الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 199 ] ( حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن محمد بن المنكدر عن عروة عن عائشة قالت : استأذن رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا عنده ) قيل : اسم هذا الرجل عيينة بن حصن الفزاري ، وقيل هو مخرمة ولا يبعد تعدد القضية ولم يكن أسلم حينئذ وإن كان قد أسلم ظاهرا ( فقال بئس ابن العشيرة أو أخو العشيرة ) كذا في الأصل ، وفي بعض النسخ المصححة أو أخو العشيرة ، والعشيرة القبيلة أي : بئس هذا الرجل من هذه القبيلة فإضافة الابن أو الأخ إليها كإضافة الأخ للعرب في يا أخا العرب ومنه قوله تعالى وإلى عاد أخاهم هودا وأو للشك ويحتمل أن يكون الشك من سفيان فإن جميع أصحاب المنكدر رووه عنه بدون الشك ولا يبعد أن يكون أو للتخيير أو بمعنى الواو لما في رواية البخاري ( بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة ) من غير شك فقيل المقصود إظهار حاله ليعرفه الناس ولا يغتروا به فلا يكون غيبة ، وقيل كان مجاهرا بسوء فقاله ولا غيبة للفاسق المعلن وسيأتي زيادة تحقيق لحاله ( ثم أذن له ) أي : بالدخول ( فألان له القول ) أي : بعد دخوله ، وفي رواية البخاري تطلق في وجهه وانبسط إليه ( فلما خرج قلت : يا رسول الله قلت ما قلت ) أي : في غيبته ( ثم ألنت له القول ) أي : عند معاينته ( فقال يا عائشة إن شر الناس ) وفي نسخة صحيحة " إن من شر الناس " ( من تركه الناس أو ودعه الناس ) شك من سفيان والدال [ ص: 200 ] مخففة كما قرئ به في قوله تعالى ما ودعك ربك شاذا فلا ينافي قول الصرفيين وأمات العرب ماضي يدع ؛ لأن المراد بإماتته ندرته فهو شاذ استعمالا صحيح قياسا ، وقوله ( اتقاء فحشه ) نصب على العلة ، والمعنى أنني إنما تركت الانقباض في وجهه اتقاء فحشه ، وفي رواية البخاري ( متى عهدتني فحاشا إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره ) ففيه دليل على مداراة من يتقى فحشه ) ، ولذا قيل ( ودارهم ما دمت في دارهم وأرضهم ما دمت في أرضهم ) .

، وفي المواهب اللدنية أن الرجل هو عيينة بن حصن الفزاري ، وكان يقال له الأحمق المطاع ، كذا فسره به القاضي عياض والقرطبي والنووي وأخرج عبد الغني من طريق أبي عامر الخزاعي عن عائشة قالت : جاء مخرمة بن نوفل يستأذن فلما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - صوته قال : ( بئس أخو العشيرة ) الحديث وإنما تطلق - صلى الله عليه وسلم - في وجهه تألفا له ليسلم قومه ؛ لأنه كان رئيسهم ، وقد جمع هذا الحديث كما قاله الخطابي علما وأدبا وليس قوله عليه السلام في أمته بالأمور التي يسميهم بها ويضيفها إليهم من المكروه غيبة ، وإنما يكون من بعضهم بل الواجب عليه - صلى الله تعالى عليه وسلم - أن يبين ذلك ويعرف الناس أمورهم فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة ولكن لما جبل عليه من الكرم وأعطيه من حسن الخلق أظهر له البشاشة ولم يجبه بالمكروه وليقتدي به أمته في اتقاء شر من هذا سبيله ، وفي مدارته ليسلموا من شره وغائلته ، وقال القرطبي في جواز غيبة المعلن بالفسق والفحش ونحو ذلك مع جواز مداراتهم اتقاء شرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله ، ثم قال تبعا للقاضي حسين ، والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا والدين أو هما معا ، وهي مباحة وربما تكون مستحسنة ، والمداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته ومع ذلك فلم يمدحه بقوله فلم يناقض فيه قوله فعله فإن قوله فيه قول حق وفعله معه حسن معاشرة فيزول مع هذا التقرير الإشكال بحمد الله المتعال .

وقال القاضي عياض لم يكن عيينة حينئذ أسلم فلم يكن القول فيه غيبة أو كان أسلم ولم يكن إسلامه خالصا فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبين ذلك لئلا يغتر بظاهره من لم يعرف باطنه ، وقد كانت منه في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده أمور تدل على ضعف إيمانه فيكون ما وصف به - صلى الله عليه وسلم - من علامات النبوة ، وفي فتح البارئ أن عيينة ارتد في زمن الصديق - رضي الله عنه - وحارب ، ثم رجع وأسلم وحضر بعض الفتوح في عصر عمر - رضي الله عنه - قال ميرك : وله مع عمر قصة مذكورة في البخاري في تفسير سورة الأعراف ، وفيها ما يدل على جفائه انتهى ، وأخطأ الحنفي في هذا المقام وزلت قدم قلمه في بيان المرام حيث قال : المعنى إنما ألنت له القول لأني لو قلت له في حضوره ما قلته في غيبته لتركني اتقاء فحشي فأكون من أشر الناس انتهى .

وقال ميرك : وهذا الحديث أصل في جواز غيبة أهل الكفر والفسق بل يستنبط منه أن المجاهر بالفسق [ ص: 201 ] والشر لا يكون ما يذكر من ذلك من ورائه من الغيبة المذمومة .

قال العلماء : تباح الغيبة في كل غرض صحيح شرعا حيث يتعين طريق إلى الوصول إليه بها كالتظلم والاستعانة على تغيير المنكر والاستفتاء والمحاكمة والتحذير من الشر ويدخل فيه تجريح الرواة والشهود ، وإعلام من له ولاية عامة بسيرة من هو تحت يده ، وجواب الاستشارة في نكاح أو عقد من العقود وكذا من رأى فقيها تردد إلى مبتدع أو فاسق فيخاف عليه الاقتداء به .

التالي السابق


الخدمات العلمية