الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما قدم أنه المحسن إلى كل شيء بالربوبية ، وختم بالتهديد بالحشر ، [ ص: 344 ] أتبعه التذكير بتخصيصهم بالإحسان ، فقال عاطفا على وهو رب كل شيء مستعطفا لهم إليه بالتذكير بنعمته : وهو أي : لا غيره الذي جعلكم أي : أيها الإنس خلائف الأرض أي : تفعلون فيها فعل الخليفة متمكنين من كل ما تريدونه ، ويجوز أن يراد بذلك العرب ، ويكون ظاهر الكلام أن المراد بالأرض ما هم فيه من جزيرة العرب ، وباطنه البشارة بإعلاء دينهم الإسلام على الدين كله وغلبتهم على أكثر أهل الأرض في هذه الأزمان وعلى جميع أهل الأرض في آخر الزمان ورفع بعضكم في مراقي العقل والعلم والدين والمال والجاه والقوة الحسية والمعنوية فوق بعض درجات أي : مع كونكم من نفس واحدة ، وربما كان الوضيع أعقل من الرفيع ولم ينفعه عقله فيدل ذلك دلالة واضحة على أن ذلك كله إنما هو فعل الواحد القهار ، لا بعجز ولا جهل ولا بخل. ثم علل ذلك بقوله : ليبلوكم أي : يفعل معكم فعل المختبر ؛ ليقيم الحجة عليكم وهو أعلم بكم منكم في ما آتاكم فينظر هل يرحم الجليل الحقير ، ويرضى الفقير بعطائه اليسير ، ويشكر القوي ، ويصبر الضعيف! .

                                                                                                                                                                                                                                      . ولما ذكر علو بعضهم على بعض ، وكان من طبع الآدمي التجبر - أتبعه التهديد للظالم والاستعطاف للتائب بما يشير - بما له - سبحانه - من علو الشأن وعظيم القدرة - إلى ضعف العالي منهم وعجزه عن عقاب السافل بمن يحول بينه وبينه من شفيع وناصر وبما يحتاج إليه من [ ص: 345 ] تمهيد الأسباب ، محذرا من البغي والعصيان ، فقال موجها الخطاب إلى أكمل الخلق تطييبا لقلبه إعلاما بأنه رباه - سبحانه - أجمل تربية وأدبه أحسن تأديب : إن ربك أي : المحسن إليك سريع العقاب أي : لمن يريد عقابه ممن يكفر نعمته لكونه لا حائل بينه وبين من يريد عقابه ولا يحتاج إلى استحضار آلات العقاب ، بل كل ما يريد حاضر لديه عتيد

                                                                                                                                                                                                                                      إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون وفي ذلك تهديد شديد لمن لا يتعظ .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما هدد وخوف - رجى من أراد التوبة واستعطف ، فقال : وإنه لغفور رحيم معلما بأنه - على تمام قدرته عليهم وانهماكهم فيما يوجب الإهلاك - بليغ المغفرة لهم عظيم الرحمة ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة حثا على عفو الرفيع من الوضيع ، وتأكيده الثاني دون الأول ناظر إلى قوله : كتب على نفسه الرحمة (إن رحمتي سبقت غضبي) لأنه في سياق التأديب لهذه الأمة والتذكير بالإنعام عليهم بالاستخلاف ، وسيأتي في الأعراف بتأكيد الاثنين ؛ لأنه في حكاية ما وقع لبني إسرائيل من إسراعهم في الكفر ومبادرتهم إليه واستحقاقهم على ذلك العقوبة ، وجاء ذلك على طريق الاستئناف على تقدير أن قائلا قال : حينئذ [ ص: 346 ] يسرع العالي إلى عقوبة السافل! فأجيب بأن الله فوق الكل وهو أسرع عقوبة ، فهو قادر على أن يسلط الوضيع أو أحقر منه على الرفيع فيهلكه. ثم رغب بعد هذا الترهيب في العفو بأنه على غناه عن الكل أسبل ذيل غفرانه ورحمته بإمهاله العصاة وقبوله اليسير من الطاعات بأنه خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور منافع لهم ثم هم به يعدلون! ولولا غفرانه ورحمته لأسرع عقابه لمن عدل به غيره فأسقط عليهم السماوات وخسف بهم الأرضين التي أنعم عليهم بالخلافة فيها وأذهب عنهم النور وأدام الظلام ، فقد ختم السورة بما به ابتدأها ، فإن قوله : وهو الذي جعلكم خلائف الأرض هو المراد بقوله : هو الذي خلقكم من طين وقوله : أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء هو معنى قوله : خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون والله الموفق .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية