ( أبو الحويرث ) الذي قال مالك : إنه ليس بثقة فهو بضم الحاء واسمه عبد الرحمن بن معاوية بن الحويرث الأنصاري الزرقي المدني ، قال الحاكم أبو أحمد : ليس بالقوي عندهم ، وأنكر أحمد بن حنبل قول مالك : إنه ليس بثقة .

                                                                                                                وقال : روى عنه شعبة . وذكره البخاري في تاريخه ولم يتكلم فيه ، قال : وكان شعبة يقول فيه : أبو الجويرية ، وحكى الحاكم أبو أحمد هذا القول ثم قال : وهو وهم . وأما ( شعبة ) الذي روى عنه ابن أبي ذئب ، وقال مالك : ليس هو بثقة - فهو شعبة القرشي الهاشمي المدني أبو عبد الله ، وقيل : أبو يحيى ، مولى ابن عباس ، سمع ابن عباس - رضي الله عنهما - ضعفه كثيرون مع مالك وقال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين : ليس به بأس ، قال ابن عدي : ولم أجد له حديثا منكرا .

                                                                                                                وأما ( ابن أبي ذئب ) فهو السيد الجليل محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب واسمه هشام بن شعبة بن عبد الله القرشي العامري المدني فهو منسوب إلى جد جده ، وأما ( حرام بن عثمان ) الذي قال مالك : ليس هو بثقة فهو بفتح الحاء وبالراء ، قال البخاري : هو أنصاري سلمي منكر الحديث ، قال الزبير : كان يتشيع روى عن ابن جابر بن عبد الله ، وقال النسائي : هو مدني ضعيف .

                                                                                                                قوله : ( وسألته - يعني مالكا - عن رجل فقال : لو كان ثقة لرأيته في كتبي ) هذا تصريح من مالك - رحمه الله - بأن من أدخله في كتابه فهو ثقة ، فمن وجدناه في كتابه حكمنا بأنه ثقة عند مالك ، وقد لا يكون ثقة عند غيره . وقد اختلف العلماء في رواية العدل عن مجهول هل يكون تعديلا له ؟ فذهب بعضهم إلى أنه تعديل ، وذهب الجماهير إلى أنه ليس بتعديل ، وهذا هو الصواب ; فإنه قد يروي عن غير الثقة لا للاحتجاج به ، بل للاعتبار والاستشهاد أو لغير ذلك ، أما إذا قال : مثل قول مالك أو نحوه فمن أدخله في كتابه فهو عنده عدل ، أما إذا قال أخبرني الثقة ; فإنه يكفي في التعديل عند من يوافق القائل في المذهب وأسباب الجرح على المختار فأما من لا يوافقه أو يجهل حاله فلا يكفي في التعديل في حقه ; لأنه قد يكون فيه سبب جرح لا يراه القائل جارحا ونحن نراه جارحا ; فإن أسباب الجرح تخفى ومختلف فيها ، وربما لو ذكر اسمه اطلعنا فيه على جارح .

                                                                                                                [ ص: 104 ] قوله : ( عن شرحبيل بن سعد وكان متهما ) قد قدمنا أن شرحبيل اسم عجمي لا ينصرف ، وكان شرحبيل هذا من أئمة المغازي ، قال سفيان بن عيينة : لم يكن أحد أعلم منه بالمغازي فاحتاج ، وكانوا يخافون إذا جاء إلى الرجل يطلب منه شيئا فلم يعطه أن يقول : لم يشهد أبوك بدرا ، قال غير سفيان : كان شرحبيل مولى للأنصار ، وهو مدني كنيته أبو سعد ، قال محمد بن سعد : كان شيخا قديما روى عن زيد بن ثابت وعامة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبقي إلى آخر الزمان حتى اختلط ، واحتاج حاجة شديدة ، وليس يحتج به .

                                                                                                                قوله : ( ابن قهزاذ عن الطالقاني ) تقدم ضبطهما في الباب الذي قبل هذا .

                                                                                                                قوله : ( لو خيرت بين أن أدخل الجنة وبين أن ألقى عبد الله بن محرر لاخترت أن ألقاه ثم أدخل الجنة ) . و ( محرر ) بضم الميم وفتح الحاء المهملة وبالراء المكررة الأولى مفتوحة ، وقد تقدم في أول الكتاب .

                                                                                                                قوله : ( قال زيد يعني ابن أبي أنيسة ، لا تأخذوا عن أخي ) أما ( أنيسة ) فبضم الهمزة وفتح النون ، واسم أبي أنيسة زيد ، وأما الأخ المذكور فاسمه ( يحيى ) وهو المذكور في الرواية الأخرى ، وهو يروي عن الزهري ، وعمرو بن شعيب ، وهو ضعيف ، قال البخاري : ليس هو بذاك ، وقال النسائي : ضعيف متروك الحديث ، وأما أخوه زيد فثقة جليل احتج به البخاري ومسلم ، قال محمد بن سعد : كان ثقة ، كثير الحديث ، فقيها راوية للعلم .

                                                                                                                قوله : ( حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي قال : حدثني عبد السلام الوابصي ) أما ( الدورقي ) فتقدم بيانه في وسط هذا الباب .

                                                                                                                وأما ( الوابصي ) فبكسر الباء الموحدة وبالصاد المهملة وهو عبد السلام بن عبد الرحمن بن صخر بن عبد الرحمن بن وابصة بن معبد ، الأسدي ، أبو الفضل الرقي - بفتح الراء - قاضي الرقة وحران وحلب وقضى ببغداد .

                                                                                                                [ ص: 105 ] قوله : ( ذكر فرقد عند أيوب فقال : ليس بصاحب حديث ) و ( فرقد ) بفتح الفاء وإسكان الراء وفتح القاف وهو فرقد بن يعقوب السبخي بفتح السين المهملة والموحدة وبالخاء المعجمة - منسوب إلى سبخة البصرة ، أبو يعقوب ، التابعي العابد ، لا يحتج بحديثه عند أهل الحديث ; لكونه ليس صنعته كما قدمناه في قوله : لم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث . وقال يحيى بن معين في رواية عنه : ثقة .

                                                                                                                قوله : ( فضعفه جدا ) هو بكسر الجيم وهو مصدر جد يجد جدا ومعناه : تضعيفا بليغا .

                                                                                                                قوله : ( سمعت يحيى بن سعيد القطان ضعف حكيم بن جبير ، وعبد الأعلى ، وضعف يحيى بن موسى بن دينار ، وقال : حديثه ريح . وضعف موسى بن الدهقان ، وعيسى بن أبي عيسى المدني ) هكذا وقع في الأصول كلها وضعف يحيى بن موسى بإثبات لفظة ( بن ) بين يحيى وموسى ، وهو غلط بلا شك . والصواب حذفها . كذا قاله الحفاظ ; منهم أبو علي الغساني الجياني وجماعات آخرون . والغلط فيه من رواة كتاب مسلم ، لا من مسلم . ويحيى هو ابن سعيد القطان المذكور أولا فضعف يحيى بن سعيد حكيم بن جبير ، وعبد الأعلى ، وموسى بن دينار ، وموسى بن الدهقان ، وعيسى . وكل هؤلاء متفق على ضعفهم .

                                                                                                                وأقوال الأئمة في تضعيفهم مشهورة .

                                                                                                                فأما ( حكيم ) : كوفي متشيع . قال أبو حاتم الرازي : هو غال في التشييع . وقيل لعبد الرحمن بن مهدي ، ولشعبة : لم تركتما حديث حكيم ؟ قالا : نخاف النار .

                                                                                                                وأما ( عبد الأعلى ) فهو ابن عامر الثعالبي - بالمثلثة الكوفي .

                                                                                                                وأما ( موسى بن دينار ) فمكي يروي عن سالم ، قاله النسائي .

                                                                                                                وأما ( موسى بن الدهقان ) فبصري يروي عن ابن كعب بن مالك ، والدهقان بكسر الدال .

                                                                                                                وأما ( عيسى بن أبي عيسى ) فهو عيسى بن ميسرة أبو موسى ، ويقال أبو محمد الغفاري ، المدني أصله كوفي يقال له : الخياط والحناط ، والخباط ، الأول إلى الخياطة ، [ ص: 106 ] والثاني إلى الحنطة والثالث إلى الخبط قال يحيى بن معين : كان خياطا ، ثم ترك ذلك وصار حناطا ، ثم ترك ذلك وصار يبيع الخبط .

                                                                                                                قوله ( لا تكتب حديث عبيدة بن معتب والسري بن إسماعيل ، ومحمد بن سالم ) هؤلاء الثلاثة مشهورون بالضعف والترك فعبيدة بضم العين هذا هو الصحيح المشهور في كتب المؤتلف والمختلف ، وغيرهما . وحكى صاحب المطالع عن بعض رواة البخاري أنه ضبطه بضم العين وفتحها . و ( معتب ) بضم الميم وفتح المهملة وكسر المثناة فوق بعدها موحدة . و ( عبيدة ) هذا صبي كوفي كنيته أبو عبد الكريم وأما ( السري ) فهمداني بإسكان الميم - كوفي ، وأما ( محمد بن سالم ) كوفي أيضا ; فاستوى الثلاثة في كونهم : كوفيين متروكين والله أعلم ،

                                                                                                                قال - رحمه الله - في الأحاديث الضعيفة : ( ولعلها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها ) هكذا هو في الأصول المحققة من رواية الفراوي عن الفارسي عن الجلودي ، وذكر القاضي عياض أنه هكذا هو في رواية الفارسي عن ، وأنها الصواب ، وأنه وقع في روايات شيوخهم عن العذري عن الرازي عن الجلودي ( وأقلها أو أكثرها ) قال القاضي : وهذا مختل مصحف ، وهذا الذي قاله القاضي فيه نظر . ولا ينبغي أن يحكم بكونه تصحيفا فإن لهذه الرواية وجها في الجملة لمن تدبرها .

                                                                                                                قوله : ( وأهل القناعة ) هي بفتح القاف أي الذين يقنع بحديثهم ، لكمال حفظهم وإتقانهم وعدالتهم .

                                                                                                                قوله : ( ولا مقنع ) هو بفتح الميم والنون .

                                                                                                                [ ص: 107 ] ( الجرح وشروطه )

                                                                                                                فرع في جملة المسائل والقواعد التي تتعلق بهذا الباب

                                                                                                                إحداها : اعلم أن جرح الرواة جائز ; بل واجب بالاتفاق للضرورة الداعية إليه لصيانة الشريعة المكرمة ، وليس هو من الغيبة المحرمة ; بل من النصيحة لله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ، ولم يزل فضلاء الأئمة وأخيارهم ، وأهل الورع منهم يفعلون ذلك ، كما ذكر مسلم في هذا الباب عن جماعات منهم ما ذكره ، وقد ذكرت أنا قطعة صالحة من كلامهم فيه في أول شرح صحيح البخاري - رحمه الله - ثم على الجارح تقوى الله تعالى في ذلك ، والتثبت فيه ، والحذر من التساهل بجرح سليم من الجرح ، أو بنقص من لم يظهر نقصه ; فإن مفسدة الجرح عظيمة ; فإنها غيبة مؤبدة مبطلة لأحاديثه ، مسقطة لسنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورادة لحكم من أحكام الدين . ثم إنما يجوز الجرح لعارف به ، مقبول القول فيه ، أما إذا لم يكن الجارح من أهل المعرفة ، أو لم يكن ممن يقبل قوله فيه ; فلا يجوز له الكلام في أحد ; فإن تكلم كان كلامه غيبة محرمة ، كذا ذكره القاضي عياض رحمه الله وهو ظاهر . قال : وهذا كالشاهد يجوز جرحه لأهل الجرح ، ولو عابه قائل بما جرح به أدب وكان غيبة .

                                                                                                                الثانية : الجرح لا يقبل إلا من عدل عارف بأسبابه ، وهل يشترط في الجارح والمعدل العدد ؟ فيه خلاف للعلماء ، والصحيح أنه ; لا يشترط بل يصير مجروحا أو عدلا بقول واحد ; لأنه من باب الخبر ; فيقبل فيه الواحد . وهل يشترط ذكر سبب الجرح أم لا ؟ اختلفوا فيه ; فذهب الشافعي وكثيرون إلى اشتراطه لكونه قد يعده مجروحا بما لا يجرح لخفاء الأسباب ولاختلاف العلماء فيها . وذهب القاضي أبو بكر بن الباقلاني في آخرين إلى أنه لا يشترط . وذهب آخرون إلى أنه لا يشترط من العارف بأسبابه ، ويشترط من غيره . وعلى مذهب من اشترط في الجرح التفسير يقول : فائدة الجرح فيمن جرح مطلقا أن يتوقف عن الاحتجاج به إلى أن يبحث عن ذلك الجرح . ثم من وجد في الصحيحين ممن جرحه بعض المتقدمين يحمل ذلك على أنه لم يثبت جرحه مفسرا بما يجرح ، ولو تعارض جرح وتعديل ، قدم الجرح ، على المختار الذي قاله المحققون والجماهير ، ولا فرق بين أن يكون عدد المعدلين أكثر أو أقل وقيل : إذا كان المعدلون أكثر قدم التعديل ، والصحيح الأول لأن الجارح اطلع على أمر خفي جهله المعدل .

                                                                                                                الثالثة : قد ذكر مسلم - رحمه الله - في هذا الباب : أن الشعبي روى عن الحارث الأعور وشهد أنه كاذب . وعن غيره : حدثني فلان وكان متهما ، وعن غيره الرواية عن المغفلين والضعفاء والمتروكين . فقد يقال لم حدث هؤلاء الأئمة عن هؤلاء مع علمهم بأنهم لا يحتج بهم ؟ ويجاب عنه بأجوبة :

                                                                                                                أحدها : أنهم رووها ليعرفوها ، وليبينوا ضعفها ; لئلا يلتبس في وقت عليهم ، أو على غيرهم ، أو يتشككوا في صحتها .

                                                                                                                الثاني : أن الضعيف يكتب حديثه ليعتبر به أو يستشهد كما قدمناه في فصل المتابعات ، ولا يحتج به على انفراده .

                                                                                                                الثالث : أن روايات الراوي الضعيف يكون فيها الصحيح والضعيف والباطل ; فيكتبونها ثم يميز أهل الحديث والإتقان بعض ذلك من بعض ، وذلك سهل عليهم معروف عندهم . وبهذا احتج سفيان الثوري رحمه الله حين نهى عن الرواية عن الكلبي ، فقيل له : أنت تروي عنه فقال : أنا أعلم صدقه من كذبه .

                                                                                                                الرابع : أنهم قد يروون عنهم أحاديث [ ص: 108 ] الترغيب والترهيب ، وفضائل الأعمال ، والقصص ، وأحاديث الزهد ، ومكارم الأخلاق ، ونحو ذلك مما لا يتعلق بالحلال والحرام وسائر الأحكام ، وهذا الضرب من الحديث يجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل فيه .

                                                                                                                ورواية ما سوى الموضوع منه والعمل به ، لأن أصول ذلك صحيحة مقررة في الشرع معروفة عند أهله . وعلى كل حال فإن الأئمة لا يروون عن الضعفاء شيئا يحتجون به على انفراده في الأحكام ، فإن هذا شيء لا يفعله إمام من أئمة المحدثين ، ولا محقق من غيرهم من العلماء : وأما فعل كثيرين من الفقهاء أو أكثرهم ذلك ، واعتمادهم عليه ، فليس بصواب ، بل قبيح جدا ، وذلك لأنه إن كان يعرف ضعفه لم يحل له أن يحتج به . فإنهم متفقون على أنه لا يحتج بالضعيف في الأحكام ، وإن كان لا يعرف ضعفه ، لم يحل له أن يهجم على الاحتجاج به من غير بحث عليه بالتفتيش عنه إن كان عارفا ، أو بسؤال أهل العلم به إن لم يكن عارفا . والله أعلم .

                                                                                                                المسألة الرابعة : في بيان أصناف الكاذبين في الحديث وحكمهم وقد نقحها القاضي عياض - رحمه الله - فقال : الكاذبون ضربان :

                                                                                                                أحدهما : ضرب عرفوا بالكذب في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم أنواع : منهم : من يضع عليه ما لم يقله أصلا ، إما ترافعا واستخفافا كالزنادقة وأشباههم ممن لم يرج للدين وقارا . وإما حسبة بزعمهم وتدينا كجهلة المتعبدين الذين وضعوا الأحاديث في الفضائل والرغائب ، وإما إغرابا وسمعة كفسقة المحدثين ، وإما تعصبا واحتجاجا كدعاة المبتدعة ومتعصبي المذاهب ، وإما اتباعا لهوى أهل الدنيا فيما أرادوه وطلب العذر فيما أتوه . وقد تعين جماعة من كل طبقة من هذه الطبقات عند أهل الصنعة وعلم الرجال ، ومنهم من لا يضع متن الحديث ، ولكن ربما وضع للمتن الضعيف إسنادا صحيحا مشهورا . ومنهم من يقلب الأسانيد أو يزيد فيها ، ويتعمد ذلك إما للإغراب على غيره ، وإما لرفع الجهالة عن نفسه . ومنهم من يكذب فيدعي سماع ما لم يسمع ، ولقاء من لم يلق ، ويحدث بأحاديثهم الصحيحة عنهم . ومنهم من يعمد إلى كلام الصحابة وغيرهم وحكم العرب والحكماء فينسبها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . وهؤلاء كلهم كذابون متروكو الحديث وكذلك من تجاسر بالحديث بما لم يحققه ولم يضبطه أو هو شاك فيه ، فلا يحدث عن هؤلاء ، ولا يقبل ما حدثوا به . ولو لم يقع منهم ما جاءوا به إلا مرة واحدة ; كشاهد الزور إذا تعمد ذلك سقطت شهادته . واختلف هل تقبل روايته في المستقبل إذا ظهرت توبته ؟ قلت : المختار الأظهر قبول توبته كغيره من أنواع الفسق . وحجة من ردها أبدا وإن حسنت توبته التغليظ ، وتعظيم العقوبة في هذا الكذب ، والمبالغة في الزجر عنه ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : إن كذبا علي ليس ككذب على أحد .

                                                                                                                قال القاضي :

                                                                                                                والضرب الثاني : من لا يستجيز شيئا من هذا كله في الحديث ، ولكنه يكذب في حديث الناس ، قد عرف بذلك ، فهذا أيضا لا تقبل روايته ولا شهادته ، وتنفعه التوبة ، ويرجع إلى القبول .

                                                                                                                فأما من يندر منه القليل من الكذب ، ولم يعرف به ، فلا يقطع بجرحه بمثله لاحتمال الغلط عليه والوهم ، وإن اعترف بتعمد ذلك المرة الواحدة ، ما لم يضر به مسلما ، فلا يجرح بهذا ، وإن كانت معصية لندورها ، ولأنها لا تلحق بالكبائر الموبقات ، ولأن أكثر الناس قلما يسلمون من مواقعات بعض الهنات . وكذلك لا يسقطها كذبه فيما هو من باب التعريض ، أو الغلو في القول ; إذ ليس بكذب في الحقيقة ، وإن كان في صورة الكذب ، لأنه لا يدخل تحت حد [ ص: 109 ] الكذب ، ولا يريد المتكلم به الإخبار عن ظاهر لفظه . وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " أما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه " وقد قال إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - : هذه أختي . هذا آخر كلام القاضي رحمه الله وقد أتقن هذا الفصل رحمه الله ورضي عنه والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( لو ضربنا عن حكايته ) كذا هو في الأصول ضربنا وهو صحيح وإن كانت لغة قليلة قال الأزهري : يقال ضربت عن الأمر ، وأضربت عنه ، بمعنى كففت ، وأعرضت . والمشهور الذي قاله الأكثرون وأضربت بالألف .

                                                                                                                وقوله : ( لكان رأيا متينا ) أي قويا .

                                                                                                                وقوله : ( وإخمال ذكر قائله ) أي : إسقاطه . والخامل الساقط وهو بالخاء المعجمة .

                                                                                                                وقوله : ( أجدى على الأنام ) هو بالجيم والأنام بالنون ومعناه أنفع للناس . هذا هو الصواب والصحيح . ووقع في كثير من الأصول أجدى عن الآثام بالثاء المثلثة ، وهذا وإن كان له وجه ; فالوجه هو الأول . ويقال في الأنام أيضا حكاه الزبيدي والواحدي وغيرهما .

                                                                                                                قوله : ( وسوء رويته ) بفتح الراء وكسر الواو وتشديد الياء ، أي : فكره .

                                                                                                                [ ص: 111 ] قوله : ( حتى يكون عنده العلم بأنهما قد اجتمعا ) هكذا ضبطناه وكذا هو في الأصول الصحيحة المعتمدة ( حتى ) بالتاء المثناة من فوق ثم المثناة من تحت . ووقع في بعض النسخ ( حين ) بالياء ثم بالنون وهو تصحيف .



                                                                                                                قال مسلم - رحمه الله : ( فيقال لمخترع هذا القول : قد أعطيت في جملة قولك أن خبر الواحد الثقة حجة يلزم به العمل ) هذا الذي قاله مسلم رحمه الله تنبيه على القاعدة العظيمة التي ينبني عليها معظم أحكام الشرع ، وهو وجوب العمل بخبر الواحد ; فينبغي الاهتمام بها والاعتناء بتحقيقها ، وقد أطنب العلماء - رحمهم الله - في الاحتجاج لها وإيضاحها ، وأفردها جماعة من السلف بالتصنيف ، واعتنى بها أئمة المحدثين وأصول الفقه ، وأول من بلغنا تصنيفه فيها الإمام الشافعي : رحمه الله ، وقد تقررت أدلتها النقلية والعقلية في كتب أصول الفقه ونذكر هنا طرفا في بيان خبر الواحد والمذاهب فيه مختصرا .

                                                                                                                قال العلماء : الخبر ضربان : متواتر وآحاد .

                                                                                                                فالمتواتر ، ما نقله عدد لا يمكن مواطأتهم على الكذب عن مثلهم ويستوي طرفاه والوسط ، ويخبرون عن حسي لا مظنون ويحصل العلم بقولهم . ثم المختار الذي عليه المحققون والأكثرون أن ذلك لا يضبط بعدد مخصوص ، ولا يشترط في المخبرين الإسلام ولا العدالة . وفيه مذاهب أخرى ضعيفة ، وتفريعات معروفة مستقصاة في كتب الأصول .

                                                                                                                وأما خبر الواحد : فهو ما لم يوجد فيه شروط المتواتر سواء كان الراوي له واحدا أو أكثر . واختلف في حكمه ; فالذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين ، فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول : أن خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع يلزم العمل بها ، ويفيد الظن ولا يفيد [ ص: 112 ] العلم ، وأن وجوب العمل به عرفناه بالشرع لا بالعقل . وذهبت القدرية والرافضة وبعض أهل الظاهر إلى أنه يجب العمل به ثم منهم من يقول : منع من العمل به دليل العقل . ومنهم من يقول : منع دليل الشرع . وذهبت طائفة إلى أنه يجب العمل به من جهة دليل العقل . وقال من المعتزلة : لا يجب العمل إلا بما رواه اثنان عن اثنين . وقال غيره . لا يجب العمل إلا بما رواه أربعة عن أربعة . وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنه يوجب العلم . وقال بعضهم يوجب العلم الظاهر دون الباطن . وذهب بعض المحدثين إلى أن الآحاد التي في صحيح البخاري أو صحيح مسلم تفيد العلم دون غيرها من الآحاد . وقد قدمنا هذا القول وإبطاله في الفصول وهذه الأقاويل كلها سوى قول الجمهور باطلة ، وإبطال من قال لا حجة فيه ظاهر ; فلم تزل كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وآحاد رسله يعمل بها ، ويلزمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - العمل بذلك ، واستمر على ذلك الخلفاء الراشدون فمن بعدهم . ولم تزل الخلفاء الراشدون وسائر الصحابة فمن بعدهم من السلف والخلف على امتثال خبر الواحد إذا أخبرهم بسنة ، وقضائهم به ، ورجوعهم إليه في القضاء والفتيا ، ونقضهم به ما حكموا به خلافه ، وطلبهم خبر الواحد عند عدم الحجة ممن هو عنده واحتجاجهم بذلك على من خالفهم ، وانقياد المخالف لذلك . وهذا كله معروف لا شك في شيء منه . والعقل لا يحيل العمل بخبر الواحد وقد جاء الشرع بوجوب العمل به ، فوجب المصير إليه .

                                                                                                                وأما من قال يوجب العلم : فهو مكابر للحسن . وكيف يحصل العلم واحتمال الغلط والوهم والكذب وغير ذلك ، متطرق إليه ؟ والله أعلم .

                                                                                                                قال مسلم - رحمه الله - حكاية عن مخالفه : ( والمرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة ) هذا الذي قاله هو المعروف من مذاهب المحدثين وهو قول الشافعي وجماعة من الفقهاء : وذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد وأكثر الفقهاء إلى جواز الاحتجاج بالمرسل . وقد قدمنا في الفصول السابقة بيان أحكام المرسل واضحة ، وبسطناها بسطا شافيا ، وإن كان لفظه مختصرا وجيزا . والله أعلم .

                                                                                                                قوله ( فإن عزب عني معرفة ذلك أوقفت الخبر ) يقال : عزب الشيء عني بفتح الزاي ويعزب بكسر الزاي وضمها لغتان فصيحتان قرئ بهما في السبع . والضم أشهر وأكثر . ومعناه : ذهب .

                                                                                                                وقوله : ( أوقفت الخبر ) كذا هو في الأصول أوقفت وهي لغة قليلة . والفصيح المشهور وقفت بغير ألف .

                                                                                                                ( باب صحة الاحتجاج بالحديث المعنعن إذا أمكن لقاء المعنعنين ولم يكن فيهم مدلس )

                                                                                                                حاصل هذا الباب أن مسلما - رحمه الله - ادعى إجماع العلماء قديما وحديثا على أن المعنعن ، وهو الذي فيه فلان عن فلان محمول على الاتصال والسماع إذا أمكن لقاء من أضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضا يعني مع براءتهم من التدليس . ونقل مسلم عن بعض أهل عصره أنه قال : لا تقوم الحجة بها ، ولا يحمل على الاتصال ، حتى يثبت أنهما التقيا في عمرهما مرة فأكثر ، ولا يكفي إمكان تلاقيهما . قال مسلم : وهذا قول ساقط مخترع مستحدث ، لم يسبق قائله إليه ، ولا مساعد له من أهل العلم عليه ، وإن القول به بدعة باطلة وأطنب مسلم - رحمه الله - في الشناعة على قائله ، واحتج مسلم - رحمه الله - بكلام مختصره : أن المعنعن عند أهل العلم محمول على الاتصال إذا ثبت التلاقي ، مع احتمال الإرسال ، وكذا إذا أمكن التلاقي . وهذا الذي صار إليه مسلم قد أنكره المحققون ، وقالوا : هذا الذي صار إليه ضعيف ، والذي رده هو المختار الذي عليه أئمة هذا الفن : علي بن المديني ، والبخاري وغيرهما . وقد زاد جماعة من المتأخرين على هذا ; فاشترط القابسي أن يكون قد أدركه إدراكا بينا ، وزاد أبو المظفر السمعاني الفقيه الشافعي ; فاشترط طول الصحبة بينهما ، وزاد أبو عمرو الداني المقري ; فاشترط معرفته بالرواية عنه . ودليل هذا المذهب المختار الذي ذهب إليه ابن المديني والبخاري وموافقوهما : أن المعنعن عند ثبوت التلاقي إنما حمل على الاتصال ; لأن الظاهر ، ممن ليس بمدلس ، أنه لا يطلق ذلك إلا على السماع ، ثم الاستقراء يدل عليه . فإن عادتهم أنهم لا يطلقون ذلك إلا فيما سمعوه ، إلا المدلس ، ولهذا رددنا رواية المدلس . فإذا ثبت التلاقي غلب على الظن الاتصال ، والباب مبني على غلبة الظن ؟ فاكتفينا به . وليس هذا المعنى موجودا فيما إذا أمكن التلاقي ولم يثبت ; فإنه لا يغلب على الظن الاتصال فلا يجوز الحمل على الاتصال ، ويصير كالمجهول ; فإن روايته مردودة لا للقطع بكذبه أو ضعفه بل للشك في حاله . والله أعلم .

                                                                                                                هذا حكم المعنعن من غير المدلس .

                                                                                                                وأما المدلس فتقدم بيان حكمه في الفصول السابقة . هذا كله تفريع على المذهب الصحيح المختار الذي ذهب إليه السلف والخلف من أصحاب الحديث والفقه والأصول : أن المعنعن محمول على الاتصال بشرطه الذي قدمناه على الاختلاف فيه . وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يحتج بالمعنعن مطلقا لاحتمال [ ص: 110 ] الانقطاع ، وهذا المذهب مردود بإجماع السلف ، ودليلهم ما أشرنا إليه من حصول غلبة الظن مع الاستقراء . والله أعلم . هذا حكم المعنعن .

                                                                                                                أما إذا قال : حدثني فلان : أن فلانا قال ، كقوله : حدثني الزهري : أن سعيد بن المسيب قال : كذا ، أو حدث بكذا ، أو نحوه : فالجمهور على أن لفظة أن كعن فيحمل على الاتصال بالشرط المتقدم . وقال أحمد بن حنبل ، ويعقوب بن شيبة ، وأبو بكر : لا تحمل أن على الاتصال . وإن كانت عن للاتصال . والصحيح الأول ، وكذا قال ، وحدث ، وذكر ، وشبهها ; فكله محمول على الاتصال والسماع .

                                                                                                                [ ص: 113 ] قوله : ( في ذكر هشام لما أحب أن يرويها مرسلا ) ضبطناه ( لما ) بفتح اللام وتشديد الميم ، ومرسلا بفتح السين ويجوز تخفيف ( لما ) وكسر سين مرسلا .

                                                                                                                قوله : ( وينشط أحيانا ) هو بفتح الياء والشين أي يخف في أوقات .

                                                                                                                قوله ( عن عائشة - رضي الله عنها - كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحله ولحرمه ) يقال : ( حرمه ) بضم الحاء وكسرها لغتان . ومعناه لإحرامه قال القاضي عياض - رحمه الله - : قيدناه عن شيوخنا بالوجهين ، قال : وبالضم قيده الخطابي وخطأ الخطابي أصحاب الحديث في كسره . وقيده ثابت بالكسر وحكي عن المحدثين الضم ، وخطأهم فيه ، وقال : صوابه الكسر ، كما قال لحله . وفي هذا الحديث استحباب التطيب عند الإحرام . وقد اختلف فيه السلف والخلف ومذهب الشافعي وكثيرين استحبابه . ومذهب مالك في آخرين كراهيته ، وسيأتي بسط المسألة في كتاب الحج إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                [ ص: 114 ] قوله في الرواية الأخرى : ( عن عائشة رضي الله عنها كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله وأنا حائض ) فيه جمل من العلم ، منها أن أعضاء الحائض طاهرة ، وهذا مجمع عليه . ولا يصح ما حكي عن أبي يوسف من نجاسة يدها ، وفيه جواز ترجيل المعتكف شعره ، ونظره إلى امرأته ، ولمسها شيئا منه بغير شهوة منه . واستدل به أصحابنا وغيرهم على أن الحائض لا تدخل المسجد ، وأن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد . ولا يظهر فيه دلالة لواحد منهما فإنه لا شك في كون هذا هو المحبوب وليس في الحديث أكثر من هذا .

                                                                                                                فأما الاشتراط والتحريم في حقها : فليس فيه ، لكن لذلك دلائل أخر مقررة في كتب الفقه . واحتج القاضي عياض - رحمه الله - به على أن قليل الملامسة لا تنقض الوضوء ورد به على الشافعي . وهذا الاستدلال منه عجب وأي دلالة فيه لهذا وأين في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمس بشرة عائشة - رضي الله عنها - وكان على طهارة ، ثم صلى بها ؟ فقد لا يكون متوضئا . ولو كان فما فيه أنه : ما جدد طهارة ، ولأن الملموس لا ينتقض وضوءه على أحد قولي الشافعي ، ولأن لمس الشعر لا ينقض عند الشافعي ، كذا نص في كتبه وليس في الحديث أكثر من مسها الشعر . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( وروى الزهري ، وصالح بن أبي حسان ) هكذا هو في الأصول ببلادنا ، وكذا ذكره القاضي عياض عن معظم الأصول ببلادهم . وذكر أبو علي الغساني أنه وجد في نسخة الرازي أحد رواتهم صالح بن كيسان . قال أبو علي : وهو وهم ، والصواب صالح بن أبي حسان . وقد ذكر هذا الحديث النسائي ، وغيره من طريق ابن وهب عن ابن أبي ذئب عن صالح بن أبي حسان عن أبي سلمة . قلت : قال الترمذي عن البخاري : صالح بن أبي حسان ثقة . وكذا وثقه غيره - وإنما ذكرت هذا لأنه ربما اشتبه بصالح بن حسان أبي الحرث البصري المديني ويقال : الأنصاري ، وهو في طبقة صالح ابن أبي حسان هذا ; فإنهما يرويان جميعا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، ويروي عنهما جميعا ابن أبي ذئب . ولكن صالح بن حسان متفق على ضعفه ، وأقوالهم في ضعفه مشهورة ، وقال الخطيب البغدادي في الكفاية : أجمع نقاد الحديث على ترك الاحتجاج بصالح بن حسان هذا لسوء حفظه وقلة ضبطه . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( فقال يحيى بن أبي كثير في هذا الخبر في القبلة : أخبرني أبو سلمة أن عمر بن عبد العزيز [ ص: 115 ] أخبره أن عروة أخبره أن عائشة - رضي الله عنها - أخبرته ) هذه الرواية اجتمع فيها أربعة من التابعين يروي بعضهم عن بعض : أولهم يحيى بن كثير وهذا من أطرف الطرف .

                                                                                                                وأغرب لطائف الإسناد . ولهذا نظائر قليلة في الكتاب وغيره سيمر بك إن شاء الله تعالى ما تيسر منها . وقد جمعت جملة منها في أول شرح صحيح البخاري رحمه الله ، وقد تقدم التنبيه على هذا . وفي هذا الإسناد لطيفة أخرى : وهو أنه من رواية الأكابر عن الأصاغر ; فإن أبا سلمة من كبار التابعين ، وعمر بن عبد العزيز من أصاغرهم سنا وطبقة ; وإن كان من كبارهم علما وقدرا ودينا وورعا وزهدا وغير ذلك . واسم أبي سلمة هذا عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف هذا هو المشهور . وقيل : اسمه إسماعيل . وقال عمرو بن علي : لا يعرف اسمه . وقال أحمد بن حنبل : كنيته هي اسمه . حكى هذه الأقوال فيه الحافظ أبو محمد عبد الغني المقدسي - رحمه الله - .

                                                                                                                وأبو سلمة هذا من أجل التابعين ، ومن أفقههم . وهو أحد الفقهاء السبعة على أحد الأقوال فيهم .

                                                                                                                وأما ( يحيى بن أبي كثير ) فتابعي صغير ، كنيته أبو نصر ، رأى أنس بن مالك ، وسمع السائب بن يزيد ، وكان جليل القدر . واسم أبي كثير صالح ، وقيل : سيار وقيل : نشيط ، وقيل : دينار .

                                                                                                                قوله : ( لزمه ترك الاحتجاج في قياد قوله ) هو بقاف مكسورة ثم ياء مثناة من تحت أي مقتضاه .

                                                                                                                قوله : ( إذا كان ممن عرف بالتدليس ) قد قدمنا بيان التدليس في الفصول السابقة فلا حاجة إلى إعادته .

                                                                                                                قوله : ( فما ابتغي ذلك من غير مدلس ) هكذا وقع في أكثر الأصول ( فما ابتغي ) بضم التاء وكسر الغين على ما لم يسم فاعله . وفي بعضها : ( ابتغى ) بفتح التاء والغين وفي بعض الأصول المحققة : ( فمن ابتغى ) ولكل واحد وجه .

                                                                                                                [ ص: 116 ] قوله : ( فمن ذلك أن عبد الله بن يزيد الأنصاري وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد روى عن حذيفة وعن أبي مسعود الأنصاري وعن كل واحد منهما حديثا يسنده ) أما حديثه عن أبي مسعود : فهو حديث نفقة الرجل على أهله ، وقد خرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما .

                                                                                                                وأما حديثه عن حذيفة : فقوله : أخبرني النبي - صلى الله عليه وسلم - بما هو كائن الحديث أخرجه مسلم .

                                                                                                                وأما ( أبو مسعود ) فاسمه عقبة بن عمرو الأنصاري المعروف بالبدري ، قال الجمهور : سكن بدرا ولم يشهدها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقال الزهري ، والحكم ، ومحمد بن إسحاق التابعيون ، والبخاري : شهدها .

                                                                                                                وأما قوله : ( وعن كل واحد ) فكذا هو في الأصول ( وعن ) بالواو والوجه حذفها فإنها تغير المعنى .

                                                                                                                قوله : ( وهي في زعم من حكينا قوله واهية ) هو بفتح الزاي وضمها وكسرها ثلاث لغات مشهورة . ولو قال : ضعيفة بدل واهية لكان أحسن ; فإن هذا القائل لا يدعي أنها واهية شديدة الضعف متناهية فيه ، كما هو معنى واهية ، بل يقتصر على أنها ضعيفة لا تقوم بها الحجة .

                                                                                                                [ ص: 117 ] قوله : ( وهذا أبو عثمان النهدي ، وأبو رافع الصائغ ، وهما ممن أدرك الجاهلية وصحبا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البدريين هلم جرا ، ونقلا عنهما الأخبار ، حتى نزلا إلى مثل أبي هريرة وابن عمر وذويهما ، قد أسند كل واحد منهما عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا ) أما ( أبو عثمان النهدي ) فاسمه عبد الرحمن بن مل وتقدم بيانه .

                                                                                                                وأما ( أبو رافع ) : فاسمه نفيع المدني ، قال ثابت : لما أعتق أبو رافع بكى ، فقيل له : ما يبكيك ، فقال : كان لي أجران فذهب أحدهما .

                                                                                                                وأما قوله : ( أدرك الجاهلية ) فمعناه : كانا رجلين قبل بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والجاهلية ما قبل بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، سموا بذلك لكثرة جهالاتهم .

                                                                                                                وقوله : ( من البدريين هلم جرا ) قال القاضي عياض : ليس هذا موضع استعمال ( هلم جرا ) لأنها إنما تستعمل فيما اتصل إلى زمان المتكلم بها ، وإنما أراد مسلم فمن بعدهم من الصحابة .

                                                                                                                وقوله : ( جرا ) منون قال صاحب المطالع : قال ابن الأنباري : معنى هلم جرا سيروا وتمهلوا في سيركم وتثبتوا ، وهو من الجر ، وهو ترك النعم في سيرها ، فيستعمل فيما دووم عليه من الأعمال . قال ابن الأنباري : فانتصب ( جرا ) على المصدر ، أي : جروا جرا ، أو على الحال أو على التمييز .

                                                                                                                وقوله : ( وذويهما ) فيه إضافة ذي إلى غير الأجناس والمعروف عند أهل العربية أنها لا تستعمل إلا مضافة إلى الأجناس كذي مال .

                                                                                                                وقد جاء في الحديث وغيره من كلام العرب إضافة أحرف منها إلى المفردات كما في الحديث " وتصل ذا رحمك " وكقولهم : ذو يزن ، وذو نواس ، وأشباهها . قالوا : هذا كله مقدر فيه الانفصال ; فتقدير ذي رحمك : الذي له معك رحم .

                                                                                                                وأما حديث أبي عثمان عن أبي فقوله : كان رجل لا أعلم أحدا أبعد بيتا من المسجد منه الحديث . وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أعطاك الله ما احتسبت " خرجه مسلم .

                                                                                                                وأما حديث أبي رافع عنه فهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف في العشر الأخر فسافر عاما فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين يوما ، رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه في سننهم ، ورواه جماعات من أصحاب المسانيد .

                                                                                                                قوله : ( وأسند أبو عمرو الشيباني وأبو معمر عبد الله بن سخبرة كل واحد منهما عن أبي مسعود الأنصاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خبرين )

                                                                                                                أما ( أبو عمرو الشيباني ) : فاسمه سعد بن إياس تقدم ذكره .

                                                                                                                وأما ( سخبرة ) : فبسين مهملة مفتوحة ثم خاء معجمة ساكنة ثم موحدة مفتوحة .

                                                                                                                وأما الحديثان اللذان رواهما الشيباني : فأحدهما حديث جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إنه أبدع بي والآخر جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بناقة مخطومة فقال : " لك بها يوم القيامة سبعمائة " أخرجهما مسلم ، وأسند أبو عمرو الشيباني أيضا عن أبي مسعود حديث " المستشار مؤتمن " رواه ابن ماجه ، وعبد بن حميد في مسنده .

                                                                                                                وأما حديثا [ ص: 118 ] أبي معمر فأحدهما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح مناكبنا في الصلاة أخرجه مسلم . والآخر " لا تجزي صلاة لا يقيم الرجل صلبه فيها في الركوع " رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه وغيرهم من أصحاب السنن والمسانيد . قال الترمذي : هو حديث حسن صحيح . والله أعلم .

                                                                                                                قال مسلم - رحمه الله - : ( وأسند عبيد بن عمير عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا ) هو قولها لما مات أبو سلمة قلت : غريب وفي أرض غربة بكاء يتحدث عنه أخرجه مسلم . واسم أم سلمة هند بنت أبي أمية ، واسمه حذيفة ، وقيل : سهيل بن المغيرة المخزومية ، تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة ثلاث ، وقيل : اسمها رملة ، وليس بشيء .

                                                                                                                قوله : ( وأسند قيس بن أبي حازم عن أبي مسعود ثلاثة أخبار ) هي حديث " إن الإيمان هاهنا ، وإن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين " وحديث " إن الشمس والقمر لا يكسفان لموت أحد " وحديث لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان . أخرجها كلها البخاري ومسلم في صحيحيهما ، واسم أبي حازم عبد عوف ، وقيل : عوف بن عبد الحارث البجلي صحابي .

                                                                                                                قوله : ( وأسند عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا ) هو قوله أمر أبو طلحة أم سليم اصنعي طعاما للنبي - صلى الله عليه وسلم - أخرجه مسلم وقد تقدم اسم أبي ليلى ، وبيان الاختلاف فيه وبيان ابنه وابن ابنه .

                                                                                                                قوله : ( وأسند ربعي بن حراش عن عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثين وعن أبي بكرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا ) أما حديثاه عن عمران ; فأحدهما : في إسلام حصين والد عمران وفيه قوله كان عبد المطلب خيرا لقومك منك رواه عبد بن حميد في مسنده والنسائي في كتابه عمل اليوم والليلة بإسناديهما الصحيحين . والحديث الآخر " لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله " رواه النسائي في سننه .

                                                                                                                وأما حديثه عن أبي بكرة فهو " إذا المسلمان حمل أحدهما على أخيه السلاح فهما على جرف جهنم " أخرجه مسلم وأشار إليه البخاري واسم أبي بكرة : نفيع بن الحارث بن كلدة بفتح الكاف واللام الثقفي . كني بأبي بكرة لأنه تدلى من حصن الطائف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببكرة . وكان أبو بكرة ممن اعتزل يوم الجمل فلم يقاتل مع أحد من الفريقين .

                                                                                                                وأما ( ربعي ) بكسر الراء ( وحراش ) بالحاء المهملة فتقدم بيانهما .

                                                                                                                [ ص: 119 ] قوله : ( وأسند نافع بن جبير بن مطعم عن أبي شريح الخزاعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا ) أما حديثه فهو حديث " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره " أخرجه مسلم في كتاب الإيمان هكذا من رواية نافع بن جبير ، وقد أخرجه البخاري ومسلم أيضا من رواية سعيد بن أبي سعيد المقبري .

                                                                                                                وأما ( أبو شريح ) فاسمه : خويلد بن عمرو ، وقيل : عبد الرحمن وقيل : عمرو بن خويلد ، وقيل : هانئ بن عمرو ، وقيل : كعب . ويقال فيه : أبو شريح الخزاعي والعدوي والكعبي .

                                                                                                                قوله : ( وأسند النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ثلاثة أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أما الحديث الأول : فمن صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه من النار سبعين خريفا

                                                                                                                والثاني إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها أخرجهما معا البخاري ومسلم .

                                                                                                                والثالث : إن أدنى أهل الجنة منزلة من صرف الله وجهه الحديث أخرجه مسلم .

                                                                                                                وأما ( أبو سعيد الخدري ) فاسمه سعد بن مالك بن سنان ، منسوب إلى خدرة بن عوف بن الحرث بن الخزرج . توفي أبو سعيد بالمدينة سنة أربع وستين ، وقيل : سنة أربع وسبعين ، وهو ابن أربع وسبعين .

                                                                                                                وأما ( أبو عياش ) والد النعمان : فبالشين المعجمة . واسمه زيد بن الصامت ، وقيل : زيد بن النعمان ، وقيل : عبيد بن معاوية بن الصامت ، وقيل : عبد الرحمن .

                                                                                                                قوله : ( وأسند عطاء بن يزيد الليثي عن تميم الداري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا ) هو حديث " الدين النصيحة " . وأما تميم الداري فكذا هو في مسلم ، واختلف فيه رواة الموطأ ففي رواية يحيى وابن بكير وغيرهما ( الديري ) بالياء ، وفي رواية القعنبي وابن القاسم وأكثرهم ( الداري ) بالألف ، واختلف العلماء في أنه إلى ما نسب ; فقال الجمهور : إلى جد من أجداده ، وهو الدار بن هانئ فإنه تميم بن أوس ابن خارجة بن سور بضم السين بن جذيمة بفتح الجيم وكسر الذال المعجمة بن ذراع بن عدي بن الدار بن هانئ بن حبيب بن نمارة بن لخم وهو مالك بن عدي .

                                                                                                                وأما من قال : الديري فهو نسبة إلى دير كان تميم فيه قبل الإسلام وكان نصرانيا ، هكذا رواه أبو الحسن الرازي في كتابه مناقب الشافعي بإسناده الصحيح عن الشافعي أنه قال في النسبتين : ما ذكرناه . وعلى هذا أكثر العلماء . ومنهم من قال الداري بالألف إلى دارين وهو مكان عند البحرين وهو محط السفن ، كان يجلب إليه العطر من الهند ، ولذلك قيل للعطار داري . ومنهم من جعله بالياء نسبة إلى قبيلة أيضا . وهو بعيد شاذ . حكاه والذي قبله صاحب المطالع ، قال وصوب بعضهم الديري قلت : وكلاهما صواب ، فنسب إلى القبيلة بالألف وإلى الدير بالياء ; لاجتماع الوصفين فيه . قال صاحب المطالع : وليس في الصحيحين والموطأ داري ولا ديري ديري إلا تميم . وكنية تميم أبو رقية ، أسلم [ ص: 120 ] سنة تسع وكان بالمدينة ، ثم انتقل إلى الشام فنزل ببيت المقدس ، وقد روى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - قصة الجساسة ، وهذه منقبة شريفة لتميم ، ويدخل في رواية الأكابر عن الأصاغر . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( وأسند سليمان بن يسار عن رافع بن خديج عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا ) هو حديث المحاقلة أخرجه مسلم .

                                                                                                                قوله : ( وأسند حميد بن عبد الرحمن الحميري عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث ) من هذه الأحاديث " أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم ، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل " أخرجه مسلم منفردا به عن البخاري قال أبو عبد الله الحميدي - رحمه الله - في آخر مسند أبي هريرة من الجمع بين الصحيحين : ليس لحميد بن عبد الرحمن الحميري عن أبي هريرة في الصحيح غير هذا الحديث قال : وليس له عند البخاري في صحيحه عن أبي هريرة شيء . وهذا الذي قاله الحميدي صحيح . وربما اشتبه حميد بن عبد الرحمن الحميري هذا بحميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري الراوي عن أبي هريرة أيضا . وقد رويا له في الصحيحين عن أبي هريرة أحاديث كثيرة ; فقد يقف من لا خبرة له على شيء منهما فينكر قول الحميدي توهما منه أن حميدا هذا هو ذاك وهو خطأ صريح ، وجهل قبيح ، وليس للحميري عن أبي هريرة أيضا في الكتب الثلاثة التي هي تمام أصول الإسلام الخمسة أعني : سنن أبي داود ، والترمذي ، والنسائي غير هذا الحديث .

                                                                                                                قوله : ( كلاما خلفا ) بإسكان اللام وهو الساقط الفاسد .

                                                                                                                قوله : ( وعليه التكلان ) هو بضم التاء وإسكان الكاف أي الاتكال . والله أعلم بالصواب . ولله الحمد والنعمة ، والفضل والمنة ، وبه التوفيق والعصمة .

                                                                                                                [ ص: 121 ] [ ( باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى )

                                                                                                                ( وبيان الدليل على التبري ممن لا يؤمن بالقدر وإغلاظ القول في حقه ) ]

                                                                                                                أهم ما يذكر في الباب اختلاف العلماء في الإيمان والإسلام ، وعمومهما ، وخصوصهما ، وأن الإيمان يزيد وينقص أم لا ؟ وأن الأعمال من الإيمان أم لا ؟ وقد أكثر العلماء رحمهم الله تعالى من المتقدمين والمتأخرين القول في كل ما ذكرناه .

                                                                                                                وأنا أقتصر على نقل أطراف من متفرقات كلامهم يحصل منها مقصود ما ذكرته مع زيادات كثيرة .

                                                                                                                قال الإمام أبو سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي الفقيه الأديب الشافعي المحقق - رحمه الله - في كتابه معالم السنن : ما أكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة .

                                                                                                                فأما الزهري فقال : الإسلام الكلمة ، والإيمان العمل ، واحتج بالآية يعني قوله سبحانه وتعالى : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وذهب غيره إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد . واحتج بقوله تعالى : فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين قال الخطابي : وقد تكلم في هذا الباب رجلان من كبراء أهل العلم ، وصار كل واحد منهما إلى قول من هذين . ورد الآخر منهما على المتقدم ، وصنف عليه كتابا يبلغ عدد أوراقه المئين .

                                                                                                                قال الخطابي : والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا ، ولا يطلق ; وذلك أن المسلم قد يكون مؤمنا في بعض الأحوال ، ولا يكون مؤمنا في بعضها . والمؤمن مسلم في جميع [ ص: 122 ] الأحوال ; فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا . وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات ، واعتدل القول فيها ، ولم يختلف شيء منها .

                                                                                                                وأصل الإيمان : التصديق ، وأصل الإسلام : الاستسلام والانقياد ; فقد يكون المرء مستسلما في الظاهر ، غير منقاد في الباطن ، وقد يكون صادقا في الباطن غير منقاد في الظاهر . وقال الخطابي أيضا في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : الإيمان بضع وسبعون شعبة في هذا الحديث بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء له أدنى وأعلى ، والاسم يتعلق ببعضها ، كما يتعلق بكلها ، والحقيقة تقتضي جميع شعبه ، وتستوفي جملة أجزائه ; كالصلاة الشرعية لها شعب وأجزاء ، والاسم يتعلق ببعضها ، والحقيقة تقتضي جميع أجزائها وتستوفيها . ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - : الحياء شعبة من الإيمان . وفيه : إثبات التفاضل في الإيمان ، وتباين المؤمنين في درجاته . هذا آخر كلام الخطابي . وقال الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي الشافعي - رحمه الله - في حديث سؤال جبريل - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام وجوابه ، قال : جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الإسلام اسما لما ظهر من الأعمال ، وجعل الإيمان اسما لما بطن من الاعتقاد ; وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان ، والتصديق بالقلب ليس من الإسلام ; بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد ، وجماعها الدين ، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : ذاك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم والتصديق والعمل يتناولهما اسم الإيمان والإسلام جميعا ; يدل عليه قوله - سبحانه وتعالى - إن الدين عند الله الإسلام ورضيت لكم الإسلام دينا و ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه فأخبر سبحانه وتعالى أن الدين الذي رضيه ويقبله من عباده هو الإسلام ، ولا يكون الدين في محل القبول والرضا إلا بانضمام التصديق إلى العمل . هذا كلام البغوي .

                                                                                                                وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن محمد بن الفضل التميمي الأصبهاني الشافعي - رحمه الله - في كتابه التحرير في شرح صحيح مسلم : الإيمان في اللغة هو التصديق فإن عنى به ذلك فلا يزيد ولا ينقص ; لأن التصديق ليس شيئا يتجزأ حتى يتصور كماله مرة ونقصه أخرى . والإيمان في لسان الشرع هو التصديق بالقلب والعمل بالأركان . وإذا فسر بهذا تطرق إليه الزيادة والنقص . وهو مذهب أهل السنة ، قال : فالخلاف في هذا على التحقيق إنما هو أن المصدق بقلبه إذا لم يجمع إلى تصديقه العمل الإيمان هل يسمى مؤمنا مطلقا أم لا ؟ والمختار عندنا أنه لا يسمى به . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن لأنه لم يعمل بموجب الإيمان فيستحق هذا الإطلاق . هذا آخر كلام صاحب التحرير .

                                                                                                                وقال الإمام أبو الحسن علي بن خلف بن بطال المالكي المغربي في شرح صحيح البخاري : مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها : أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، والحجة على زيادته ونقصانه : ما أورده البخاري من الآيات ، يعني قوله عز وجل : ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ، وقوله تعالى : وزدناهم هدى ، وقوله تعالى : ويزيد الله الذين اهتدوا هدى وقوله [ ص: 123 ] تعالى : والذين اهتدوا زادهم وقوله تعالى : ويزداد الذين آمنوا إيمانا وقوله تعالى : أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وقوله تعالى : فاخشوهم فزادهم إيمانا وقوله تعالى : وما زادهم إلا إيمانا وتسليما قال ابن بطال : فإيمان من لم تحصل له الزيادة ناقص ، قال : فإن قيل : الإيمان في اللغة التصديق ، فالجواب : أن التصديق يكمل بالطاعات كلها ، فما ازداد المؤمن من أعمال البر كان إيمانه أكمل ، وبهذه الجملة يزيد الإيمان وبنقصانها ينقص ، فمتى نقصت أعمال البر نقص كمال الإيمان ، ومتى زادت زاد الإيمان كمالا . هذا توسط القول في الإيمان . وأما التصديق بالله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - : فلا ينقص ولذلك توقف مالك - رحمه الله - في بعض الروايات عن القول بالنقصان ; إذ لا يجوز نقصان التصديق ; لأنه إذا نقص صار شكا ، وخرج عن اسم الإيمان .

                                                                                                                وقال بعضهم : إنما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان خشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي من المؤمنين بالذنوب ، وقد قال مالك بنقصان الإيمان مثل قول جماعة أهل السنة . قال عبد الرزاق : سمعت من أدركت من شيوخنا وأصحابنا سفيان الثوري ومالك بن أنس ، وعبيد الله بن عمر ، والأوزاعي ، ومعمر بن راشد وابن جريج ، وسفيان بن عيينة ، يقولون : الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وهذا قول ابن مسعود وحذيفة والنخعي والحسن البصري ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، وعبد الله بن المبارك . فالمعنى الذي يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمنين هو إتيانه بهذه الأمور الثلاثة : التصديق بالقلب ، والإقرار باللسان ، والعمل بالجوارح ، وذلك أنه لا خلاف بين الجميع : أنه لو أقر وعمل على غير علم منه ومعرفة بربه ، لا يستحق اسم مؤمن . ولو عرفه ، وعمل ، وجحد بلسانه ، وكذب ما عرف من التوحيد ، لا يستحق اسم مؤمن ، وكذلك إذا أقر بالله تعالى وبرسله - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - ولم يعمل بالفرائض ، لا يسمى مؤمنا بالإطلاق وإن كان في كلام العرب يسمى مؤمنا بالتصديق فذلك غير مستحق في كلام الله تعالى ; لقوله عز وجل : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا فأخبرنا سبحانه وتعالى : أن المؤمن من كانت هذه صفته .

                                                                                                                وقال ابن بطال في باب من قال الإيمان هو العمل : فإن قيل : قد قدمتم أن الإيمان هو التصديق قيل : التصديق هو أول منازل الإيمان ، ويوجب للمصدق الدخول فيه ، ولا يوجب له استكمال منازله ، ولا يسمى مؤمنا مطلقا . هذا مذهب جماعة أهل السنة : أن الإيمان قول وعمل .

                                                                                                                قال أبو عبيد : وهو قول مالك والثوري والأوزاعي ومن بعدهم من أرباب العلم والسنة الذين كانوا مصابيح الهدى وأئمة الدين من أهل الحجاز والعراق والشام وغيرهم .

                                                                                                                قال ابن بطال : وهذا المعنى أراد البخاري - رحمه الله - إثباته في [ ص: 124 ] كتاب الإيمان وعليه بوب أبوابه كلها . فقال : باب أمور الإيمان ، وباب الصلاة من الإيمان ، وباب الزكاة من الإيمان ، وباب الجهاد من الإيمان ، وسائر أبوابه ، وإنما أراد الرد على المرجئة في قولهم : إن الإيمان قول بلا عمل وتبيين غلطهم ، وسوء اعتقادهم ومخالفتهم للكتاب والسنة ومذاهب الأئمة ثم قال ابن بطال في باب آخر : قال المهلب : الإسلام على الحقيقة هو الإيمان الذي هو عقد القلب المصدق لإقرار اللسان الذي لا ينفع عند الله تعالى غيره .

                                                                                                                وقالت الكرامية وبعض المرجئة : الإيمان هو الإقرار باللسان دون عقد القلب ، ومن أقوى ما يرد به عليهم إجماع الأمة على إكفار المنافقين وإن كانوا قد أظهروا الشهادتين ، قال الله تعالى : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله . . . إلى قوله تعالى : وتزهق أنفسهم وهم كافرون هذا آخر كلام ابن بطال .

                                                                                                                وقال الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح - رحمه الله - : قوله - صلى الله عليه وسلم - : الإسلام : أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ، والإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره قال : هذا بيان لأصل الإيمان ، وهو التصديق الباطن ، وبيان لأصل الإسلام وهو الاستسلام والانقياد الظاهر ، وحكم الإسلام في الظاهر ثبت بالشهادتين ، وإنما أضاف إليهما الصلاة والزكاة ، والحج ، والصوم ، لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها وبقيامه بها يتم استسلامه ، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده أو اختلاله ، ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام في هذا الحديث وسائر الطاعات لأنها ثمرات للتصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان ، ومقويات ومتممات وحافظات له ، ولهذا فسر - صلى الله عليه وسلم - الإيمان في حديث وفد عبد القيس بالشهادتين والصلاة والزكاة وصوم رمضان وإعطاء الخمس من المغنم . ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة ، أو بدل فريضة ، لأن اسم الشيء مطلقا يقع على الكامل منه ، ولا يستعمل في الناقص ظاهرا إلا بقيد ; ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن واسم الإسلام يتناول أيضا ما هو أصل الإيمان وهو التصديق الباطن ، ويتناول أصل الطاعات ; فإن ذلك كله استسلام . قال : فخرج مما ذكرناه وحققنا أن الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان ، وأن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا . قال : وهذا تحقيق وافر بالتوفيق بين متفرقات نصوص الكتاب والسنة الواردة في الإيمان والإسلام التي طالما غلط فيها الخائضون . وما حققناه من ذلك موافق لجماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم . هذا آخر كلام الشيخ أبي عمرو بن الصلاح ، فإذا تقرر ما ذكرناه من مذاهب السلف ، وأئمة الخلف ، فهي متظاهرة متطابقة على كون الإيمان يزيد وينقص . وهذا مذهب السلف والمحدثين وجماعة من المتكلمين .

                                                                                                                وأنكر أكثر المتكلمين زيادته ونقصانه ، وقالوا : متى قبل الزيادة كان شكا وكفرا قال المحققون من أصحابنا المتكلمين : نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص . والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته ، وهي الأعمال ونقصانها قالوا : وفي هذا توفيق بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة وأقاويل السلف ، وبين أصل وضعه في اللغة وما عليه المتكلمون ، وهذا الذي قاله هؤلاء وإن كان ظاهرا حسنا فالأظهر - والله أعلم - أن نفس [ ص: 125 ] التصديق يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريهم الشبه ، ولا يتزلزل إيمانهم بعارض ، بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيرة وإن اختلفت عليهم الأحوال . وأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم ونحوهم فليسوا كذلك فهذا مما لا يمكن إنكاره .

                                                                                                                ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لا يساويه تصديق آحاد الناس ; ولهذا قال البخاري في صحيحه : قال ابن أبي مليكة : أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه ، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل . والله أعلم .

                                                                                                                وأما إطلاق اسم الإيمان على الأعمال فمتفق عليه عند أهل الحق . ودلائله في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تشهر . قال الله تعالى : وما كان الله ليضيع إيمانكم أجمعوا على أن المراد صلاتكم .

                                                                                                                وأما الأحاديث فستمر بك في هذا الكتاب منها جمل مستكثرات والله أعلم .

                                                                                                                واتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على أن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة ولا يخلد في النار لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقادا جازما خاليا من الشكوك ، ونطق بالشهادتين ، فإن اقتصر على إحداهما لم يكن من أهل القبلة أصلا إلا إذا عجز عن النطق لخلل في لسانه أو لعدم التمكن منه لمعاجلة المنية أو لغير ذلك فإنه يكون مؤمنا . أما إذا أتى بالشهادتين فلا يشترط معهما أن يقول وأنا بريء من كل دين خالف الإسلام إلا إذا كان من الكفار الذين يعتقدون اختصاص رسالة نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلى العرب فإنه لا يحكم بإسلامه إلا بأن يتبرأ ، ومن أصحابنا أصحاب الشافعي رحمه الله من شرط أن يتبرأ مطلقا ، وليس بشيء : أما إذا اقتصر على قوله لا إله إلا الله ، ولم يقل : محمد رسول الله : فالمشهور من مذهبنا ومذاهب العلماء أنه لا يكون مسلما . ومن أصحابنا من قال : يكون مسلما ويطالب بالشهادة الأخرى ، فإن أبى جعل مرتدا . ويحتج لهذا القول بقوله - صلى الله عليه وسلم - : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم وهذا محمول عند الجماهير على قول الشهادتين ، واستغنى بذكر إحداهما عن الأخرى لارتباطهما وشهرتهما والله أعلم .

                                                                                                                أما إذا أقر بوجوب الصلاة أو الصوم أو غيرهما من أركان الإسلام وهو على خلاف ملته التي كان عليها فهل يجعل بذلك مسلما ؟ فيه وجهان لأصحابنا ، فمن جعله مسلما قال : كل ما يكفر المسلم بإنكاره يصير الكافر بالإقرار به مسلما . أما إذا أقر بالشهادتين بالعجمية وهو يحسن العربية فهل يجعل بذلك مسلما ؟ فيه وجهان لأصحابنا : الصحيح منهما أنه يصير مسلما لوجود الإقرار ، وهذا الوجه هو الحق ولا يظهر للآخر وجه وقد بينت ذلك مستقصى في شرح المهذب والله أعلم .

                                                                                                                واختلف العلماء من السلف وغيرهم في إطلاق الإنسان قوله : ( أنا مؤمن ) فقالت طائفة : لا يقول أنا مؤمن مقتصرا عليه بل يقول : أنا مؤمن إن شاء الله . وحكى هذا المذهب بعض أصحابنا عن أكثر أصحابنا المتكلمين ، وذهب آخرون إلى جواز الإطلاق وأنه لا يقول : ( إن شاء الله ) . وهذا هو المختار ، وقول [ ص: 126 ] أهل التحقيق . وذهب الأوزاعي وغيره إلى جواز الأمرين . والكل صحيح باعتبارات مختلفة فمن أطلق نظر إلى الحال وأحكام الإيمان جارية عليه في الحال ، ومن قال : إن شاء الله فقالوا فيه : هو إما للتبرك ، وإما لاعتبار العاقبة وما قدر الله تعالى ; فلا يدري أيثبت على الإيمان أم يصرف عنه ، والقول بالتخيير حسن صحيح نظرا إلى مأخذ القولين الأولين ورفعا لحقيقة الخلاف وأما الكافر ففيه خلاف غريب لأصحابنا ، منهم من قال : يقال : هو كافر ، ولا يقول إن شاء الله ، ومنهم من قال : هو في التقييد كالمسلم على ما تقدم فيقال على قول التقييد : هو كافر إن شاء الله نظرا إلى الخاتمة وأنها مجهولة ، وهذا القول اختاره بعض المحققين والله أعلم .

                                                                                                                واعلم أن مذهب أهل الحق : أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب ولا يكفر أهل الأهواء والبدع ، وأن من جحد ما يعلم من دين الإسلام ضرورة حكم بردته وكفره إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة ونحوه ممن يخفى عليه فيعرف ذلك ; فإن استمر حكم بكفره ، وكذا حكم من استحل الزنا أو الخمر أو القتل أو غير ذلك من المحرمات التي يعلم تحريمها ضرورة . فهذه جمل من المسائل المتعلقة بالإيمان قدمتها في صدر الكتاب تمهيدا لكونها مما يكثر الاحتياج إليه ولكثرة تكررها وتردادها في الأحاديث ، فقدمتها لأحيل عليها إذا مررت بما يخرج عليها والله أعلم بالصواب . وله الحمد والنعمة وبه التوفيق والعصمة .

                                                                                                                قال الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج رضي الله عنه : ( حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا وكيع عن كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر ح وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري وهذا حديثه ثنا أبي ثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر قال : كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني إلى آخر الحديث ) اعلم أن مسلما - رحمه الله - سلك في هذا الكتاب طريقة في الإتقان والاحتياط والتدقيق والتحقيق مع الاختصار البليغ والإيجاز التام في نهاية من الحسن مصرحة بغزارة علومه ودقة نظره وحذقه ، وذلك يظهر في الإسناد تارة وفي المتن تارة وفيهما تارة ، فينبغي للناظر في كتابه أن يتنبه لما ذكرته فإنه يجد عجائب من النفائس والدقائق تقر بآحاد أفرادها عينه ، وينشرح لها صدره ، وتنشطه للاشتغال بهذا العلم . واعلم أنه لا يعرف أحد شارك مسلما في هذه النفائس التي يشير إليها من دقائق علم الإسناد . وكتاب البخاري وإن كان أصح وأجل وأكثر فوائد في الأحكام والمعاني ، فكتاب مسلم يمتاز بزوائد من صنعة الإسناد ، وسترى مما أنبه عليه من ذلك ما ينشرح له صدرك ، ويزداد به الكتاب ومصنفه في قلبك جلالة إن شاء الله تعالى . فإذا تقرر ما قلته ففي هذه الأحرف التي ذكرها من الإسناد أنواع مما ذكرته ، فمن ذلك أنه قال أولا : حدثني أبو خيثمة ، ثم قال في الطريق الآخر : وحدثنا عبيد الله بن معاذ ، ففرق بين حدثني وحدثنا . وهذا تنبيه على القاعدة المعروفة عند أهل الصنعة وهي أنه يقول فيما سمعه وحده من لفظ الشيخ : حدثني ، وفيما سمعه مع [ ص: 127 ] غيره من لفظ الشيخ : حدثنا ، وفيما قرأه وحده على الشيخ : أخبرني ، وفيما قرئ بحضرته في جماعة على الشيخ : أخبرنا ، وهذا اصطلاح معروف عندهم ، وهو مستحب عندهم ، ولو تركه وأبدل حرفا من ذلك بآخر صح السماع ولكن ترك الأولى . والله أعلم .

                                                                                                                ومن ذلك أنه قال في الطريق الأول : ( حدثنا وكيع عن كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر ) ثم في الطريق الثاني أعاد الرواية ( عن كهمس عن ابن بريدة عن يحيى ) فقد يقال : هذا تطويل لا يليق بإتقان مسلم واختصاره ، فكان ينبغي أن يقف بالطريق الأول على وكيع ، ويجتمع معاذ ووكيع في الرواية عن كهمس عن ابن بريدة وهذا الاعتراض فاسد لا يصدر إلا من شديد الجهالة بهذا الفن . فإن مسلما رحمه الله يسلك الاختصار لكن بحيث لا يحصل خلل ، ولا يفوت به مقصود ، وهذا الموضع يحصل في الاختصار فيه خلل ، ويفوت به مقصود ; وذلك لأن وكيعا قال : عن كهمس ، ومعاذ قال : حدثنا كهمس . وقد علم بما قدمناه في باب المعنعن أن العلماء اختلفوا في الاحتجاج ولم يختلفوا في المتصل ، فأتى مسلم بالروايتين كما سمعتا ليعرف المتفق عليه من المختلف فيه وليكون راويا باللفظ الذي سمعه . ولهذا نظائر في مسلم ستراها مع التنبيه عليها إن شاء الله تعالى وإن كان مثل هذا ظاهرا لمن له أدنى اعتناء بهذا الفن إلا أني أنبه عليه لغيرهم ولبعضهم ممن قد يغفل ، ولكلهم من جهة أخرى وهو أنه يسقط عنهم النظر وتحرير عبارة عن المقصود . وهنا مقصود آخر وهو أن في رواية وكيع قال : عن عبد الله بن بريدة ، وفي رواية معاذ قال : عن ابن بريدة ، فلو أتى بأحد اللفظين حصل خلل فإنه إن قال : ابن بريدة لم ندر ما اسمه ، وهل هو عبد الله هذا ، أو أخوه سليمان بن بريدة ؟ وإن قال : عبد الله بن بريدة كان كاذبا على معاذ فإنه ليس في روايته عبد الله والله أعلم .

                                                                                                                وأما قوله في الرواية الأولى ( عن يحيى بن يعمر ) فلا يظهر لذكره أولا فائدة ، وعادة مسلم وغيره في مثل هذا أن لا يذكروا يحيى بن يعمر لأن الطريقين اجتمعتا في ابن بريدة ولفظهما عنه بصيغة واحدة إلا أني رأيت في بعض النسخ في الطريق الأولى عن يحيى فحسب ، وليس فيها ابن يعمر ، فإن صح هذا فهو مزيل للإنكار الذي ذكرناه ; فإنه يكون فيه فائدة كما قررناه في ابن بريدة والله أعلم . ومن ذلك قوله : ( وحدثنا عبيد الله بن معاذ وهذا حديثه ) ، فهذه عادة لمسلم - رحمه الله - قد أكثر منها وقد استعملها غيره قليلا وهي مصرحة بما ذكرته من تحقيقه وورعه واحتياطه ومقصوده أن الراويين اتفقا في المعنى واختلفا في بعض الألفاظ وهذا لفظ فلان والآخر بمعناه والله أعلم .

                                                                                                                وأما قوله ( ح ) بعد يحيى بن يعمر في الرواية الأولى فهي حاء التحويل من إسناد إلى إسناد فيقول القارئ إذا انتهى إليها : ح قال وحدثنا فلان هذا هو المختار ، وقد قدمت في الفصول السابقة بيانها والخلاف فيها والله أعلم . فهذا ما حضرني في الحال في التنبيه على دقائق هذا الإسناد وهو تنبيه على ما سواه ، وأرجو أن يتفطن به لما عداه ولا ينبغي للناظر في هذا الشرح أن يسأم من شيء من ذلك يجده مبسوطا واضحا فإني إنما أقصد بذلك إن شاء الله الكريم الإيضاح والتيسير والنصيحة لمطالعه وإعانته وإغناءه من مراجعة غيره في بيانه ، وهذا مقصود الشروح . فمن استطال شيئا من هذا وشبهه فهو [ ص: 128 ] بعيد من الإتقان ، مباعد للفلاح في هذا الشأن ، فليعز نفسه لسوء حاله ، وليرجع عما ارتكبه من قبيح فعاله . ولا ينبغي لطالب التحقيق والتنقيح والإتقان والتدقيق أن يلتفت إلى كراهة أو سآمة ذوي البطالة ، وأصحاب الغباوة والمهانة والملالة ، بل يفرح بما يجده من العلم مبسوطا ، وما يصادفه من القواعد والمشكلات واضحا مضبوطا ، ويحمد الله الكريم على تيسيره ، ويدعو لجامعه الساعي في تنقيحه وإيضاحه وتقريره . وفقنا الله الكريم لمعالي الأمور ، وجنبنا بفضله جميع أنواع الشرور ، وجمع بيننا وبين أحبابنا في دار الحبور والسرور . والله أعلم .

                                                                                                                وأما ضبط أسماء المذكورين في هذا الإسناد : فخيثمة بفتح المعجمة وإسكان المثناة تحت وبعدها مثلثة .

                                                                                                                وأما ( كهمس ) فبفتح الكاف وإسكان الهاء وفتح الميم وبالسين المهملة وهو كهمس بن الحسن أبو الحسن التميمي البصري .

                                                                                                                وأما ( يحيى بن يعمر ) فبفتح الميم ويقال : بضمها ، وهو غير مصروف لوزن الفعل . كنية يحيى بن يعمر أبو سليمان ، ويقال : أبو سعيد ، ويقال : أبو عدي البصري ثم المروزي قاضيها من بني عوف بن بكر بن أسد قال الحاكم أبو عبد الله في تاريخ نيسابور : يحيى بن يعمر ففيه أديب نحوي مبرز . أخذ النحو عن أبي الأسود نفاه الحجاج إلى خراسان فقبله قتيبة بن مسلم وولاه قضاء خراسان .

                                                                                                                وأما ( معبد الجهني ) فقال أبو سعيد عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني التميمي المروزي في كتابه الأنساب : الجهني بضم الجيم نسبة إلى جهينة قبيلة من قضاعة ، واسمه زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة . نزلت الكوفة وبها محلة تنسب إليهم ، وبقيتهم نزلت البصرة . قال : وممن نزل جهينة فنسب إليهم معبد بن خالد الجهني كان يجالس الحسن البصري ، وهو أول من تكلم في البصرة بالقدر ، فسلك أهل البصرة بعده مسلكه لما رأوا عمرو بن عبيد ينتحله . قتله الحجاج بن يوسف صبرا . وقيل : إنه معبد بن عبد الله بن عويمر هذا آخر كلام السمعاني وأما ( البصرة ) فبفتح الباء وضمها وكسرها ثلاث لغات حكاها الأزهري ، والمشهور الفتح ، ويقال لها البصيرة . بالتصغير . قال صاحب المطالع : ويقال لها : تدمر ، ويقال لها : المؤتفكة لأنها ائتفكت بأهلها في أول الدهر . والنسب إليها بصري بفتح الباء وكسرها وجهان مشهوران . قال السمعاني يقال البصرة قبة الإسلام ، وخزانة العرب ، بناها عتبة بن غزوان في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، بناها سنة سبع عشرة من الهجرة ، وسكنها الناس سنة ثماني عشرة ، ولم يعبد الصنم قط على أرضها ، هكذا كان يقول لي أبو الفضل عبد الوهاب بن أحمد بن معاوية الواعظ بالبصرة . قال أصحابنا : والبصرة داخلة في أرض سواد العراق وليس لها حكمه والله أعلم .

                                                                                                                وأما قوله أول من قال في القدر فمعناه أول من قال بنفي القدر فابتدع وخالف الصواب الذي عليه أهل الحق . ويقال القدر والقدر بفتح الدال وإسكانها لغتان مشهورتان وحكاهما ابن قتيبة عن الكسائي وقالهما غيره . واعلم أن مذهب أهل الحق إثبات القدر ومعناه : أن الله - تبارك وتعالى - قدر الأشياء في القدم ، وعلم - سبحانه - أنها ستقع في أوقات معلومة عنده - سبحانه وتعالى - وعلى صفات مخصوصة فهي تقع على حسب ما قدرها سبحانه وتعالى .

                                                                                                                وأنكرت القدرية هذا وزعمت أنه - سبحانه [ ص: 129 ] وتعالى - لم يقدرها ولم يتقدم علمه سبحانه وتعالى بها وأنها مستأنفة العلم أي إنما يعلمها سبحانه بعد وقوعها وكذبوا على الله سبحانه وتعالى وجل عن أقوالهم الباطلة علوا كبيرا . وسميت هذه الفرقة قدرية لإنكارهم القدر . قال أصحاب المقالات من المتكلمين : وقد انقرضت القدرية القائلون بهذا القول الشنيع الباطل ، ولم يبق أحد من أهل القبلة عليه ، وصارت القدرية في الأزمان المتأخرة تعتقد إثبات القدر ; ولكن يقولون : الخير من الله والشر من غيره ، تعالى الله عن قولهم .

                                                                                                                وقد حكى أبو محمد بن قتيبة في كتابه غريب الحديث وأبو المعالي إمام الحرمين في كتابه الإرشاد في أصول الدين أن بعض القدرية قال : لسنا بقدرية بل أنتم القدرية لاعتقادكم إثبات القدر . قال ابن قتيبة والإمام : هذا تمويه من هؤلاء الجهلة ومباهتة ; فإن أهل الحق يفوضون أموركم إلى الله سبحانه وتعالى ويضيفون القدر والأفعال إلى الله سبحانه وتعالى ، وهؤلاء الجهلة يضيفونه إلى أنفسهم ، ومدعي الشيء لنفسه ومضيفه إليها أولى بأن ينسب إليه ممن يعتقده لغيره ، وينفيه عن نفسه . قال الإمام وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : القدرية مجوس هذه الأمة شبههم بهم لتقسيمهم الخير والشر في حكم الإرادة كما قسمت المجوس فصرفت الخير إلى يزدان والشر إلى أهرمن ولا خفاء باختصاص هذا الحديث بالقدرية هذا كلام الإمام وابن قتيبة . وحديث القدرية مجوس هذه الأمة رواه أبو حازم عن ابن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . أخرجه أبو داود في سننه ، والحاكم أبو عبد الله في المستدرك على الصحيحين ، وقال : صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم من ابن عمر ، قال الخطابي : إنما جعلهم - صلى الله عليه وسلم - مجوسا لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين النور والظلمة يزعمون أن الخير من فعل النور ، والشر من فعل الظلمة ، فصاروا ثنوية . وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله تعالى والشر إلى غيره ، والله سبحانه وتعالى خالق الخير والشر جميعا لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته فهما مضافان إليه سبحانه وتعالى خلقا وإيجادا وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلا واكتسابا والله أعلم .

                                                                                                                وقال الخطابي : وقد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله سبحانه وتعالى العبد وقهره على ما قدره وقضاه ، وليس الأمر كما يتوهمونه وإنما معناه : الإخبار عن تقدم علم الله سبحانه وتعالى بما يكون من اكتساب العبد وصدورها عن تقدير منه وخلق لها خيرها وشرها . قال : والقدر اسم لما صدر مقدرا عن فعل القادر ، يقال قدرت الشيء وقدرته بالتخفيف والتثقيل بمعنى واحد ، والقضاء في هذا معناه الخلق كقوله تعالى : فقضاهن سبع سماوات في يومين أي خلقهن ، قلت : وقد تظاهرت الأدلة القطعيات من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأهل الحل والعقد من السلف والخلف على إثبات قدر الله سبحانه وتعالى . وقد أكثر العلماء من التصنيف فيه ومن أحسن المصنفات فيه وأكثرها فوائد كتاب الحافظ الفقيه أبي بكر البيهقي رضي الله عنه وقد قرر أئمتنا من المتكلمين ذلك أحسن تقرير بدلائلهم القطعية السمعية والعقلية . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( فوفق لنا عبد الله بن عمر ) هو بضم الواو وكسر الفاء المشددة ، قال صاحب التحرير معناه جعل وفقا لنا وهو من الموافقة التي هي كالالتحام يقال أتانا لتيفاق الهلال وميفاقه أي حين أهل ، [ ص: 130 ] لا قبله ، ولا بعده ، وهي لفظة تدل على صدق الاجتماع والالتئام وفي مسند أبي يعلى الموصلي ( فوافق لنا ) بزيادة ألف والموافقة : المصادفة .

                                                                                                                قوله : ( فاكتنفته أنا وصاحبي ) يعني صرنا في ناحيتيه . ثم فسره فقال : أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله . وكنفا الطائر جناحاه وفي هذا تنبيه على أدب الجماعة في مشيهم مع فاضلهم ، وهو أنهم يكتنفونه ويحفون به .

                                                                                                                قوله : ( فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي ) معناه : يسكت ويفوضه إلي لإقدامي وجرأتي وبسطة لساني ، فقد جاء عنه في رواية : لأني كنت أبسط لسانا .

                                                                                                                قوله : ( ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم ) هو بتقديم القاف على الفاء ، ومعناه : يطلبونه ويتتبعونه هذا هو المشهور ، وقيل : معناه : يجمعونه ، ورواه بعض شيوخ المغاربة من طريق ابن ماهان ( يتفقرون ) بتقديم الفاء ، وهو صحيح وهو أيضا معناه : يبحثون عن غامضه ويستخرجون خفيه . وروي في غير مسلم يتقفون بتقديم القاف وحذف الراء وهو صحيح أيضا ومعناه أيضا : يتتبعون . قال القاضي عياض : ورأيت بعضهم قال فيه ( يتقعرون ) بالعين ، وفسره بأنهم يطلبون قعره أي غامضه وخفيه . ومنه تقعر في كلامه إذا جاء بالغريب منه وفي رواية أبي يعلى الموصلي يتفقهون بزيادة الهاء وهو ظاهر .

                                                                                                                قوله : ( وذكر من شأنهم ) هذا الكلام من كلام بعض الرواة الذين دون يحيى بن يعمر والظاهر أنه من ابن بريدة الراوي عن يحيى بن يعمر يعني وذكر ابن يعمر من حال هؤلاء ووصفهم بالفضيلة في العلم والاجتهاد في تحصيله والاعتناء به .

                                                                                                                قوله : ( يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف ) هو بضم الهمزة والنون أي : مستأنف لم يسبق به قدر ولا علم من الله تعالى ، وإنما يعلمه بعد وقوعه كما قدمنا حكايته عن مذهبهم الباطل ، وهذا القول قول غلاتهم وليس قول جميع القدرية ، وكذب قائله وضل وافترى . عافانا الله وسائر المسلمين .

                                                                                                                قوله : ( قال يعني ابن عمر - رضي الله عنهما - فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني ، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر ) هذا الذي قاله ابن عمر رضي الله عنهما ظاهر في تكفيره القدرية . قال القاضي عياض - رحمه الله - : هذا في القدرية الأول الذين نفوا تقدم علم الله تعالى بالكائنات ، قال : والقائل بهذا كافر بلا خلاف ، وهؤلاء الذين ينكرون القدر هم الفلاسفة في الحقيقة ، قال غيره : ويجوز أنه لم يرد بهذا [ ص: 131 ] الكلام التكفير المخرج من الملة فيكون من قبيل كفران النعم . إلا أن قوله : ما قبله الله منه ، ظاهر في التفكير ; فإن إحباط الأعمال إنما يكون بالكفر إلا أنه يجوز أن يقال في المسلم لا يقبل عمله لمعصيته وإن كان صحيحا ، كما أن الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة غير محوجة إلى القضاء عند جماهير العلماء بل بإجماع السلف وهي غير مقبولة فلا ثواب فيها على المختار عند أصحابنا والله أعلم . وقوله : فأنفقه ، يعني في سبيل الله تعالى ، أي طاعته كما جاء في رواية أخرى . قال نفطويه : سمي الذهب ذهبا لأنه يذهب ولا يبقى .

                                                                                                                قوله : ( لا يرى عليه أثر السفر ) ضبطناه بالياء المثناة من تحت المضمومة . وكذلك ضبطناه في الجمع بين الصحيحين وغيره . وضبطه الحافظأبو حازم العدوي هنا ( نرى ) بالنون المفتوحة ، وكذا هو في مسند أبي يعلى الموصلي وكلاهما صحيح .

                                                                                                                قوله : ( ووضع كفيه على فخذيه ) معناه أن الرجل الداخل وضع كفيه على فخذي نفسه وجلس على هيئة المتعلم . والله أعلم .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . والإيمان أن تؤمن بالله . . . إلى آخره ) هذا قد تقدم بيانه وإيضاحه بما يغني عن إعادته .

                                                                                                                قوله : ( فعجبنا له يسأله ويصدقه ) سبب تعجبهم أن هذا خلاف عادة السائل الجاهل ، إنما هذا كلام خبير بالمسئول عنه ، ولم يكن في ذلك الوقت من يعلم هذا غير النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) هذا من جوامع الكلم التي أوتيها - صلى الله عليه وسلم - لأنا لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى لم يترك شيئا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به فقال - صلى الله عليه وسلم - : اعبد الله في جميع أحوالك كعبادتك في حال العيان فإن التتميم المذكور في حال العيان إنما كان لعلم العبد باطلاع الله سبحانه وتعالى عليه فلا يقدم العبد على [ ص: 132 ] تقصير في هذا الحال للاطلاع عليه وهذا المعنى موجود مع عدم رؤية العبد فينبغي أن يعمل بمقتضاه ، فمقصود الكلام الحث على الإخلاص في العبادة ومراقبة العبد ربه تبارك وتعالى ، في إتمام الخشوع والخضوع ، وغير ذلك . وقد ندب أهل الحقائق إلى مجالسة الصالحين ليكون ذلك مانعا من تلبسه بشيء من النقائص احتراما لهم واستحياء منهم فكيف بمن لا يزال الله تعالى مطلعا عليه في سره وعلانيته ؟ .

                                                                                                                قال القاضي عياض - رحمه الله - : وهذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان وأعمال الجوارح وإخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشبعة منه قال : وعلى هذا الحديث وأقسامه الثلاثة ألفنا كتابنا الذي سميناه بالمقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان إذ لا يشذ شيء من الواجبات والسنن والرغائب والمحظورات والمكروهات عن أقسامه الثلاثة . والله أعلم .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما المسئول عنها بأعلم من السائل ) فيه أنه ينبغي للعالم والمفتي وغيرهما إذا سئل عما لا يعلم أن يقول : لا أعلم ، وأن ذلك لا ينقصه بل يستدل به على ورعه وتقواه ووفور علمه . وقد بسطت هذا بدلائله وشواهده وما يتعلق به في مقدمة شرح المهذب المشتملة على أنواع من الخير لا بد لطالب العلم من معرفة مثلها وإدامة النظر فيه . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( فأخبرني عن أماراتها ) هو بفتح الهمزة والأمارة والأمار بإثبات الهاء وحذفها هي العلامة .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أن تلد الأمة ربتها ) وفي الرواية الأخرى : ربها على التذكير ، وفي الأخرى : بعلها وقال يعني السراري . ومعنى ربها وربتها . سيدها ومالكها وسيدتها ومالكتها قال الأكثرون من العلماء هو إخبار عن كثرة السراري وأولادهن ; فإن ولدها من سيدها بمنزلة سيدها ; لأن مال الإنسان صائر إلى ولده ، وقد يتصرف فيه في الحال تصرف المالكين ، إما بتصريح أبيه له بالإذن ، وإما بما يعلمه بقرينة الحال أو عرف الاستعمال . وقيل : معناه أن الإماء يلدن الملوك فتكون أمه من جملة رعيته وهو سيدها وسيد غيرها من رعيته ، وهذا قول إبراهيم الحربي ، وقيل : معناه أنه تفسد أحوال الناس فيكثر بيع أمهات الأولاد في آخر الزمان فيكثر تردادها في أيدي المشترين حتى يشتريها ابنها ولا يدري ، ويحتمل على هذا القول أن لا يختص هذا بأمهات الأولاد فإنه متصور في غيرهن ; فإن الأمة تلد ولدا حرا من غير سيدها بشبهة ، أو ولدا رقيقا بنكاح أو زنا ثم تباع الأمة في الصورتين بيعا صحيحا ، وتدور في الأيدي حتى يشتريها ولدها وهذا أكثر وأعم من تقديره في أمهات الأولاد . وقيل في معناه غير ما ذكرناه . ولكنها أقوال ضعيفة جدا أو فاسدة فتركتها .

                                                                                                                وأما بعلها فالصحيح في معناه أن البعل هو المالك أو السيد فيكون بمعنى ربها على ما ذكرناه . قال أهل اللغة : بعل الشيء ربه ومالكه . وقال ابن عباس رضي الله عنهما والمفسرون في قوله - سبحانه وتعالى - أتدعون بعلا أي : ربا . وقيل : المراد بالبعل [ ص: 133 ] في الحديث : الزوج ومعناه نحو ما تقدم أنه يكثر بيع السراري حتى يتزوج الإنسان أمه وهو لا يدري . وهذا أيضا معنى صحيح إلا أن الأول أظهر ; لأنه إذا أمكن حمل الروايتين في القضية الواحدة على معنى واحد كان أولى . والله أعلم .

                                                                                                                واعلم أن هذا الحديث ليس فيه دليل على إباحة بيع أمهات الأولاد ، ولا منع بيعهن . وقد استدل إمامان من كبار العلماء به على ذلك ، فاستدل أحدهما على الإباحة والآخر على المنع وذلك عجب منهما . وقد أنكر عليهما فإنه ليس كل ما أخبر - صلى الله عليه وسلم - بكونه من علامات الساعة يكون محرما أو مذموما ، فإن تطاول الرعاء في البنيان . وفشو المال ، وكون خمسين امرأة لهن قيم واحد ليس بحرام بلا شك ، وإنما هذه علامات والعلامة لا يشترط فيها شيء من ذلك ; بل تكون بالخير والشر والمباح والمحرم والواجب وغيره والله أعلم .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ) أما ( العالة ) فهم الفقراء ، والعائل الفقير ، والعيلة الفقر ، وعال الرجل يعيل عيلة أي افتقر . والرعاء بكسر الراء وبالمد ، ويقال فيهم ( رعاة ) بضم الراء وزيادة الهاء بلا مد ومعناه أن أهل البادية وأشباههم من أهل الحاجة والفاقة تبسط لهم الدنيا حتى يتباهون في البنيان . والله أعلم .

                                                                                                                قوله ( فلبث مليا ) هكذا ضبطناه لبث آخره ثاء مثلثة من غير تاء . وفي كثير من الأصول المحققة ( لبثت ) بزيادة تاء المتكلم وكلاهما صحيح . وأما ( مليا ) بتشديد الياء فمعناه وقتا طويلا . وفي رواية أبي داود والترمذي أنه قال ذلك بعد ثلاث . وفي شرح السنة للبغوي ( بعد ثالثة ) وظاهر هذا : أنه بعد ثلاث ليال . وفي ظاهر هذا مخالفة لقوله في حديث أبي هريرة بعد هذا ثم أدبر الرجل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ردوا علي الرجل ، فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : هذا جبريل ، فيحتمل الجمع بينهما أن عمر - رضي الله عنه - لم يحضر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم في الحال بل كان قد قام من المجلس ، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحاضرين في الحال ، وأخبر عمر - رضي الله عنه - بعد ثلاث إذ لم يكن حاضرا وقت إخبار الباقين . والله أعلم .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) فيه أن الإيمان والإسلام والإحسان تسمى كلها دينا . واعلم أن هذا الحديث يجمع أنواعا من العلوم والمعارف والآداب واللطائف بل هو أصل الإسلام كما حكيناه عن القاضي عياض ، وقد تقدم في ضمن الكلام فيه جمل من فوائده ومما لم نذكره من فوائده أن فيه أنه ينبغي لمن حضر مجلس العالم إذا علم بأهل المجلس حاجة ، إلى مسألة لا يسألون عنها أن يسأل هو عنها ليحصل الجواب للجميع . وفيه أنه ينبغي للعالم أن يرفق بالسائل ، ويدنيه منه ، ليتمكن من سؤاله غير هائب ولا منقبض . وأنه ينبغي للسائل أن يرفق في سؤاله . والله أعلم .

                                                                                                                [ ص: 134 ] قوله : ( حدثني محمد بن عبيد الغبري وأبو كامل الجحدري وأحمد بن عبدة ) أما ( الغبري ) فبضم الغين المعجمة وفتح الموحدة وقد تقدم بيانه واضحا في أول مقدمة الكتاب ، و ( الجحدري ) اسمه الفضيل بن حسين وهو بفتح الجيم وبعدها حاء ساكنة ، وتقدم أيضا بيانه في المقدمة ، و ( عبدة ) بإسكان الباء وقد تقدم في الفصول بيان عبدة وعبيدة . وفي هذا الإسناد ( مطر الوراق ) هو مطر بن طهمان أبو رجاء الخرساني سكن البصرة كان يكتب المصاحف فقيل له الوراق .

                                                                                                                قوله : ( فحججنا حجة ) هي بكسر الحاء وفتحها لغتان فالكسر هو المسموع من العرب ، والفتح هو القياس ، كالضربة وشبهها كذا قاله أهل اللغة .

                                                                                                                قوله : ( عثمان بن غياث ) هو بالغين المعجمة .

                                                                                                                و ( حجاج بن الشاعر ) هو حجاج بن يوسف بن حجاج الثقفي أبو محمد البغدادي وقد تقدم في أوائل الكتاب بيانه واتفاقه مع الحجاج بن يوسف الوالي الظالم المعروف وافتراقه .

                                                                                                                وفي الإسناد يونس وقد تقدم فيه ست لغات ضم النون وكسرها وفتحها مع الهمز فيهن وتركه .




                                                                                                                الخدمات العلمية