الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الفصل الحادي عشر : وجوه أخرى للإعجاز

          وقد عد جماعة من الأئمة ، ومقلدي الأمة في إعجازه وجوها كثيرة ، منها أن قارئه لا يمله ، وسامعه لا يمجه ، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة ، وترديده يوجب له محبة ، لا يزال غضا طريا ، وغيره من الكلام ، ولو بلغ في الحسن ، والبلاغة مبلغه يمل مع الترديد ، ويعادى إذا أعيد ، وكتابنا يستلذ به في الخلوات ، ويؤنس بتلاوته في الأزمات ، وسواه من الكتب لا يوجد فيها ذلك ، حتى أحدث أصحابها لحونا ، وطرقا يستجلبون بتلك اللحون تنشيطهم على قراءتها .

          ولهذا وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن بأنه لا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عبره ، ولا تفنى عجائبه ، هو الفصل ليس بالهزل ، لا يشبع منه العلماء ، ولا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، هو الذي لم تنته الجن حين سمعته أن قالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا [ الجن : 1 ] .

          ومنها جمعه لعلوم ، ومعارف لم تعهد العرب عامة ، ولا محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل نبوته خاصة بمعرفتها ، ولا القيام بها ، ولا يحيط بها أحد من علماء الأمم ، ولا يشتمل عليها كتاب من كتبهم ، فجمع فيه من بيان علم الشرائع ، والتنبيه على طرق الحجج العقليات ، والرد على فرق الأمم ، ببراهين قوية ، وأدلة بينة سهلة الألفاظ ، موجزة المقاصد ، رام المتحذلقون بعد أن ينصبوا أدلة مثلها فلم يقدروا عليها كقوله - تعالى - : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو [ يس : 81 ] .

          و : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة [ يس : 79 ] .

          و : لو كان فيهما آلهة إلا الله [ الأنبياء : 22 ] .

          إلى ما حواه من علوم السير ، وأنباء الأمم ، والمواعظ ، والحكم ، وأخبار الدار الآخرة ، ومحاسن الآداب ، والشيم .

          قال الله جل اسمه : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ الأنعام : 38 ] .

          ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء [ ص: 289 ] [ النحل : 89 ] .

          ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل [ الروم : 58 ] .

          وقال - صلى الله عليه وسلم - : إن الله أنزل هذا القرآن آمرا ، وزاجرا ، وسنة خالية ، ومثلا مضروبا ، فيه نبؤكم ، وخبر ما كان قبلكم ، ونبأ ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، لا يخلقه طول الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، هو الحق ليس بالهزل ، من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن خاصم به فلج ، ومن قسم به أقسط ، ومن عمل به أجر ، ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم ، ومن طلب الهدى من غيره أضله الله ، ومن حكم بغيره قصمه الله ، هو الذكر الحكيم ، والنور المبين ، والصراط المستقيم ، وحبل الله المتين ، والشفاء النافع ، عصمة لمن تمسك به ، ونجاة لمن اتبعه ، لا يعوج فيقوم ، ولا يزيغ فيستعتب ، ولا تنقضي عجائبه ، ولا يخلق على كثرة الرد .

          ونحوه عن ابن مسعود ، وقال فيه : ولا يختلف ، ولا يتشان ، فيه نبأ الأولين ، والآخرين .

          وفي الحديث : قال الله - تعالى - لمحمد - صلى الله عليه وسلم - : إني منزل عليك توراة حديثة ، تفتح بها أعينا عميا ، وآذانا صما ، وقلوبا غلفا ، فيها ينابيع العلم ، وفهم الحكمة ، وربيع القلوب .

          وعن كعب : عليكم بالقرآن فإنه فهم العقول ، ونور الحكمة .

          وقال - تعالى - : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون [ النمل : 76 ] .

          وقال : هذا بيان للناس وهدى [ آل عمران : 138 ] الآية .

          فجمع فيه مع وجازة ألفاظه ، وجوامع كلمه أضعاف ما في الكتب قبله التي ألفاظها على الضعف منه مرات .

          ومنها جمعه فيه بين الدليل ، ومدلوله ، وذلك أنه احتج بنظم القرآن وحسن وصفه ، وإيجازه ، وبلاغته ، وأثناء هذه البلاغة أمره ، ونهيه ، ووعده ، ووعيده ، فالتالي له يفهم موضع الحجة ، والتكليف معا من كلام واحد ، وسورة منفردة .

          ومنها أن جعله في حيز المنظوم الذي لم يعهد ، ولم يكن في حيز المنثور ، لأن المنظوم [ ص: 290 ] أسهل على النفوس ، وأوعى للقلوب ، وأسمع في الآذان وأحلى على الأفهام ، فالناس إليه أميل ، والأهواء إليه أسرع .

          ومنها تيسيره - تعالى - حفظه لمتعلميه ، وتقريبه على متحفظيه ، قال الله - تعالى - : ولقد يسرنا القرآن للذكر [ القمر : 22 ] .

          وسائر الأمم لا يحفظ كتبها الواحد منهم ، فكيف الجماء على مرور السنين عليهم . والقرآن ميسر حفظه للغلمان في أقرب مدة .

          ومنها مشاكلة بعض أجزائه بعضا ، وحسن ائتلاف أنواعها ، والتئام أقسامها ، وحسن التخلص من قصة إلى أخرى ، والخروج من باب إلى غيره على اختلاف معانيه ، وانقسام السورة الواحدة إلى أمر ، ونهي ، وخبر ، واستخبار ، ووعد ، ووعيد ، وإثبات نبوة ، وتوحيد ، وتفريد ، وترغيب ، وترهيب ، إلى غير ذلك من فوائده ، دون خلل يتخلل فصوله .

          والكلام الفصيح إذا اعتوره مثل هذا ضعفت قوته ، ولانت جزالته ، وقل رونقه ، وتقلقلت ألفاظه .

          فتأمل أول ص والقرآن ذي الذكر [ ص : 1 ] وما جمع فيها من أخبار الكفار ، وشقاقهم ، وتقريعهم بإهلاك القرون من قبلهم ، وما ذكر من تكذيبهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، وتعجبهم مما أتى به ، والخبر عن اجتماع ملئهم على الكفر ، وما ظهر من الحسد في كلامهم ، وتعجيزهم ، وتوهينهم ، ووعيدهم بخزي الدنيا ، والآخرة ، وتكذيب الأمم قبلهم ، وإهلاك الله لهم ، ووعيد هؤلاء مثل مصابهم ، وتصبير النبي - صلى الله عليه وسلم - على أذاهم ، وتسليته بكل ما تقدم ذكره ، ثم أخذ في ذكر داود ، وقصص الأنبياء ، كل هذا في أوجز كلام ، وأحسن نظام .

          ومنه الجملة الكثيرة التي انطوت عليها الكلمات القليلة ، وهذا كله ، وكثير مما ذكرنا أنه ذكر في إعجاز القرآن إلى وجوه كثيرة ذكرها الأئمة لم نذكرها ، إذ أكثرها داخل في باب بلاغته ، فلا يجب أن يعد فنا منفردا في إعجازه ، إلا في باب تفصيل فنون البلاغة ، وكذلك كثير مما قدمنا ذكره عنهم يعد في خواصه ، وفضائله ، لا إعجازه .

          وحقيقة الإعجاز الوجوه الأربعة التي ذكرنا ، فليعتمد عليها ، وما بعدها من خواص القرآن وعجائبه التي لا تنقضي . والله ولي التوفيق .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية