الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[فصل]

في بيان تلبيس إبليس عليهم في هذه الأفعال وإيضاح الخطأ فيها .

قال المصنف : رحمه الله : أما ما نقل عن سهل ففعل لا يجوز لأنه حمل على النفس ما لا تطيق ثم إن الله عز وجل أكرم الآدميين بالحنطة وجعل قشورها لبهائمهم فلا تصلح مزاحمة البهائم في أكل التبن وأي غذاء في التبن ومثل هذه الأشياء أشهر من أن تحتاج إلى رد وقد حكى أبو حامد عن سهل أنه كان يرى أن صلاة الجائع الذي قد أضعفه الجوع قاعدا أفضل من صلاته قائما إذا قواه الأكل .

قال المصنف : رحمه الله : وهذا خطأ بل إذا تقوى على القيام كان أكله عبادة لأنه يعين على العبادة وإذا تجوع إلى أن يصلي قاعدا فقد تسبب إلى ترك الفرائض فلم يجز له ولو كان التناول ميتة ما جاز هذا فكيف وهو حلال ثم أن قربة في هذا الجوع المعطل أدوات العبادة ، وأما قول الحداد وأنا أنظر أن يغلب العلم أم اليقين فإنه جهل محض لأنه ليس بين العلم واليقين تضاد إنما اليقين أعلى مراتب العلم ، وأين من العلم واليقين ترك ما تحتاج إليه النفس من المطعم [ ص: 205 ] والمشرب وإنما أشار بالعلم إلى ما أمره الشرع ، وأشار بالعلم إلى ما أمره الشرع ، وأشار باليقين إلى قوة الصبر وهذا تخليط قبيح ، وهؤلاء قوم شددوا فيما ابتدعوا وكانوا كقريش في تشددهم حتى سموا بالحمس فجحدوا الأصل وشددوا في الفرع ، وقول الآخر ، ملحك مدقوق لست تفلح من أقبح الأشياء وكيف يقال عمن استعمل ما أبيح له لست تفلح وأما سويق الشعير فإنه يورث القولنج وقول الآخر الزبد بالعسل إسراف قول مرذول لأن الإسراف ممنوع منه شرعا وهذا مأذون فيه وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يأكل القثاء بالرطب ، وكان يحب الحلوى والعسل ، وأما ما روينا عن سهل أنه قال قسمت قوتي وعقلي سبعة أجزاء ففعل يذم به ولا يمدح عليه إذ لم يأمر الشرع بمثله وهو إلى التحريم أقرب لأنه ظلم للنفس وترك لحقها وكذلك قول الذي قال : ما أكلت إلى وقت أن يباح لي أكل الميتة : فإنه فعل برأيه المرذول . وحمل على النفس مع وجود الحلال . وقول أبي يزيد : القوت عندنا لله . كلام ركيك فإن البدن قد بني على الحاجة إلى الطعام حتى إن أهل النار في النار يحتاجون إلى الطعام . وأما التقبيح على من أخذ قشر البطيخ بعد الجوع الطويل فلا وجه له والذي طوى ثلاثا لم يسلم من لوم الشرع ، وكذلك الذي عاهد أن لا يأكل حين احتجم حتى وقع في الضعف فإنه فعل ما لا يحل له ، وقول إبراهيم له أحسنتم يا مبتدئون خطأ أيضا فإنه ينبغي أن يلزمه بالفطر ولو كان في رمضان إذ من له أيام لم يأكل وقد احتجم وغشي عليه لا يجوز له أن يصوم .

أخبرنا أبو منصور القزاز ، نا أبو بكر بن ثابت ثني الأزهري ، ثنا علي بن عمر ، ثنا أبو حامد الحضرمي ، ثنا عبد الرحمن بن يونس السواح ، ثنا بقية بن الوليد ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصابه جهد في رمضان فلم يفطر فمات دخل النار .

قال المصنف رحمه الله قلت : كل رجاله ثقات وقد أخبرنا به عاليا محمد بن عبد الباقي ، نا أبو يعلى محمد بن الحسين ، نا علي بن عمر السكري ، ثنا أحمد بن محمد الأسدي ، ثنا عبد الرحمن بن يونس فذكره وقال : من أصابه جهد في رمضان فلم يفطر دخل النار .

قال المصنف رحمه الله : وأما تقليل ابن خفيف ففعل قبيح لا يستحسن وما [ ص: 206 ] يورد هذا الأخبار عنهم إيرادا مستحسنا لها إلا جاهل بأصول الشرع ، فأما العالم المتمكن فإنه لا يهوله قول معظم فكيف بفعل جاهل مبرسم ، وأما كونهم لا يأكلون اللحم فهذا مذهب البراهمة الذين لا يرون ذبح الحيوان والله عز وجل أعلم بمصالح الأبدان فأباح اللحم لتقويتها فأكل اللحم يقوي القوة وتركه يضعفها ويسيء الخلق ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل اللحم ويحب الذارع من الشاة ودخل يوما فقدم إليه طعام من طعام البيت فقال : لم أر لكم برمة تفور ، وكان الحسن البصري يشتري كل يوم لحما ، وعلى هذا كان السلف إلا أن يكون فيهم فقير فيبعد عهده باللحم لأجل الفقر ، وأما من منع نفسه الشهوات فإن هذا على الإطلاق لا يصلح لأن الله عز وجل لما خلق بني آدم على الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة وجعل صحته موقوفة على تعادل الأخلاط الدم والبلغم والمرة الصفراء والمرة السوداء فتارة يزيد بعض الأخلاط فتميل الطبيعة إلى ما ينقصه مثل أن تزيد الصفراء فيميل الطبع إلى الحموضة أو ينقص البلغم فتميل النفس إلى المرطبات فقد ركب في الطبع الميل إلى ما تميل إليه النفس وتوافقه فإذا مالت النفس إلى ما يصلحها فمنعت فقد قوبلت حكمة الباري سبحانه وتعالى يردها ثم يؤثر ذلك في البدن فكان هذا الفعل مخالفا للشرع والعقل ، ومعلوم أن البدن مطية الآدمي ومتى لم يرفق بالمطية لم تبلغ ، وإنما قلت علوم هؤلاء فتكلموا بآرائهم الفاسدة فإن أسندوا فإلى حديث ضعيف أو موضوع أو يكون فهمهم منه رديئا ، ولقد عجبت لأبي حامد الغزالي الفقيه كيف نزل مع القوم من رتبة الفقه إلى مذاهبهم حتى إنه قال لا ينبغي للمريد إذا تاقت نفسه إلى الجماع أن يأكل ويجامع فيعطي نفسه شهوتين فتقوى عليه .

قال المصنف رحمه الله : وهذا قبيح في الغاية فإن الإدام شهوة فوق الطعام فينبغي أن لا يأكل إداما والماء شهوة أخرى . أوليس في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه بغسل واحد فهلا اقتصر على شهوة واحدة . أو ليس في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل القثاء بالرطب وهاتان شهوتان . أوما أكل عند أبي الهيتم بن التهان خبزا وشواء وبسرا وشرب ماء باردا ، أو ما كان الثوري يأكل اللحم والعنب والفالوج ثم يوم ما تعلف الفرس الشعير والتبن والقت . وتطعم الناقة الخبط والحمض . وهل البدن إلا ناقة وإنما نهى بعض [ ص: 207 ] القدماء عن الجمع بين إدامين على الدوام لئلا يتخذ ذلك عادة فيحوج إلى كلفة وإنما تجتنب فضول الشهوات لئلا يكون سببا لكثرة الأكل وجلب النوم . ولئلا تتعود فيقل الصبر عنها فيحتاج الإنسان إلى تضييع العمر في كسبها وربما تناولها من غير وجهها . وهذا طريق السلف في ترك فضول الشهوات . والحديث الذي احتجوا به احرموا أنفسكم طيب الطعام حديث موضوع عملته يدا بزيغ الراوي . وأما إذا اقتصر الإنسان على خبز الشعير والملح الجريش فإنه ينحرف مزاجه لأن خبز الشعير يابس مجفف والملح يابس قابض يضر الدماغ والبصر ، وتقليل المطعم يوجب تنشيف المعدة وضيقها وقد حكى يوسف الهمداني عن شيخه عبد الله الحوفي أنه كان يأكل خبز البلوط بغير إدام وكان أصحابه يسألونه أن يأكل شيئا من الدهن والدسومات فلا يفعل .

قال المصنف : رحمه الله : وهذا يورث القولنج الشديد . واعلم أن المذموم من الأكل إنما هو فرط الشبع وأحسن الآداب في المطعم أدب الشارع صلى الله عليه وسلم أخبرنا ابن الحصين ، نا ابن المذهب ، نا أبو بكر بن حمكان ، ثنا عبد الله بن أحمد ثني أبي ثنا أبو المغيرة ، ثنا سليمان بن سليم الكناني ، ثنا يحيى بن جابر الطائي . قال سمعت المقدام بن معدي كرب يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه . حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه . فإن كان لا بد فثلث طعام وثلث شراب وثلث لنفسه .

قال المصنف : رحمه الله قلت : فقد أمر الشرع بما يقيم النفس حفظا لها وسعيا في مصلحتها . ولو سمع أبقراط هذه القسمة في قوله . ثلث وثلث وثلث لدهش من هذه الحكمة لأن الطعام والشراب يربوان في المعدة فيتقارب ملئها فيبقى للنفس من الثلث قريب فهذا أعدل الأمور فإن نقص منه قليلا لم يضر وإن زاد النقصان أضعف القوة وضيق المجاري على الطعام .

التالي السابق


الخدمات العلمية