الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 551 ] وسئل عن قول الخطيب بن نباتة أبرأ من الحول والقوة إلا إليه ; فأنكر بعض الناس عليه وقال ما يصح ذلك إلا بحذف الاستثناء بأن تقول أبرأ من الحول والقوة إليه فاستدل من نصر قول الخطيب بقوله تعالى : { إنني براء مما تعبدون } { إلا الذي فطرني فإنه سيهدين } فهل أصاب المنكر أم لا ؟ .

                0

                التالي السابق


                فأجاب : ما ذكر الخطيب صحيح باعتبار المعنى الذي قصده وما ذكره الآخر من حذف الاستثناء له معنى آخر صحيح ; فإنه إذا قال برئت من الحول والقوة إليه كان المعنى برئت إليه من حولي وقوتي : أي من دعوى حولي وقوتي كما يقال : برئت إلى فلان من الدين ذكره ثعلب في فصيحه والمعنى برئت إليه من هذا ومنه قوله تعالى { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون } { قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون } ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم { اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد } وقول الأنصاري يوم أحد : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين . [ ص: 552 ]

                وهذا الصنيع يتضمن نفي الدين : المعنى أوصلته إليه وفي غيره اعتذرت إليه أو ألقيت إليه وضمن معنى ألقيت إليه البراءة كما يقال : ألقى إليه القول { فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون } { وألقوا إلى الله يومئذ السلم } ومنه قوله تعالى { وكلمته ألقاها إلى مريم } فالتبري قول يلقى إلى المخاطب فعلى هذا يكون الجار والمجرور متعلقا بالبراءة . والخطيب لم يرد هذا المعنى بل أراد أنه بريء من أن يلجئ ظهره إلا إلى الله ويفوض أمره إلا إلى الله ويتوجه في أمره إلا إلى الله ويرغب في أمره إلا إلى الله .

                { قال النبي صلى الله عليه وسلم للبراء بن عازب : إذا أويت إلى مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم قل : اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك } فمعنى قوله : وأبرأ من الحول والقوة إلا إليه . أبرأ من أن أثبت لغيره حولا وقوة ألتجئ إليه لأجل ذلك والمعنى لا أتوكل إلا عليه ولا أعتمد إلا عليه .

                وهنا معنى ثالث : وهو أن يقال : أبرأ من الحول والقوة إلا به أي أبرأ من أن أتبرأ وأعتقد وأدعي حولا أو قوة إلا به فإنه لا حول ولا قوة إلا به وهذا معنى صحيح لكن الخطيب قصد المعنى الأوسط الذي يدل لفظه [ عليه ] فإنه من له حول وقوة يلجأ إليه ويستند إليه فضمن معنى الحول والقوة معنى الالتجاء فصار التقدير أبرأ من الالتجاء إلا إليه وعلى [ ص: 553 ] هذا الحال فالجار والمجرور متعلق بمعنى الالتجاء الذي دل عليه لفظ الحول والقوة لا معنى أبرأ ولما ظن المنكر على الخطيب أن الجار والمجرور متعلق بلفظ أبرأ أنكر الاستثناء ولو أراد الخطيب هذا لكان حذف حرف الاستثناء هو الواجب لكن لم يرده بل أراد ما لا يصح إلا مع الاستثناء والاستثناء مفرغ فرغ ما قبل الاستثناء لما بعده والمفرغ يكون من غير الموجب لفظا أو معنى .

                ولفظ " البراءة " وإن كان مثبتا ففيه معنى السلب فهو كقوله : { والذين هم لفروجهم حافظون } { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } فالحفظ لفظ مثبت لكن تضمن معنى ما سوى المذكور فالتقدير لا يكشفونها إلا على أزواجهم وكذلك لفظ البراءة وقول الخليل : { إنني براء مما تعبدون } { إلا الذي فطرني } استثناء تام ذكر فيه المستثنى منه لكنه يدل على أنه تبرأ من شيء لا من لا شيء والمطابق له أن يقال برئت من الحول والقوة إلى كل شيء إلا إليه .

                لكن المستدل بالآية أخذ قدرا مشتركا وهو التبري مما سوى الله وهذا المعنى الذي قصده المستدل بالآية معنى صحيح باعتبار دلالته على التوحيد وهو البراءة مما سوى الله وقد ذكر الله هذا المعنى في مواضع . كقوله تعالى : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده } وهذا يناسب مقصود الخطيب .

                فإن مقصوده أن يتبرأ مما سوى الله ليس مقصوده أن يتبرأ إليه لكن الخطيب قصد البراءة من الالتجاء إلا إليه والالتجاء إليه داخل في عبادته فهو بعض ما دل عليه قول إبراهيم فإن الواجب أن يتبرءوا من أن يعبدوا إلا الله أو يتوكلوا إلا عليه وهذا تحقيق التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب لكن الإنسان قد يكون مقصوده إخلاص العبادة في مسألته ودعائه والتوكل عليه والالتجاء إليه ; وهذا هو المعنى الذي قصده الخطيب وهو معنى صحيح يدل عليه لفظه بحقائق دلالات الألفاظ والمنكر قصد معنى صحيحا ; والمستدل قصد معنى صحيحا لكن الإنسان لا ينوي كثيرا من نفي ما لا يعلم إلا من إثبات ما يعلم ، والله سبحانه وتعالى أعلم .




                الخدمات العلمية