الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء

( ( واحذر من الخوض الذي قد يزري بفضلهم مما جرى لو تدري ) )      ( ( فإنه عن اجتهاد قد صدر
فاسلم أذل الله من لهم هجر ) )

[ ص: 386 ] ( ( واحذر ) ) حذر إذعان وتسليم مع سلامة صدر وامتثال أمر النبي الكريم ( ( من الخوض ) ) المفضي إلى التوسع والتنقيب والتبجح والتأنيب ( ( الذي قد يزري ) ) وينقص ويحط ( ( بفضلهم ) ) المعلوم من الكتاب والسنة عند ذوي العلوم مما ذكرنا فيما تقدم شذرة صالحة منه ( ( مما ) ) أي من الاختلاف والتخاصم والتشاجر الذي ( ( جرى ) ) بينهم ( ( لو ) ) كنت ( ( تدري ) ) غب ذلك الخوض المفضي إلى توليد الإحن وحزازات القلوب والحقد على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك من أعظم الذنوب ، فإنهم خير القرون ، وهم السابقون الأولون ، وذلك أنه جرى بين علي ومعاوية وقبلهما وبعدهما من المنازعات والمقاتلات ما لو صدرت من سواهم ، أو كانت من غيرهم لم تقصر عن التفسق ، فضلا عن غيره ، والجواب عن ذلك ما أشير إليه بقوله ( ( فإنه ) ) أي التخاصم والنزاع والتقاتل والدفاع الذي جرى بينهم ، كان ( ( عن اجتهاد قد صدر ) ) من كل واحد من رءوس الفريقين ، ومقصد سائغ لكل فرقة من الطائفتين ، وإن كان المصيب في ذلك للصواب واحدا ، وهو علي رضوان الله عليه ومن والاه ، والمخطئ هو من نازعه وعاداه ، غير أن للمخطئ في الاجتهاد أجرا وثوابا ، خلافا لأهل الجفاء والعناد ، فكل ما صح مما جرى بين الصحابة الكرام وجب حمله على وجه ينفي عنهم الذنوب والآثام ، فمقاولة علي مع العباس - رضي الله عنهما - لا تقضي إلى شين ، وتقاعد علي - رضوان الله عليه - عن مبايعة الصديق الأعظم في بدء الأمر كان لأحد أمرين : إما لعدم مشورته كما عتب عليه بعد ذلك ، وإما وقوفا مع خاطر سيدة نساء العالم فاطمة البتول - عليها السلام - مما ظنت أنه لها ، وليس الأمر كما هنالك ، ثم إن عليا بايع الصديق - رضي الله عنهما - على رءوس الأشهاد ، فاتحدت الكلمة ولله الحمد وحصل المراد ، وتوقف علي - رضي الله عنه - عن الاقتصاص من قتلة عثمان ، إما لعدم العلم بالقاتل ، وإما خشية تزايد الفساد والطغيان ، وكانت عائشة وطلحة والزبير ومعاوية - رضي الله عنهم - ومن اتبعهم ما بين مجتهد ومقلد في جواز محاربة أمير المؤمنين ، سيدنا أبي الحسنين ، الأنزع البطين - رضوان الله عليه - وقد اتفق أهل الحق أن المصيب في تلك الحروب والتنازع [ ص: 387 ] أمير المؤمنين علي - رضوان الله عليه - من غير شك ولا تدافع ، والحق الذي ليس عنه نزول أنهم كلهم - رضوان الله عليهم - عدول ، لأنهم متأولون في تلك الخصومات ، مجتهدون في هاتيك المقاتلات ، فإنه وإن كان الحق على المعتمد عند أهل الحق واحدا ، فالمخطئ مع بذل الوسع وعدم التقصير مأجور لا مأزور ، وسبب تلك الحروب اشتباه القضايا ، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم ، وصاروا ثلاثة أقسام : قسم ظهر لهم اجتهادا أن الحق في هذا الطرف ، وأن مخالفه باغ فوجب عليهم نصرة المحق ، وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه ، ففعلوا ذلك ، ولم يكن لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة الإمام العادل في قتال البغاة في اعتقاده ، وقسم عكسه سواء بسواء ، وقسم ثالث اشتبهت عليهم القضية ، فلم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين ، فاعتزلوا الفريقين ، وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم ، لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر ما يوجب ذلك ، وبالجملة فكلهم معذورون ومأجورون لا مأزورون ، ولهذا اتفق أهل الحق ممن يعتد به في الإجماع على قبول شهاداتهم ورواياتهم ، وثبوت عدالتهم ، ولهذا قال علماؤنا كغيرهم من أهل السنة ومنهم ابن حمدان في نهاية المبتدئين : يجب حب كل الصحابة ، والكف عما جرى بينهم كتابة وقراءة وإقراء وسماعا وتسميعا ، ويجب ذكر محاسنهم ، والترضي عنهم ، والمحبة لهم ، وترك التحامل عليهم ، واعتقاد العذر لهم ، وأنهم فعلوا ما فعلوا باجتهاد سائغ لا يوجب كفرا ولا فسقا ، بل ربما يثابون عليه ، لأنه اجتهاد سائغ ، ثم قال : وقيل : المصيب علي ، ومن قاتله فخطؤه معفو عنه . وإنما نهى عن الخوض في النظم ، لأن الإمام أحمد كان ينكر على من خاض ، ويسلم أحاديث التفاضل ، وقد تبرأ - رضي الله عنه - ممن ضللهم أو كفرهم ، وقال : السكوت عما جرى بينهم . وقال بعض المحققين : البحث عن أحوال الصحابة - رضوان الله تعالى عنهم أجمعين - وعما جرى بينهم من الموافقة والمخالفة ليس من العقائد الدينية ، ولا من القواعد الكلامية ، وليس هو مما ينتفع به في الدين ، بل ربما أضر باليقين ، وإنما ذكر العلماء نتفا في كتبهم ، صونا للقاصرين عن التأويل عن اعتقاد ظواهر حكايات الرافضة ورواياتها ، ليتجنب من لا يصل إلى [ ص: 388 ] حقيقة علمها ، ولأن الخوض في ذلك إنما يصلح للتعليم ، وللرد على المتعصبين ، أو لتدريس كتب تشتمل على تلك الآثار ، فيؤول ذلك ، ويبينه للعوام ، لفرط جهلهم بالتأويل مع أن غالب أو كل ما يحكيه الرافضة موضوع ، وأكثره باطل مصنوع ، فلا جرم السلامة في التسليم ، وكف اللسان عن هذا المدخل الضيق العظيم ، ولهذا قال : ( ( فاسلم ) ) من الخوض في تلك البحور ، واحذر من العثار في ذلك الغطش الديجور ، فإن من قارب الفتنة افتتن ، ومن تعرض بدينه للشبهات والشهوات اختبن ، ثم إن الناظم دعا على طائفة الجفاء والفجور وأهل الرفض والضلال ممن حاد عن الأمر المأمور ، فقال : ( ( أذل الله ) ) - سبحانه وتعالى - وقد فعل ( ( من ) ) كل مبتدع من الرافضة ومن وافقهم ( ( لهم ) ) أي للصحابة الكرام أو لبعضهم ( ( هجر ) ) وعادى ولم يوال ويحب .

وقد روى الديلمي عن أنس رضي الله تعالى عنه : " إذا أراد الله تعالى برجل من أمتي خيرا ألقى حب أصحابي في قلبه " . وأخرج الترمذي من حديث عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - مرفوعا : " الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضا بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله تعالى ، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه " . والذي أجمع عليه أهل السنة والجماعة أنه يجب على كل أحد تزكية جميع الصحابة ، بإثبات العدالة لهم ، والكف عن الطعن فيهم ، والثناء عليهم ، فقد أثنى الله سبحانه عليهم في عدة آيات من كتابه العزيز ، على أنه لو لم يرد عن الله ولا عن رسوله فيهم شيء لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة ، والجهاد ، ونصرة الدين ، وبذل المهج والأموال ، وقتل الآباء والأولاد ، والمناصحة في الدين ، وقوة الإيمان واليقين ، القطع بتعديلهم ، والاعتقاد لنزاهتهم ، وأنهم أفضل جميع الأمة بعد نبيهم ، هذا مذهب كافة الأمة ، ومن عليه المعول من الأئمة ، وأما من شذ من أهل الزيغ والابتداع ، ممن ضل وأضل فلا التفات إليهم ولا معول عليهم ، ولهذا قال الإمام أبو زرعة العراقي - من أجل شيوخ مسلم - : إذا رأيت الرجل ينتقص [ ص: 389 ] أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه زنديق ، وذلك أن القرآن حق ، والرسول حق ، وما جاء به حق ، وما أدى إلينا ذلك كله إلا الصحابة ، فمن جرحهم إنما أراد إبطال الكتاب والسنة ، فيكون الجرح به أليق ، والحكم عليه بالزندقة والضلال أقوم وأحق . وقال ابن حزم : الصحابة كلهم من أهل الجنة قطعا قال تعالى : ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ) وقال تعالى : ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ) فثبت أن جميعهم من أهل الجنة . والحاصل أنه لا يهجر الصحابة ويعاديهم إلا عدو لله مبعود من رحمة الله خبيث زنديق ، والله ولي التوفيق .

قال العلامة ابن حمدان في نهاية المبتدئين : من سب أحدا من الصحابة مستحلا كفر ، وإن لم يستحل فسق ، وعنه : يكفر مطلقا ، وإن فسقهم أو طعن في دينهم أو كفرهم كفر ، والله تعالى أعلم . ولما أنهى الكلام عن الصحابة الكرام ، حسبما يقتضيه المقام ، وإن كان ما ذكر في جنب ما سكت عنه كقطرة من بحر طام ، وذبالة من نور عام ؛ ذكر التابعين لهم بإحسان ، ثم تابعيهم كما قال خير الأنام ، فقال :

التالي السابق


الخدمات العلمية