الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ، ويصح استثناء البعض من الكل سواء كان المستثنى أقل من المستثنى منه أو أكثر عند عامة العلماء ، وعامة أهل اللغة .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف أنه لا يصح استثناء الأكثر من الأقل ، وهو قول الفراء وجه قولهما أن الاستثناء من باب اللغة ، وأهل اللغة لم يتكلموا باستثناء الأكثر من الأقل ; ولأن الاستثناء وضع في الأصل لاستدراك الغلط ، والغلط يجري في الأقل لا في الأكثر ، ولنا أن أهل اللغة قالوا : الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا من غير فصل بين الأقل ، والأكثر إلا أنه قل استعمالهم الاستثناء في مثله لقلة حاجتهم إليه لقلة وقوع الغلط فيه .

                                                                                                                                وهذا لا يكون منهم إخراجا للفظ من أن يكون استثناء حقيقة كمن أكل لحم الخنزير لا يمتنع أحد من أهل اللسان من إطلاق القول بأنه أكل لحم الخنزير ، وإن كان يقل استعمال هذه اللفظة ، لكن قلة استعمالها لقلة وجود الأكل لا لانعدام معنى اللفظ حقيقة كذا هذا ، وعلى هذا تخرج مسائل هذا النوع إذا قال لامرأته : أنت طالق ثلاثا إلا واحدة يقع ثنتان ; لأن هذا استثناء صحيح لكونه تكلما بالباقي بعد الثنيا ، والباقي بعد استثناء الواحدة من الثلاث ثنتان إلا أن للثنتين اسمين : أحدهما ثنتان ، والآخر ثلاث إلا واحدة ، ولو قال : إلا اثنتين يقع واحدة ; لأن استثناء الأكثر من الأقل استثناء صحيح أيضا لما ذكرنا ، ولو قال : إلا ثلاثا وقع الثلاث ; لأن الاستثناء لم يصح ; لأنه استثناء الكل من الكل .

                                                                                                                                ولو قال : أنت طالق ثلاثا إلا واحدة واحدة وواحدة وواحدة وواحدة وقع الثلاث ، وبطل الاستثناء في قول أبي حنيفة ، ومحمد ، وقال أبو يوسف جاز استثناء الأولى ، والثانية ، وبطل استثناء الثالثة ، وتلزمه واحدة وجه قوله أن استثناء الأولى ، والثانية استثناء البعض من الكل فصح إلا أنه لو سكت عليه لجاز ، .

                                                                                                                                فأما استثناء الثالثة فاستثناء الكل من الكل فلم يصح فالتحق بالعدم فيقع واحدة ، ، ولأبي حنيفة ، ومحمد أن أول الكلام في الاستثناء يقف على آخره فكان استثناء الكل من الكل ، فلا يصح كما لو قال : أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا ; ولأنه لما قال إلا واحدة ، وواحدة وواحدة فقد جمع بين الكل بحرف الجمع فصار كأنه قال إلا ثلاثا .

                                                                                                                                ولو قال : أنت طالق واحدة وواحدة وواحدة إلا ثلاثا يقع الثلاث ، ويبطل الاستثناء في قولهم جميعا ; لأن الاستثناء إذا كان موصولا يقف أول الكلام على آخره فكان الاستثناء راجعا إلى الكل فبطل ; ولأنه ذكر جملتين وجمع بين كل جملة بحرف الجمع فكان استثناء الجملة من الجملة ، فلا يصح ، وإذا قال : أنت طالق اثنتين اثنتين إلا اثنتين يقع ثنتان في قول أبي يوسف ، ومحمد .

                                                                                                                                وقال زفر يقع ثلاث كذا ذكر القدوري ، ولم يذكر قول أبي حنيفة وجه قول زفر أن الأصل في الاستثناء أنه ينصرف إلى ما يليه ; لأنه أقرب إليه ، وهو متصل به أيضا ، ولا ينصرف إلى غيره إلا بدليل ، ومتى انصرف إلى ما يليه ; كان استثناء الكل من الكل ، فلا يصح ، ولهما أن الاستثناء يصحح ما أمكن ، ولو جعلناه مما يليه لبطل ، ولو صرف إلى الجملتين يصح [ ص: 156 ] ; لأنه يصير مستثنيا من كل ثنتين واحدة فبقي من كل جملة واحدة .

                                                                                                                                وروى هشام بن عبد الله الرازي عن محمد فيمن قال : أنت طالق اثنتين واثنتين إلا ثلاثا إنه يقع ثلاث ; لأنه لا يمكن تصحيح الاستثناء ههنا ; لأن أول الكلام في كل واحدة من الجملتين وقف على آخره فصار كأنه قال : أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا ; لأنه لا يمكن أن يجعل الاستثناء في الجملتين على السواء ; لأنه يصير مستثنيا من كل جملة تطليقة ، ونصفا ، وهذا استثناء جميع الجملة ; لأن استثناء واحدة ، ونصف استثناء ثنتين ; لأن ذكر البعض فيما لا يتبعض ذكر لكله فكان استثناء الكل من الكل ، ولا يمكن أن يجعل من إحدى الجملتين ; لأنه يكون استثناء الكل من الكل ، وزيادة ، ولا يمكن أن يصرف اثنتان من الثلاث أو جملة واحدة إلى جملة أخرى ; لأن هذا خلاف تصرفه ، وإنشاء تصرف آخر لم يوجد منه فتعذر تصحيح هذا الاستثناء من جميع الوجوه فبطل ، والإشكال على القسم الأول أن ذكر البعض فيما لا يتبعض لا يكون ذكرا للكل في الاستثناء بل هو ملحق بالعدم بدليل أنه لو قال : أنت طالق ثلاثا إلا واحدة ، ونصفا يقع عليها ثنتان ، ولو كان ذكر بعض الطلاق ذكرا لكله في الاستثناء لوقع عليها واحدة ; لأنه يصير كأنه قال : أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين ، وكان الفقه في ذلك أن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا فينظر إلى الباقي ، والباقي ههنا تطليقة ، ونصف ، ونصف تطليقة تطليقة كاملة فيقع ثنتان كأنه قال : أنت طالق اثنتين ، وإذا لم يصر ذكر البعض ذكرا للكل في الاستثناء يصر مستثنيا من كل جملة تطليقة واحدة ، وتلغو واحدة من الاستثناء ، وهذا أولى من إلغاء الكل فيجب أن يقع ثنتان كما في المسألة الأولى عندهما ، وفي هذه المسألة إشكال على ما روى هشام عن محمد .

                                                                                                                                وروى هشام أيضا عن محمد فيمن قال : أنت طالق اثنتين وأربعا إلا خمسا أنها تطلق ثلاثا ; لأنه لا يمكن تصحيح الاستثناء بالصرف إلى الجملتين على الشيوع ، ولا بالصرف إلى واحدة منهما ، ولا يصرف البعض عينا إلى جملة ، والبعض إلى جملة أخرى لما قلنا ، والإشكال على القسم الأول على ما بينا .

                                                                                                                                وقال بشر عن أبي يوسف فيمن قال لامرأته : أنت طالق واحدة واحدة واثنتين إلا اثنتين أنه ثلاث - ، وهو قول محمد - ، والوجه فيه ما ذكرنا ، والإشكال على نحو ما بينا ، هذا إذا كان لفظ الاستثناء من جنس المستثنى منه .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية