الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

      الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

      صفحة جزء
      طبقة أخرى من أئمة الإسلام وعلماء السنة

      قال أبو أحمد العسال في باب تفسير قوله تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) ، فساق ما ورد فيه من أقوال السلف وأئمتهم وحديث ابن مسعود ، وقد مر .

      [ ص: 198 ] وقال أبو بكر الصبغي في قوله تعالى : ( من في السماء ) أي من على العرش كما صحت الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم . وقال أبو القاسم الطبراني في كتاب السنة : باب ما جاء في استواء الله على عرشه بائنا من خلقه ، فساق في الباب حديث أبي رزين العقيلي ، وحديث الأوعال وغيرهما من أحاديث العلو . وقال أبو بكر الآجري : الذي يذهب إليه أهل العلم أن الله - تعالى - على عرشه فوق سماواته ، وعلمه محيط بكل شيء ، قد أحاط بجميع ما خلق في السماوات العلى ، وبجميع ما خلق في سبع أرضين ، يرفع إليه أعمال العباد .

      وقال أبو الشيخ في كتاب العظمة له : ذكر عرش الرب - تبارك وتعالى - وكرسيه وعظم خلقهما ، وعلو الرب فوق عرشه ، وساق جملة أحاديث في ذلك . وقال أبو بكر الإسماعيلي : استوى على العرش بلا كيف ، فإنه انتهى إلى أنه استوى على العرش ولم يذكر كيف كان استواؤه . وقال الأستاذ أبو منصور الأزهري : الله - تعالى - على العرش .

      وقال أبو الحسن بن مهدي - رحمه الله - في قوله تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) : اعلم أن الله - تعالى - في السماء فوق كل شيء ، مستو على العرش بمعنى أنه عال عليه ، ومعنى الاستواء الاعتلاء . وإنما أمرنا الله - تعالى - برفع أيدينا قاصدين إليه برفعها نحو العرش الذي هو مستو عليه .

      وقال ابن بطة - رحمه الله : باب الإيمان بأن الله - تعالى - على عرشه ، بائن من خلقه ، وعلمه محيط بخلقه ، أجمع المسلمون من الصحابة والتابعين أن الله على عرشه فوق سماواته ، بائن من خلقه . وقال الدارقطني رحمه الله تعالى :


      حديث الشفاعة في أحمد إلى أحمد المصطفى نسنده     وأما حديث بإقعاده
      على العرش أيضا فلا نجحده     أمروا الحديث على وجهه
      ولا تدخلوا فيما يفسده



      [ ص: 199 ] وقال ابن منده رحمه الله تعالى : فهو - تعالى - موصوف غير مجهول ، وموجود غير مدرك ، ومرئي غير محاط به لقربه كأنك تراه ، وهو يسمع ويرى ، وهو بالمنظر الأعلى وعلى العرش استوى ، فالقلوب تعرفه ، والعقول لا تكيفه ، وهو بكل شيء محيط . وقال محمد بن أبي زيد المغربي : وأنه - تعالى - فوق عرشه المجيد بذاته ، وأنه في كل مكان بعلمه . قلت : وقد أطلق هذه العبارة أعني قوله " بذاته " أبو جعفر بن أبي شيبة ، والدارمي ، ويحيى بن عمار ، وأبو نصر السجزي ، وابن عبد البر ، وشيخ الإسلام الأنصاري ، وأبو الحسن الكرجي ، وأحمد بن ثابت الطرقي ، وعبد العزيز القحيطي ، وعبد القادر الجبلي ، وطائفة .

      وقال ابن فورك - رحمه الله : استوى بمعنى علا ، وقال في قوله ( أأمنتم من في السماء ) : أي من فوق السماء . وقال ابن الباقلاني في إبانته : فإن قيل : فهل تقولون إنه في كل مكان ؟ قيل : معاذ الله ، بل هو مستو على عرشه ، كما أخبر في كتابه ، فقال تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) ، وقال : ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) ، وقال : ( أأمنتم من في السماء ) . . . إلى آخر كلامه .

      وقال أبو أحمد القصاب في عقيدته : كان ربنا - عز وجل - وحده لا شيء معه ، ولا مكان يحويه ، فخلق كل شيء بقدرته ، وخلق العرش لا لحاجة إليه ، فاستوى عليه استواء استقرار كيف شاء وأراد ، لا استقرار راحة كما يستريح الخلق . قلت : تفسير الاستواء بالاستقرار لم يرد في الكتاب ولا السنة ، ونحن لا نصف الله إلا بما ثبت في الكتاب والسنة ، لا نزيد عليه ولا ننقص منه .

      وقال الحافظ أبو نعيم رحمه الله تعالى : طريقنا طريقة السلف المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة ، ومما اعتقدوه أن الله لم يزل كاملا بجميع صفاته القديمة ، لا يزول ولا يحول ، لم يزل عالما بعلم ، بصيرا ببصر ، سميعا بسمع ، متكلما بكلام . . . إلى أن قال : وأن الأحاديث التي ثبتت في العرش واستواء الله عليه يقولون بها ، ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل ، وأن الله بائن من خلقه ، والخلق بائنون منه ، لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم ، وهو مستو على عرشه في سمائه دون أرضه . وقال معمر بن زياد في أثناء وصيته : وأن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ، ولا تمثيل ولا [ ص: 200 ] تأويل ، والاستواء معقول ، والكيف مجهول ، وأنه بائن من خلقه ، والخلق بائنون منه ، وذكر سائر الاعتقاد .

      وقال أبو القاسم اللالكائي في قوله تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) : وأن الله على عرشه ، قال الله عز وجل : ( إليه يصعد الكلم الطيب ) ، وقال : ( أأمنتم من في السماء ) ، وقال : ( وهو القاهر فوق عباده ) ، فدلت هذه الآيات أنه في السماء ، وعلمه في كل مكان . روي ذلك عن عمر ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأم سلمة ، ومن التابعين : ربيعة ، وسليمان التيمي ، ومقاتل بن حيان ، وبه قال مالك ، والثوري ، وأحمد .

      وقال يحيى بن عمار : هو بذاته على العرش ، وعلمه محيط بكل شيء ، وعلمه وسمعه وبصره وقدرته مدركة لكل شيء ، وذلك معنى قوله تعالى : ( وهو معكم أين ما ) ، فهذا الذي قلناه كما قال الله تعالى ، وقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت : لفظة " بذاته " مستغنى عنها بصريح النصوص الكافية الوافية .

      وقال القادر بالله أمير المؤمنين في معتقده المشهور : وأنه خلق العرش لا لحاجة ، واستوى عليه كيف شاء لا استواء راحة ، وكل صفة وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهي صفة حقيقة لا صفة مجاز . وقال أبو عمرو الطلمنكي رحمه الله تعالى : أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى : ( وهو معكم أين ما ) ، ونحو ذلك من القرآن أنه علمه ، وأن الله - تعالى - فوق السماوات بذاته ، مستو على عرشه كما نطق به كتابه ، وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف لم يختلفوا أن الله على عرشه فوق سماواته .

      وقال أبو نصر السجزي : أئمتنا كسفيان الثوري ، ومالك ، وحماد بن سلمة ، وحماد بن زيد ، وسفيان بن عيينة ، والفضيل ، وابن المبارك ، وأحمد ، وإسحاق متفقون على أن الله - سبحانه - بذاته فوق العرش ، وعلمه بكل مكان . وقال أبو عمرو الداني في أرجوزته التي في عقود الديانة :


      كلامه وقوله قديم     وهو فوق عرشه العظيم

      .

      وقال أبو عمر بن عبد البر في شرح حديث النزول : هذا حديث صحيح لم [ ص: 201 ] يختلف أهل الحديث في صحته ، وفيه دليل أن الله - تعالى - في السماء على العرش ، فوق سبع سماوات كما قالت الجماعة . وقال أيضا : أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل ، قالوا في تأويل قوله تعالى : (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) : هو على العرش ، وعلمه في كل مكان ، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله .

      وقال أبو يعلى - رحمه الله - بعد أن ذكر حديث الجارية : الكلام في هذا الخبر في فصلين :

      أحدهما : جواز السؤال عن الله - سبحانه - بأين هو ؟ .

      والثاني : جواز الإخبار عنه بأنه في السماء . وقد أخبرنا - تعالى - بأنه في السماء ، فقال : ( أأمنتم من في السماء ) وهو على العرش . وقال أبو بكر البيهقي - رحمه الله تعالى - في كتاب المعتقد له : باب القول في الاستواء ، قال الله تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) ، وقال : ( ثم استوى على العرش ) ، ( وهو القاهر فوق عباده ) ، ( يخافون ربهم من فوقهم ) ، ( إليه يصعد الكلم الطيب ) ، ( أأمنتم من في السماء ) ، وأراد من فوق السماء كما قال تعالى : ( في جذوع النخل ) ، وقال : ( فسيحوا في الأرض ) أي على الأرض ، وكل ما علا فهو سماء ، والعرش أعلى السماوات ، فمعنى الآية : أأمنتم من على العرش كما صرح به في سائر الآيات .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية