الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 1448 ] 278 - فصل

                          [ رد شيخ الإسلام على شبهة في قتل ابن الأشرف ]

                          قال شيخنا : وقد عرض لبعض السفهاء شبهة في قتل ابن الأشرف فظن أن دم مثل هذا معصوم بذمة أو بظاهر الأمان ، وذلك نظير الشبهة التي عرضت لبعض الفقهاء حين ظن أن العهد لا ينتقض بذاك .

                          فروى ابن وهب : أخبرني سفيان بن عيينة ، عن عمر بن سعيد أخي سفيان بن سعيد الثوري ، عن أبيه ، عن عباية قال : ذكر قتل ابن الأشرف عند معاوية ، فقال ابن يامين : كان قتله غدرا ، فقال محمد بن مسلمة : يا معاوية أيغدر عندك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تنكر ؟ والله لا يظلني وإياك سقف بيت أبدا ، ولا يخلو لي دم هذا إلا قتلته .

                          قال الواقدي : حدثني إبراهيم بن جعفر ، عن أبيه قال : قال مروان بن [ ص: 1449 ] الحكم - وهو على المدينة وعنده ابن يامين النضري - : كيف كان قتل ابن الأشرف ؟ فقال ابن يامين : كان غدرا ، ومحمد بن مسلمة جالس وهو شيخ كبير ، فقال يا مروان : أيغدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عندك ؟ والله ما قتلناه إلا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله لا يؤويني وإياك سقف بيت إلا المسجد ، وأما أنت يا ابن يامين فلله علي إن أفلت ، وقدرت عليك وفي يدي سيف إلا ضربت به رأسك ، فكان ابن يامين لا ينزل [ في ] بني قريظة حتى يبعث رسولا ينظر محمد بن مسلمة ، فإن كان في بعض ضياعه نزل فقضى حاجته ، وإلا لم ينزل ، فبينما محمد في جنازة وابن يامين بالبقيع فرأى محمدا [ نعشا ] عليه جرائد [ رطبة لامرأة جاء فحله ] فقام إليه الناس فقالوا : يا أبا عبد الرحمن ما تصنع ؟ نحن نكفيك ، فقام إليه فجعل يضربه بها جريدة جريدة حتى كسر ذلك الجريد على وجهه ورأسه حتى لم يترك به مصحا ، ثم أرسله ولا طباخ به ، ثم قال : والله لو قدرت على السيف لضربتك به .

                          قلت : ونظير هذا ما حصل لبعض الجهال بالسنة من بنائه بصفية عقيب سبائه لها ، فقال : بنى بها قبل استبرائها ، وهذا من جهله وكفره ، أو من أحدهما ، فإن في الصحيح : " فلما [ ص: 1450 ] انقضت عدتها بنى بها " .

                          فإن قيل : فإذا كان هو وبنو النضير قبيلته موادعين فما معنى ما ذكره ابن إسحاق ؟ قال : حدثني مولى لزيد بن ثابت قال : حدثتني ابنة محيصة عن أبيها محيصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عقيب ذلك : " من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه " فوثب محيصة بن مسعود على ابن سنينة - رجل من تجار اليهود كان يلابسهم ويبايعهم - فقتله ، وكان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم ، وكان أسن من محيصة ، فلما قتله جعل حويصة يضربه ، ويقول : أي عدو الله قتلته ، أما والله لرب شحم في بطنك من ماله ! فقال : والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لقتلتك ، فقال حويصة : والله إن دينا بلغ منك هذا لعجب ، فكان هذا أول إسلام حويصة .

                          [ ص: 1451 ] وقال الواقدي بالأسانيد المتقدمة : قالوا : فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليلة التي قتل فيها ابن الأشرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه " . فخافت يهود فلم تطلع عظيما من عظمائهم ، وخافوا أن يبيتوا كما بيت ابن الأشرف ، وذكر قتل ابن سنينة إلى أن قال : " وفزعت يهود ومن معها من المشركين " وساق القصة كما تقدم .

                          فإن هذا يدل على أنهم لم يكونوا موادعين ، وإلا لما أمر بقتل من وجد منهم ، ويدل على أن العهد الذي كتبه بينه وبين اليهود كان بعد قتل ابن الأشرف .

                          وحينئذ ، فلا يكون ابن الأشرف معاهدا .

                          فالجواب : أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بقتل من ظفر به من اليهود ؛ لأن كعب بن الأشرف كان من ساداتهم ، وقد تقدم أنه قال : ما عندكم في أمر محمد ؟ قالوا : عداوته ما حيينا ، وكانوا مقيمين خارج المدينة فعظم عليهم قتله ، وكان مما هيجهم على المحاربة وإظهار نقض العهد انتصارهم للمقتول وذبهم عنه ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل من جاء منهم ؛ لأن مجيئه دليل على نقض العهد وانتصاره [ ص: 1452 ] للمقتول ، وأما من قر فهو مقيم على عهده المتقدم ؛ لأنه لا يظهر العداوة ولهذا لم يحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحاربهم حتى أظهروا عداوته بعد ذلك .

                          وأما هذا الكتاب فهو شيء ذكره الواقدي وحده .

                          وقد ذكر هو أيضا أن قتل ابن الأشرف كان في شهر ربيع الأول سنة ثلاث ، وأن غزوة بني قينقاع كانت قبل ذلك في شوال سنة اثنتين بعد بدر بنحو شهر .

                          وذكر أن الكتاب الذي وادع فيه النبي صلى الله عليه وسلم اليهود كلها كان لما قدم المدينة بعد بدر ، وعلى هذا فيكون هذا كتابا ثانيا خاصا لبني النضير يجدد فيه العهد الذي بينه وبينهم غير الكتاب الأول الذي كتبه بينه وبين جميع اليهود لأجل ما كانوا قد أرادوا من إظهار العداوة .

                          وقد تقدم أن ابن الأشرف كان معاهدا ، وتقدم أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب الكتاب لما قدم المدينة في أول الأمر ، والقصة تدل على ذلك ، وإلا لما جاء اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشكوا إليه قتل صاحبهم ، وإلا فلو كانوا محاربين له لم يستنكروا قتله ، وكلهم ذكروا أن قتل ابن الأشرف كان بعد بدر ، فإن معاهدة النبي صلى الله عليه وسلم كانت قبل بدر كما ذكره الواقدي .

                          [ ص: 1453 ] قال ابن إسحاق : وكان فيما بين ذلك من غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بني قينقاع ، يعني فيما بين بدر وغزوة الفرع من العام المقبل في جمادى الأولى .

                          وقد ذكر أن بني قينقاع هم أول من حارب ونقض العهد .

                          قلت : اليهود الذين حاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع طوائف : بنو قينقاع ، وبنو النضير ، وقريظة ، ويهود خيبر . وكانت غزوة كل طائفة عقيب غزوة من غزواته للمشركين ، وكانت بنو قينقاع بعد بدر ، وبنو النضير بعد أحد ، وبنو قريظة بعد الخندق ، وأهل خيبر بعد الحديبية ، فكان الظفر لكل واحدة من هؤلاء الطوائف كالشكران للغزاة التي قبلها ، والله أعلم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية