الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  20 1 - حدثنا محمد بن سلام، قال: أخبرنا عبدة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون قالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه، ثم يقول: إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة فإنها جزء منه.

                                                                                                                                                                                  (بيان رجاله)، وهم خمسة:

                                                                                                                                                                                  الأول: أبو عبد الله محمد بن سلام بن الفرج السلمي مولاهم البخاري البيكندي سمع ابن عيينة، وابن المبارك، وغيرهما من الأعلام، وعنه الأعلام الحفاظ كالبخاري ونحوه أنفق في العلم أربعين ألفا، ومثلها في نشره، ويقال: إن الجن كانت تحضر مجلسه، وقال: أدركت مالكا، ولم أسمع منه، وكان أحمد يعظمه، وعنه أحفظ أكثر من خمسة آلاف حديث كذب، وله رحلة، ومصنفات في أبواب من العلم، وانكسر قلمه في مجلس شيخ، فأمر أن ينادى قلم بدينار فطارت إليه الأقلام، توفي سنة خمس وعشرين ومائتين، وانفرد البخاري به عن الكتب الستة. ثم اعلم أن سلاما والد محمد المذكور بالتخفيف على الصواب، وبه قطع المحققون، منهم: الخطيب، وابن ماكولا، وهو ما ذكره غبخار في (تاريخ بخارى)، وهو أعلم ببلاده، وحكاه أيضا عنه، فقال: قال سهل بن المتوكل: سمعت محمد بن سلام يقول: أنا محمد بن سلام بالتخفيف، ولست بمحمد بن سلام، وذكر بعض الحفاظ أن تشديده لحن، وأما صاحب (المطالع) فادعى أن التشديد رواية الأكثرين، ولعله أراد أكثر شيوخ بلده. وقال النووي: لا يوافق على هذه الدعوى فإنها مخالفة للمشهور.

                                                                                                                                                                                  الثاني: أبو محمد عبدة بسكون الباء ابن سليمان بن حاجب بن زرارة بن عبد الرحمن بن صرد بن سمير بن مليك بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب الكلابي الكوفي، هكذا نسبه محمد بن سعد في (الطبقات)، وقيل: اسمه عبد الرحمن وعبدة لقبه، سمع جماعة من التابعين، منهم هشام، والأعمش، وعنه الأعلام أحمد وغيره، قال أحمد: ثقة ثقة، وزيادة مع صلاح، وقال العجلي: ثقة رجل صالح صاحب قرآن، توفي بالكوفة في جمادى، وقيل: في رجب سنة ثمان وثمانين ومائة. قال الترمذي، وقال البخاري: سنة سبع، روى له الجماعة.

                                                                                                                                                                                  الثالث: هشام بن عروة.

                                                                                                                                                                                  الرابع: أبوه عروة بن الزبير بن العوام.

                                                                                                                                                                                  الخامس: عائشة رضي الله عنها، وقد ذكروا في باب الوحي.

                                                                                                                                                                                  (بيان الأنساب) السلمي، بضم السين، وفتح اللام في قيس غيلان، وفي الأزد، فالذي في قيس غيلان سليم بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن غيلان، والذي في الأزد سليم بن بهم بن غنم بن دوس، وهو من شاذ النسب، وقياسه سليمي.

                                                                                                                                                                                  البخاري نسبة إلى بخارى، بضم الباء الموحدة مدينة مشهورة بما وراء النهر خرجت منها [ ص: 166 ] العلماء، والصلحاء، ويشتمل على بخارى، وعلى قراها، ومزارعها سور واحد نحو اثني عشر فرسخا في مثلها، وقال ابن حوقل: ورساتيق بخارى تزيد على خمسة عشر رستاقا، جميعها داخل الحائط المبني على بلادها، ولها خارج الحائط أيضا عدة مدن منها فربر، وغيرها البيكندي بباء موحدة مكسوة، ثم ياء آخر الحروف ساكنة، ثم كاف مفتوحة، ثم نون ساكنة، نسبة إلى بيكند بلدة من بلاد بخارى على مرحلة منها خربت، ويقال: الباكندي أيضا، ويقال: بالفاء أيضا الفاكندي، وينسب إليها ثلاثة أنفس انفرد البخاري بهم، أحدهم محمد بن سلام المذكور، وثانيهم محمد بن يوسف، وثالثهم يحيى بن جعفر الكلابي في قيس غيلان، ينسب إلى كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن غيلان.

                                                                                                                                                                                  (بيان لطائف إسناده) منها أن فيه تحديثا، وإخبارا، وعنعنة، والإخبار في قوله: " أخبرنا عبيدة بن سليمان. وفي رواية الأصيلي: حدثنا.

                                                                                                                                                                                  ومنها أن إسناده مشتمل على بخاري، وكوفي، ومدني.

                                                                                                                                                                                  ومنها أن رواته أئمة أجلاء.

                                                                                                                                                                                  (بيان من أخرجه) هذا الحديث من أفراد البخاري عن مسلم، وهو من غرائب الصحيح، لا يعرف إلا من هذا الوجه، وهو مشهور عن هشام، فرد مطلق من حديثه، عن أبيه، عن عائشة.

                                                                                                                                                                                  (بيان اللغات). قوله: " بما يطيقون " من أطاق يطيق إطاقة، وطوقتك الشيء، أي: كلفتك به.

                                                                                                                                                                                  قوله: " كهيئتك " الهيئة الحالة والصورة، وفي (العباب) الهيئة: الشارة، وفلان حسن الهيئة، والهيئة بالفتح، والكسر، والهيء على فيعل الحسن الهيئة من كل شيء، يقال: هاء يهاء هيئة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " إن الله قد غفر " الغفر في اللغة الستر، وفي (العباب) الغفر التغطية، والغفر، والغفران، والمغفرة واحد، ومغفرة الله لعبده إلباسه إياه العفو، وستر ذنوبه.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فيغضب " من غضب عليه غضبا ومغضبة، أي: سخط، وقال ابن عرفة: الغضب من المخلوقين شيء يداخل قلوبهم، ويكون منه محمود ومذموم، والمذموم ما كان في غير الحق، وأما غضب الله تعالى فهو إنكاره على من عصاه فيعاقبه. وقال الطحاوي رحمه الله: إن الله يغضب ويرضى لا كأحد من الورى. قال في (العباب): وأصل التركيب يدل على شدة وقوة.

                                                                                                                                                                                  (بيان الإعراب). قوله: " رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم " اسم كان وخبره.

                                                                                                                                                                                  قوله: " إذا أمرهم " قوله: " قالوا " جواب إذا قوله: " لسنا كهيئتك " ليس المراد نفي تشبيه ذواتهم بحالته عليه الصلاة والسلام، فلا بد من تأويل في أحد الطرفين، فقيل: المراد من كهيئتك كمثلك، أي: كذاتك أو كنفسك، وزيد لفظ الهيئة للتأكيد نحو: مثلك لا يبخل أو التقدير في لسنا ليس حالنا، فحذف الحال وأقيم المضاف إليه مقامه، واتصل الفعل بالضمير، فقيل: لسنا، فالنون اسم ليس وخبره.

                                                                                                                                                                                  قوله: " كهيئتك " . قوله: " ما تقدم " جملة في محل النصب على أنها مفعول غفر، وكلمة من بيانية، وقوله، وما تأخر عطف عليه، والتقدير: وما تأخر من ذنبك.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فيغضب " على صورة المضارع فهو وإن كان بلفظ المضارع، ولكن المقصود حكاية الحال الماضية، واستحضار تلك الصورة الواقعة للحاضرين، وفي أكثر النسخ: فغضب بلفظ الماضي.

                                                                                                                                                                                  قوله: " حتى يعرف الغضب " على صيغة المجهول، والغضب مرفوع به، وإما يعرف فإنه منصوب بتقدير أن، أي: حتى أن يعرف الغضب، والنصب هو الرواية، ويجوز فيه الرفع بأن يكون عطفا على فيغضب فافهم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " إن أتقاكم " ، أي: أكثركم تقوى وخشية من الله تعالى، وأتقاكم اسم إن، وأعلمكم عطف عليه، وقوله: " أنا " خبره، وفي كتاب أبي نعيم، وأعلمكم بالله; لأنا بزيادة لام التأكيد.

                                                                                                                                                                                  (بيان المعاني). قوله: " إذا أمرهم من الأعمال " ، أي: اذا أمر الناس بعمل أمرهم بما يطيقون ظاهره أنه كان يكلفهم بما يطاق فعله، لكن السياق دل على أن المراد أنه يكلفهم بما يطاق الدوام على فعله، ووقع في معظم الروايات: " كان إذا أمرهم أمرهم من الأعمال " بتكرار أمرهم، وفي بعضها: أمرهم مرة واحدة، وهو الذي وقع في طرق هذا الحديث من طريق عبدة، وكذا من طريق ابن نمير وغيره عن هشام عند أحمد، وكذا ذكره الإسماعيلي من رواية أبي أسامة عن هشام، ولفظه: كان إذا أمر الناس بالشيء قالوا "، والمعنى على التكرير كان إذا أمرهم بعمل من الأعمال أمرهم بما يطيقون الدوام عليه فأمرهم.

                                                                                                                                                                                  الثاني: يكون جواب الشرط. فإن قلت: فعلى هذا ما يكون.

                                                                                                                                                                                  قوله: " قالوا " . قلت: يكون جوابا ثانيا.

                                                                                                                                                                                  قوله: " [ ص: 167 ] إنا لسنا كهيئتك، أرادوا بهذا الكلام طلب الإذن في الزيادة من العبادة، والرغبة في الخير، يقولون: أنت مغفور لك، لا تحتاج إلى عمل، ومع هذا أنت مواظب على الأعمال فكيف بنا وذنوبنا كثيرة؟ فرد عليهم، وقال: أنا أولى بالعمل; لأني أعلمكم وأخشاكم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " إن الله قد غفر لك " اقتباس من قوله تعالى: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر وقد عرفت ما في هذا التركيب من المؤكدات. فإن قلت: النبي صلى الله عليه وسلم معصوم عن الكبائر والصغائر، فما ذنبه الذي غفر له؟ قلت: المراد منه ترك الأولى والأفضل بالعدول إلى الفاضل، وترك الأفضل كأنه ذنب لجلالة قدر الأنبياء عليهم السلام، ويقال: المراد منه ذنب أمته.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أتقاكم " إشارة إلى كمال القوة العملية، و" أعلمكم " إلى كمال القوة العلمية، ولما كان عليه السلام جامعا لأقسام التقوى حاويا لأقسام العلوم ما خصص التقوى ولا العلم، وأطلق، وهذا قريب مما قال علماء المعاني: قد يقصد بالحذف إفادة العموم والاستغراق، ويعلم منه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أنه أفضل من كل واحد، وأكرم عند الله، وأكمل; لأن كمال الإنسان منحصر في الحكمتين العلمية والعملية، وهو الذي بلغ الدرجة العليا، والمرتبة القصوى منهما يجوز أن يكون أفضل وأكرم وأكمل من الجميع حيث قال: أتقاكم وأعلمكم " خطابا للجميع.

                                                                                                                                                                                  (بيان استنباط الفوائد)، وهو على وجوه:

                                                                                                                                                                                  الأول: أن الأعمال الصالحة ترقي صاحبها إلى المراتب السنية من رفع الدرجات، ومحو الخطيئات; لأنه عليه السلام لم ينكر عليهم استدلالهم من هذه الجهة بل من جهة أخرى.

                                                                                                                                                                                  الثاني: أن العبادة الأولى فيها القصد وملازمة ما يمكن الدوام عليه.

                                                                                                                                                                                  الثالث: أن الرجل الصالح ينبغي أن لا يترك الاجتهاد في العمل اعتمادا على صلاحه.

                                                                                                                                                                                  الرابع: أن الرجل يجوز له الإخبار بفضيلته إذا دعت إلى ذلك حاجة.

                                                                                                                                                                                  الخامس: أنه ينبغي أن يحرص على كتمانها فإنه يخاف من إشاعتها زوالها.

                                                                                                                                                                                  الثالث: فيه جواز الغضب عند رد أمر الشرع، ونفوذ الحكم في حال الغضب، والتغير.

                                                                                                                                                                                  السابع: فيه دليل على رفق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بأمته، وأن الدين يسر، وأن الشريعة حنيفية سمحة.

                                                                                                                                                                                  الثامن: فيه الإشارة إلى شدة رغبة الصحابة في العبادة، وطلبهم الازدياد من الخير.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية