الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
337 [ ص: 293 ] حديث ثان لصالح بن كيسان ، مسند

مالك ، عن صالح بن كيسان ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، في الحضر ، والسفر ، فأقرت صلاة السفر ، وزيد في صلاة الحضر .

التالي السابق


هذا حديث صحيح الإسناد عند جماعة أهل النقل ، لا يختلف أهل الحديث في صحة إسناده ، وكل من رواه قال فيه عن عائشة : فرضت الصلاة . لا يقول : فرض الله ، ولا فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ما حدث به أبو إسحاق الحربي ، قال : حدثنا أحمد بن الحجاج ، قال : حدثنا ابن المبارك ، قال : حدثنا ابن عجلان عن صالح بن كيسان ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة ركعتين ركعتين . فذكر الحديث .

[ ص: 294 ] هكذا قال : فرض رسول الله ، وعنه تقول : فرضت ، إلا أن الأوزاعي قال فيه : عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة ، ولم يروه مالك عن ابن شهاب ، ولا عن هشام ، إلا أن شيخا يسمى يحيى بن محمد بن عباد بن هانئ رواه عن مالك ، وابن أخي الزهري - جميعا - عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أن الصلاة أول ما فرضت ركعتين ، فزيد في صلاة الحضر ، وأقرت صلاة السفر وهذا لا يصح عن مالك ، والصحيح في إسناده عن مالك في الموطأ ، وطرقه عن عائشة متواترة ، وهو عنها صحيح ليس في إسناده مقال ، إلا أن أهل العلم اختلفوا في معنى هذا الحديث ، فذهب منهم جماعة إلى ظاهره وعمومه وما يوجبه لفظه ، فأوجبوا القصر في السفر فرضا ، وقالوا : لا يجوز لأحد أن يصلي في السفر إلا ركعتين ركعتين كل صلاة أربع .

قال أبو عمر : فأما المغرب والصبح ، فلا خلاف بين العلماء أنهما كذلك فرضتا ، وأنهما لا قصر فيهما ، في السفر ولا غيره ، وهذا يدلك على أن قول عائشة : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين . قول ظاهره العموم ، والمراد به الخصوص ; ألا ترى أن صلاة المغرب غير داخلة في قولها : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين . وكذلك الصبح غير داخلة في قولها : فزيد في صلاة الحضر ; لأنه معلوم أن الصبح لم يزد فيها ولم ينقص منها ، وأنها في السفر والحضر سواء ، فحجة من ذهب إلى إيجاب القصر في السفر [ ص: 295 ] فرضا قول عائشة : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر وهذا واضح في أن الركعتين في السفر للمسافر فرض لا يجوز خلافه ; لأن الفرض الواجب لا يجوز خلافه ولا الزيادة عليه ; ألا ترى أن المصلي في الحضر لا يجوز له أن يصلي الظهر ستا ، ولا العصر ولا العشاء ولا يجوز له أن يصلي المغرب أربعا ولا الصبح أربعا ; لأنه لو فعل ذلك كان زائدا في فرضه عامدا لما يفسده ، وهذا كله إجماع لا خلاف فيه للحضري أنه لا يجوز له ذلك ، قالوا : فكذلك المسافر ، لا يجوز له أن يصلي في السفر أربعا ; لأن فرضه في السفر ركعتان على ما ذكرت عائشة .

وممن ذهب إلى هذا : عمر بن عبد العزيز - إن صح عنه - وحماد بن أبي سليمان ، وهو قول أبي حنيفة ، وأصحابه ، وقول بعض أصحاب مالك ، وقد روي عن مالك أيضا - وهو المشهور عنه - أنه قال : من أتم في السفر أعاد في الوقت ، ومن حجة من ذهب إلى إيجاب القصر فرضا في السفر - حديث عمر بن الخطاب قال : صلاة السفر ركعتان تمام غير قصرعلى لسان نبيكم ، صلى الله عليه وسلم . وهو حديث رواه عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عمر ، وقال ابن معين ، وعلي ابن المديني : لم يسمعه من عمر ، ورجاله ثقات [ ص: 296 ] حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن زبيد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عمر ، قال سفيان : قال زبيد مرة : عن عمر ، قال : صلاة المسافر ركعتان تمام غير قصر على لسان النبي ، صلى الله عليه وسلم .

قال أبو عمر : روى هذا الحديث يزيد بن هارون ، عن الثوري ، عن زبيد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : سمعت عمر . فخطئوه فيه لقوله : سمعت عمر . وقد رواه محمد بن طلحة ، قال : حدثنا زبيد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : خطبنا عمر ، فقال : ألا إن صلاة يوم الفطر ، وصلاة يوم النحر ، وصلاة يوم الجمعة ، وصلاة السفر ركعتان ركعتان ، تمام غير قصر على لسان النبي ، صلى الله عليه وسلم . فوهم أيضا فيه .

ورواه يزيد بن زياد بن أبي الجعد ، عن زبيد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة ، عن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله ، فزاد كعب بن عجرة ، أدخله بين عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وابن عمر ، وليس لهذا الحديث غير هذا الإسناد ، ومن أهل الحديث من يعلله ويضعفه ، ومنهم من يصحح إسناد يزيد بن أبي الجعد هذا فيه .

قال علي ابن المديني : هو أسندها ، وأحسنها ، وأصحها ، واحتجوا أيضا بما حدثناه عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد [ ص: 297 ] وحدثنا عبد الوارث أيضا ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن شاذان ، قال : حدثنا موسى بن داود ، قالا : حدثنا أبو عوانة ، عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة .

وهذا أيضا حديث انفرد به بكير بن الأخنس ، وليس بحجة فيما انفرد به ، واحتجوا أيضا بأن قالوا : وأما قول الله عز وجل : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) فغير جائز لمن جعل الطواف بين الصفا والمروة من أركان الحج مع قول الله عز وجل : ( فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) أن يحتج بهذه الآية في إباحة القصر في السفر ، وقالوا : إنما نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعسفان بين الظهر والعصر في صلاة الخوف ، وذكروا في ذلك حديثا رواه مجاهد ، عن أبي عياش الزرقي ، عن النبي عليه السلام .

[ ص: 298 ] وقالوا : ذلك يدل على أن القصر إنما هو قصر المأموم خلف إمامه ، يصلي معه بعضها بشرط الخوف ، ولا يتمها معه ، وإذا كان ذلك كذلك ، كان حديث عائشة في معنى غير معنى الآية قد أفاد حكما زائدا .

واحتجوا أيضا بأن جابرا ، وابن عمر ، قالا : ليس الركعتين في السفر بقصر ، وأن ابن عباس قال : من صلى في السفر أربعا كمن صلى في الحضر ركعتين ، فهذه جملة ما نزع به الذين ذهبوا إلى أن القصر في السفر فرض على ظاهر حديث عائشة . وقال آخرون : القصر في السفر سنة مسنونة ورخصة وتوسعة ، فمن شاء قصر في السفر ومن شاء أتم ، كما أن المسافر مخير ، إن شاء صام وإن شاء أفطر ، وحجتهم قول الله عز وجل : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) قالوا : فالقرآن يدل على أن القصر ليس بحتم ; لأن الحتم لا يقال فيه : ليس عليكم جناح أن تفعلوه ، قالوا : كل ما قيل فيه : لا جناح ، فإنما هو رخصة ، لا حتم ، مثل قوله عز وجل ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ) فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن ) [ ص: 299 ] وما كان مثل هذا ، وكذلك قوله عز وجل في الصفا والمروة : ( فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) نزلت في إباحة ما كان عندهم محظورا ; لأن العرب كانت تتحرج من العمرة في أشهر الحج وتتحرج من فعل ما كانت تفعله في جاهليتها ، وقد بينا معنى هذه الآية في مواضع من كتابنا هذا والحمد لله .

قالوا : وإن كان شرط الخوف مذكورا في الآية فإن النبي - صلى الله عليه وسلم ، وهو المبين عن الله مراده - قد بين بسنته أن المسافر يقصر الصلاة في الخوف وفي غير الخوف ; لأنه كان يقصر وهو آمن لا يخاف إلا الله ، فكان القصر في السفر مع الأمن زيادة بيان على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن لم ينزل به وحي يتلى ، ومثله كثير في الشرع ، واحتجوا من الأثر بما حدثناه عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أحمد بن حنبل ، ومسدد ، قالا : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، قال : حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عامر ، عن عبد الله بن بابيه ، عن يعلى بن أمية ، قال : قلت لعمر بن الخطاب : أرأيت إقصار الناس الصلاة اليوم ؟ وإنما قال الله عز وجل : ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) فقد ذهب ذلك اليوم ، فقال : عجبت مما عجبت [ ص: 300 ] منه فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته هكذا قال يحيى القطان ، عن ابن جريج ، حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار . وقال عبد الرزاق ، ومحمد بن بكر البرساني ، وأبو عاصم ، وحماد بن مسعدة ، عن ابن جريج ، قال : سمعت عبد الله بن أبي عمار ، وقال الفزاري ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي عمار ، قالوا : ففي قوله - صلى الله عليه وسلم - : إن القصر في السفر مع الأمن صدقة تصدق الله بها عليكم دليل على أن ذلك توسعة ورخصة ورحمة ، وليس بواجب .

وذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، قال : أما قوله : ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) فإنما ذلك إذا خافوا الذين كفروا ، وسن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الركعتين ، وليستا بقصر ، ولكنهما وفاء .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال : حدثنا يزيد بن إبراهيم ، عن محمد بن سيرين ، قال : أنبئت [ ص: 301 ] أن ابن عباس قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج ما بين مكة والمدينة ، لا يخاف إلا الله ، يقصر الصلاة . ومما يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر وهو آمن غير خائف ، قصره الصلاة في حجته حجة الوداع ، وهو يومئذ قد أمن ، وهذا ما لا يجهله أحد من أهل العلم .

حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي ، قال : حدثنا سليمان بن حرب ، وعارم بن الفضل ، قالا : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس بن مالك ، قال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر بالمدينة أربعا ، والعصر بذي الحليفة ركعتين ، زاد عارم : وبينهما ستة أميال ، قال أنس : وسمعتهم يصرخون بهما جميعا : الحج والعمرة .

وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى عن سفيان ، قال : حدثني محمد بن المنكدر ، وإبراهيم بن ميسرة ، سمعا أنس بن مالك يحدث ، قال : صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة الظهر أربعا ، وصلينا العصر بذي الحليفة ركعتين فاستدلوا [ ص: 302 ] بهذه الآثار على أن القصر في السفر سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس بفريضة ، واحتجوا أيضا بما حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، وسعيد بن نصر ، قالا : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا عبد الله بن روح ، حدثنا عثمان بن عمر ، قال : أخبرنا مالك بن مغول ، عن أبي حنظلة الحذاء ، قال : قلت لابن عمر : أصلي في السفر ركعتين ، والله يقول : إن خفتم ، ونحن نجد الزاد والمزاد ؟ فقال : كذلك سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم فهذا ابن عمر قد صرح بأن القصر سنة من رسول الله لا فريضة من الله ولا من رسوله ، ولو فرضها رسول الله لقال ابن عمر : فرضها ، كما قال في زكاة الفطر ، وقد مضى في هذا المعنى ما فيه كفاية في باب ابن شهاب ، عن رجل من آل خالد بن أسيد من كتابنا هذا .

وقد جاء في هذا الباب عن ابن عباس نحو ما جاء عن ابن عمر : ذكر عبد الرزاق أخبرنا ، ابن جريج ، قال : سأل حميد الضمري ابن عباس ، فقال : إني أسافر ، أفأقصر الصلاة في السفر أم أتمها ؟ فقال ابن عباس : ليس بقصرها ، ولكنه تمامها وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آمنا لا يخاف إلا الله ، فصلى اثنتين حتى رجع ، ثم خرج أبو بكر آمنا لا يخاف إلا الله فصلى ركعتين حتى [ ص: 303 ] رجع ، ثم خرج عمر آمنا لا يخاف إلا الله ، فصلى اثنتين حتى رجع ، ثم فعل ذلك عثمان ثلثي إمارته أو شطرها ، ثم صلاها أربعا ، ثم أخذ بها بنو أمية قال ابن جريج : وبلغني : إنما أوفاها عثمان أربعا بمنى من أجل أن أعرابيا ناداه في مسجد الخيف بمنى ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ما زلت أصليها ركعتين مذ رأيتك عام أول صليتها ركعتين ، فخشي عثمان أن يظن جهال الناس أن الصلاة ركعتان ، وإنما كان أوفاها بمنى فقط .

قال أبو عمر : قد اختلف في المعنى الذي من أجله أتم عثمان الصلاة في سفره إلى مكة وبمكة ، فقال قوم : أخذ بالمباح في ذلك ; إذ للمسافر أن يقصر وأن يتم ، كما كان له أن يصوم وأن يفطر .

ومن ذهب إلى هذا المذهب ، احتج بما قدمنا ذكره من ظاهر الكتاب والسنة ، وبما حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، وسعيد بن نصر ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا المغيرة بن زياد ، عن عطاء ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتم في السفر ويقصر .

[ ص: 304 ] وأخبرنا أحمد بن قاسم ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا الحرث بن أبي أسامة ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، عن عائشة ، قالت : كل قد فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، قد صام وأفطر وأتم وقصر في السفر .

حدثنا أحمد بن سعيد ، حدثنا مسلمة بن قاسم ، حدثنا جعفر بن محمد بن الحسن الأصبهاني ، حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا سليمان بن داود الطيالسي ، حدثنا حبيب بن يزيد الأنماطي ، حدثنا عمرو بن هرم ، عن جابر بن زيد ، قال : قالت عائشة : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين - يعني الفرائض - فلما قدم المدينة ، وفرضت عليه الصلاة أربعا وثلاثا - صلى وترك الركعتين اللتين كان يصليهما بمكة تماما للمسافر .

فهذه عائشة قد اضطربت الآثار عنها في هذا الباب ، وإتمامها في السفر يقضي بصحة ما وافق معناه منها .

وروى زيد العمي عن أنس ، قال : كنا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسافر ، فيتم بعضنا ، ويقصر بعضنا ، ويصوم بعضنا ، ويفطر بعضنا ، ولا يعيب أحد على أحد .

وقال آخرون : إن عثمان إنما أتم في السفر ; لأنه كان له في تلك المناهل أهل ومال ، وهذا موجود في حديث رواه [ ص: 305 ] عكرمة بن إبراهيم الأزدي المرطي ، عن عبد الله بن الحرث بن أبي ذباب ، عن أبيه ، عن عثمان بن عفان ، أنه صلى بأهل منى أربع ركعات ، فلما سلم أقبل على الناس ، فقال : إني تأهلت بمكة ، وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من تأهل في بلدة فهو من أهلها ، فليصل أربعا . فلذلك صليت أربعا . ذكره الطحاوي عن يحيى بن عثمان بن صالح ، عن عمرو بن الربيع بن طارق الهلالي ، وعن إسماعيل بن حمدويه ، عن الحميدي ، عن عبد الله بن عبد الرحمن مولى بني هاشم ، قالا جميعا : أخبرنا عكرمة بن إبراهيم بإسناده - كما ذكرناه . والحرث بن أبي ذباب قد عمل لعمر بن الخطاب على الصدقة ، وقال آخرون : إتمامه إنما كان على نحو إتمام عائشة ، وقد ذكرنا الوجوه التي تئولت على عائشة في إتمامها في باب ابن شهاب عن رجل من آل خالد بن أسيد .

وذكر عبد الرزاق عن معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر ، قال : صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين ، ومع أبي بكر ركعتين ، ومع عمر ركعتين ، ومع عثمان صدرا من خلافته ، ثم صلاها أربعا .

[ ص: 306 ] قال ابن شهاب : فبلغني أن عثمان أيضا صلاها أربعا ; لأنه أزمع أن يقيم بعد الحج .



قال أبو عمر : هذا وجه صحيح مجتمع عليه فيمن نوى الإقامة ، أنه يلزمه الإتمام ، وقال وهيب عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر صلوا بمنى ركعتين ، وعثمان شطر إمارته ، ثم أتمها عثمان أربعا بمنى قال : لأنه اتخذ أموالا بالطائف ، فأجمع المقام فأتم الصلاة ، أما قوله : بالطائف ، فليس بشيء ; لأنه بلد آخر ، وقال معمر عن قتادة : إن عثمان لما صلى أربعا بلغ ذلك ابن مسعود فاسترجع ، ثم قام أربعا ، فقيل له : استرجعت ثم صليت أربعا ؟ قال : الخلاف شر .

وروى أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله ، قال : صلى عثمان بمنى أربعا ، قال : فقال عبد الله : صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ، ومع أبي بكر ركعتين ، ومع عمر ركعتين ، ثم تفرقت بكم الطرق ، ولوددت أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين .

قال الأعمش : فحدثني معاوية بن قرة أن عبد الله صلاها بعد أربعا ، فقيل له : عبت على عثمان وتصلي أربعا ؟ قال : الخلاف شر .

[ ص: 307 ] حدثناه عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا أبو معاوية محمد بن حازم ، قال : حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله ، قال : صلى عثمان - فذكره ، قال : وحدثنا أبي ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أصحابه ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، قال : كنت مع عبد الله بمنى ، فلما صلى عثمان أربعا قال عبد الله : صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا المكان ركعتين ، وصلى أبو بكر ركعتين ، وصلى عمر ركعتين ، قال الأسود : فقلت : يا أبا عبد الرحمن ، ألا سلمت في ركعتين وجعلت الركعتين الأخريين تسبيحا ؟ قال : الخلاف شر .

قال أبو عمر : فهذا يدلك على أن القصر عند ابن مسعود ليس بفرض ، وإنما أنكر مخالفة عثمان الأفضل عنده ; لأن الأفضل عنده اتباع السنة ، ثم رأى اتباع إمامه فيما أبيح له أولى من إتيان الأفضل في القصر ; لأن مخالفة الأئمة لا تجوز إلا فيما لا يحل ، وأما فيما أبيح فلا يجوز فيه مخالفة الأئمة - إذا حملهم على ذلك الاجتهاد - ولعل عثمان ذهب إلى أن اختيار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفره القصر كان لأنه أيسر على أمته ، فاختاره لذلك ، وقالت عائشة : ما خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما الحديث . وهذا لا حجة فيه ; لأن ما اختاره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته وسنه وواظب عليه كان أفضل مما سواه ، ومثل حديث ابن مسعود هذا حديث سلمان : [ ص: 308 ] ذكر عبد الرزاق ، عن اسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ليلى الكندي ، عن سلمان ، أنه كان مع قوم في السفر فحضرت الصلاة ، فقالوا له : صل بنا ، فقال : إنا لا نؤمكم ولا ننكح نساءكم ، فأبى فتقدم رجل من القوم ، فصلى بهم أربع ركعات ، فلما سلم قال سلمان : ما لنا وللمربعة ؟ وإنما كان يكفينا نصف المربعة ونحن إلى الرخصة أحوج . ألا ترى أن سلمان لم يعد الصلاة ، بل تمادى مع إمامه فصلى أربعا ، وإن كان لم يحمد ذلك له ، فهذا يدل على أن القصر عند سلمان رخصة وسنة ، وقد تقدم عن ابن عباس ، وابن عمر أن ذلك سنة .

وحدثنا قاسم بن محمد ، قال : حدثنا خالد بن سعد ، قال : حدثنا أحمد بن عمرو ، قال : حدثنا محمد بن سنجر ، قال : حدثنا هشام بن عبد الملك ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن موسى بن سلمة ، قال : سألت ابن عباس قلت : أكون بمكة فكيف أصلي ؟ قال : ركعتين ، سنة أبي القاسم ، صلى الله عليه وسلم . فحسبك بهذا عن ابن عباس ، وفيه تصريح أن ذلك سنة .

وذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : قلت له : فيم جعل القصر في الخوف وقد أمن الناس ؟ قال : [ ص: 309 ] السنة ، قلت : ورخصة ؟ قال : نعم ، قال : وقال لي عمرو بن دينار مثله . قال : وحدثنا ابن جريج ، عن عطاء ، قال : كان سعد بن أبي وقاص ، وعائشة يوفيان الصلاة في السفر ويصومان ، قال : وسافر نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فأوفى سعد الصلاة وصام ، وقصر القوم وأفطروا ، فقالوا لسعد : كيف نفطر ونقصر الصلاة ، وأنت تتمها وتصوم ؟ فقال : دونكم أمركم ، فإني أعلم بشأني ، قال : فلم يحرمه سعد عليهم ، ولم ينههم عنه ، قال ابن جريج : فقلت لعطاء : فأي ذلك أحب إليك ؟ قال : قصرها ، قال : وكل ذلك قد فعله الصالحون والأخيار .

قال أبو عمر : حديث عطاء هذا وما حكاه عن سعد وعائشة - أعرف من رواية جويرية عن مالك ، عن الزهري ، عن رجل ، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة ، أن سعد بن أبي وقاص ، والمسور بن مخرمة ، وعبد الرحمن بن عبد يغوث كانوا جميعا ، فكان سعد يقصر الصلاة ويفطر ، وكانا يتمان الصلاة ويصومان ، فقيل لسعد في ذلك ، فقال سعد : نحن أعلم . المشهور عن سعد ما ذكره عطاء ، وعلى أي حال كان ، ففيه دليل على إباحة القصر والتمام ، وعلى هذا يخرج اختلاف الرواية عن سعد كأنه كان يتم مرة ويقصر أخرى ، وكذلك كل من روي عنه مثل ذلك من الصحابة ، والله أعلم .

[ ص: 310 ] وروى ابن وهب ، عن ابن لهيعة ، عن بكير بن الأشج ، عن القاسم بن محمد ، أن رجلا قال له : عجبت من عائشة ، كانت تصلي أربعا في السفر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ركعتين ! فقال له القاسم : عليك بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن من الناس من لا يعاب .

وذكر عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أنها كانت تتم في السفر ، قال : وأخبرنا الثوري ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عروة ، عن عائشة أنها كانت تتم في السفر .

قال أبو عمر : رد الذين ذهبوا إلى أن القصر في السفر مع الأمن سنة مسنونة غير فريضة حديث عائشة ، حيث قالت : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، فزيد في صلاة الحضر ، وأقرت صلاة السفر . فردوه بأن قالوا : قد صح عنها أنها كانت تتم في السفر ، وهذا من فعلها يرد قولها ذلك ، وإن صح قولها ذلك عنها ، ولم يدخله الوهم من جهة النقل فهو على غير ظاهره ، وفيه معنى مضمر باطن ، وذلك - والله أعلم - كأنها قالت : فأقرت صلاة السفر لمن شاء ، أو نحو هذا ، قالوا : ولا يجوز على عائشة أن تقر بأن القصر فرض في السفر ، وتخالف الفرض ، هذا ما لا يجوز لمسلم أن ينسبه إليها ، قالوا : وغير جائز تأويل من تأول عليها أن إتمامها كان من أجل أنها كانت أم المؤمنين [ ص: 311 ] فكانت حيثما نزلت على بنيها فلم تقصر ; لأن ذلك كان منها كأنها كانت في بيتها ، وهذا لا يجوز لأحد أن يعتقده ; لأن النبي عليه السلام به صارت عائشة وسائر أزواجه أمهات المؤمنين ، وكان - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين أبا رءوفا رحيما ، وكان يقصر في أسفاره كلها : في غزواته وعمرته وحجته ، صلى الله عليه وسلم .

وفي قراءة أبي بن كعب : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم ، فمما يرد حديث عائشة : إتمامها في أسفارها ، ومما يرده أيضا حديث ابن عباس وغيره : أن الصلاة فرضت في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين وما روي عنها مما قدمنا ذكره في هذا الباب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتم في السفر وقصر وصام وأفطر . ومما يعارضه أيضا : حديث القشيري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : وضع الله عن المسافر الصوم وشطر الصلاة والوضع لا يكون في الأغلب إلا مما قد ثبت فوضع منه .

وفي إجماع الجمهور من الفقهاء على أن المسافر إذا دخل في صلاة المقيمين فأدرك منها ركعة ، أنه يلزمه أن يصلي [ ص: 312 ] أربعا ، فلو كان فرض المسافر ركعتين لم ينتقل فرضه إلى أربع ، كما أن المقيم إذا دخل خلف المسافر لم ينتقل فرضه إلى اثنتين ، وهذا واضح لمن تدبر وأنصف ، قالوا : وكيف يجوز للمسافر أن يكون مخيرا ، إن شاء دخل خلف الإمام المقيم ، فصلى أربعا ، وإن شاء صلى وحده ركعتين ، ولا يكون مخيرا في حال انفراده ، إن شاء صلى ركعتين ، وإن شاء أربعا ؟ قالوا : ولو كان فرض المسافر ركعتين ما جاز له تغيير فرضه بالدخول مع المقيم في صلاته ، ولبطلت صلاته ، كما لو صلى الصبح خلف إمام يصلى الظهر إلى آخرها ، وهذا بين واضح ، والحمد لله .

أخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا محمد بن حاتم ، قال : أخبرنا حبان ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ابن عيينة ، عن أيوب ، عن شيخ من بني قشير ، عن عمه أنه انتهى إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم وهو يأكل - أو قال : يطعم - فقال : ادن فكل ، فقلت : إني صائم ، فقال : إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصيام ، وعن الحبلى والمرضع .

ورواه عبد الله بن الشخير ، وعمرو بن أمية الضمري ، عن النبي عليه السلام ، فأما حديث ابن الشخير فرواه أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن هانئ بن عبد الله بن الشخير عن [ ص: 313 ] أبيه ، عن النبي عليه السلام أنه قدم عليه - فذكر مثل حديث القشيري ، وأما حديث عمرو بن أمية فرواه الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي قلابة ، عن جعفر بن عمرو بن أمية ، عن أبيه ، عن النبي عليه السلام - هكذا حدث به الوليد بن مسلم عن الأوزاعي .

ورواه أبو المغيرة ، ومحمد بن حرب ، عن الأوزاعي ، عن يحيى ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهاجر ، عن أبي أمية الضمري - يعني : عمرو بن أمية ، وكذلك رواه معاوية بن سلام ، عن يحيى بن أبي كثير - بإسناده مثله .

وأخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : أخبرنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا عبدة بن عبد الرحيم ، عن محمد بن شعيب ، قال : أخبرنا الأوزاعي ، عن يحيى ، عن أبي سلمة ، قال : حدثني عمرو بن أمية الضمري قال : قدمت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سفر ، فقال : انتظر الغداء يا أبا أمية ، فقلت : إني صائم ، قال : ادن مني حتى أخبرك عن المسافر ، إن الله وضع عنه الصيام ونصف الصلاة .

حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا [ ص: 314 ] أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا ابن علية ، عن علي بن زيد ، عن أبي نضرة ، قال : مر عمران بن حصين في مجلسنا فقال : غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يصل إلا ركعتين حتى رجع إلى المدينة ، وحججت معه فلم يصل إلا ركعتين حتى رجع إلى المدينة ، وشهدت معه الفتح ، فأقام بمكة ثماني عشرة لا يصلي إلا ركعتين ، ثم يقول لأهل البلد : صلوا أربعا فإنا قوم سفر ، واعتمرت معه ثلاث عمر لا يصلي إلا ركعتين .

فهذا يدلك على أن الإمامة لا تنقل فرضا عن حاله ، ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - لمن خلفه من أهل الحضر : صلوا أربعا فإنا قوم سفر ، وكذلك قال عمر لأهل مكة أيضا حين صلى بهم ثم سلم من ركعتين وقال لهم : أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر .

فلما لم يكن اتباع الإمام يحمل المقيم - إذا صلى خلف المسافر - على أن يجتزئ بركعتين ويقتصر على السلام معه ; لأن كلا على فرضه ، وكان المسافر إذا أدرك ركعة من صلاة المقيم انتقل حكمه إلى حكم المقيم ، ولزمه أن يصلي أربعا - علمنا بذلك أن قصر الصلاة ليس بفرض واجب ; لأنه لو كان فرضا لأضاف المسافر إلى ركعته التي أدركها من صلاة المقيم ركعة أخرى ، واستجزى بذلك ، فلما أجمعوا على غير ذلك علم أن القصر للمسافر سنة لا فرض ، ألا ترى [ ص: 315 ] أنهم قد أجمعوا أنه جائز للمسافر أن يصلي خلف المقيم - من كره ذلك منهم ومن استحسنه - كلهم يجيزه ، وقد أجمعوا على أن المسافر إذا أدرك ركعة من صلاة المقيم لزمه الإتمام ، بل قد قال أكثرهم : إنه إذا أحرم المسافر خلف المقيم قبل سلامه أنه تلزمه صلاة المقيم وعليه الإتمام ، فلو كان القصر فرضا واجبا ما دخل المسافر مع المقيم في صلاته ، والأمر في هذا واضح بين لمن لم يعاند وألهم رشده .

أخبرنا محمد بن عبد الملك ، وعبيد بن محمد ، قالا : حدثنا عبد الله بن مسرور ، قال : حدثنا عيسى بن مسكين ، قال : حدثنا محمد بن سنجر ، قال : حدثنا الفضل بن دكين ، قال : حدثنا شريك ، عن جابر ، عن عامر ، عن ابن عباس ، وابن عمر ، قالا : سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمسافر ركعتين وهما تمام . قالا : والوتر في السفر من السنة ، فهذا ابن عمر وابن عباس قد قالا : إن صلاة المسافر سنة ، كما قالا : إن الوتر في السفر من السنة ، وقد مضى في هذا الباب عن ابن عمر أيضا ، وابن عباس مثل ذلك .

وعن عطاء ، وعمرو بن دينار ، والقاسم بن محمد مثل ذلك ، وقد أشبعنا هذا المعنى عند ذكر حديث ابن شهاب ، عن رجل من آل خالد بن أسيد في كتابنا هذا ، والحمد لله .

[ ص: 316 ] وأما اختلاف الفقهاء في هذا الباب ، فروي عن مالك أنه قال مرة في مسافر أم مقيمين ، فأتم بهم الصلاة - جاهلا - ومنهم المسافر والمقيم ، قال : أرى أن يعيدوا الصلاة جميعا ، وروي عنه أيضا أنه قال : يعيد ما كان في الوقت ، وما مضى وقته فلا إعادة عليه .

وقال ابن المواز في من صلى أربعا ناسيا لسفره ، أو ناسيا لإقصاره ، أو ذاكرا : فليعد في الوقت ، وكذلك قال سحنون فيمن صلى في السفر ناسيا أو ذاكرا - وزاد : أو جاهلا - أربعا : إنه يعيد في الوقت ، وقال ابن المواز : لو افتتح على ركعتين فأتمهما أربعا تعمدا أعاد أبدا ، وإن كان سهوا سجد لسهوه وأجزأه . وقال سحنون : بل يعيد أبدا لكثرة السهو ، وقال ابن المواز : ليس كسهو مجتمع عليه .

وذكر أبو الفرج ، عن مالك ، قال : ومن أتم في السفر أعادها مقصورة ما دام في وقتها إلى أن ينوي مقاما ، فيعيدها كاملة ما دام في وقتها ، قال : ولو صلى مسافر بمسافرين فسها فقام ليتم ، فليجلس من وراءه حتى يسلموا بسلامه ، وعليه إعادة الصلاة ما دام في الوقت ، قال القاضي أبو الفرج : أحسبه أنه ألزم هذا الإعادة ; لأنه سبح به ، فتمادى في صلاته عامدا ، عالما بذلك ، وأما إن كان ساهيا فلا وجه لأمره بالإعادة ; لأنه بمنزلة مقيم [ ص: 317 ] صلى الظهر خمسا ساهيا ، فلم يكن عليه إعادة ، وذكر ابن خواز منداد أن مالكا يقول : إن القصر في السفر مسنون واجب ، وهو قول الشافعي .

قال أبو عمر في قول مالك : إن من أتم الصلاة في السفر لم تلزمه الإعادة إلا في الوقت - دليل على أن القصر عنده ليس بفرض .

وقد حكى أبو الفرج في كتابه عن أبي المصعب ، عن مالك : القصر في السفر للرجال والنساء سنة .

قال أبو الفرج : فلا معنى للاشتغال بالاستدلال على مذهب مالك مع ما ذكره أبو المصعب : أن القصر عنده سنة لا فرض ، قال : ومما يدل على ذلك من مذهبه ، أنه لا يرى الإعادة على من أتم في السفر إلا في الوقت .

قال أبو عمر : فهذا أصح ما في هذه المسألة ، وذلك أصح الأقاويل فيها من جهة النظر والأثر ، وبالله التوفيق .

وأما الشافعي وأبو ثور ، فكانا يقولان : إن شاء المسافر قصر ، وإن شاء أتم ، وذكر أبو سعد القزويني المالكي أن الصحيح في مذهب مالك : التخيير للمسافر في الإتمام والقصر ، كما قال الشافعي ، إلا أنه يستحب له القصر ; ولذلك يرى عليه الإعادة في الوقت إن أتم .

[ ص: 318 ] وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا صلى المسافر أربعا ، فإن كان قعد في كل ركعتين قدر التشهد ، فصلاته تامة ، وإن لم يكن قعد في قدر الركعتين الأوليين قدر التشهد ، فعليه أن يعيد .

قال أبو عمر : هذا على أصولهم في أن التشهد والسلام ليسا بواجبين ، والجلوس مقدار التشهد عندهم واجب ، وبه يخرج عندهم من الصلاة ، وللرد عليهم في ذلك موضع غير هذا .

وقال حماد بن أبي سليمان : من أتم في السفر أعاد ، والإعادة عنده وعند أبي حنيفة - على ما قدمنا من أصولهم - أبدا .

وجاء عن عمر بن عبد العزيز ما يدل على أن القصر في السفر واجب ; لأنه قال : الركعتان للمسافر حتم لا يصلح غيرهما .

واختلف في هذه المسألة عن أحمد بن حنبل ، فقال مرة : أنا أحب العافية من هذه المسألة ، وقال مرة أخرى : لا يعجبني أن يصلي أربعا ، السنة ركعتان . وقد مضى القول في كثير من مسائل هذا الباب في باب ابن شهاب ، عن رجل من آل خالد بن أسيد من كتابنا هذا ، فلا وجه لإعادة ذلك هاهنا .




الخدمات العلمية