الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما مسائل النوع الثاني من الاستثناء ، وهو تعليق الطلاق بمشيئة الله عز وجل فنقول : إذا علق طلاق امرأته بمشيئة الله يصح الاستثناء ، ولا يقع الطلاق ، سواء قدم الطلاق على الاستثناء في الذكر بأن قال : أنت طالق إن شاء الله أو أخره عنه بأن قال : إن شاء الله تعالى فأنت طالق ، وهذا قول عامة العلماء .

                                                                                                                                وقال مالك : لا يصح الاستثناء ، والطلاق واقع ، وعلى هذا تعليق العتق ، والنذر ، واليمين بمشيئة الله سبحانه ، وتعالى .

                                                                                                                                وجه قوله أن هذا ليس تعليقا بشرط ; لأن الشرط ما يكون معدوما على خطر الوجود ، ومشيئة الله تعالى أزلية لا تحتمل العدم فكان هذا تعليقا بأمر كائن فيكون تحقيقا لا تعليقا كما لو قال : أنت طالق إن كانت السماء فوقنا ، ولنا قوله عز وجل خبرا عن موسى عليه ، وعلى نبينا أفضل الصلاة ، والسلام { ستجدني إن شاء الله صابرا } وصح استثناؤه حتى لم يصر بترك الصبر مخلفا في الوعد .

                                                                                                                                ولولا صحة الاستثناء لصار مخلفا في الوعد بالصبر ، والخلف في الوعد لا يجوز ، والنبي معصوم .

                                                                                                                                وقال سبحانه ، وتعالى { ، ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } أي إلا أن تقول إن شاء الله ، ولو لم يحصل به صيانة الخبر عن الخلف في الوعد لم يكن للأمر به معنى .

                                                                                                                                وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من حلف بطلاق أو عتاق ، وقال : إن شاء الله فلا حنث عليه } ، وهذا نص في الباب .

                                                                                                                                وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : { من استثنى فله ثنياه } ; ولأن تعليق الطلاق بمشيئة الله تعالى تعليق بما لا يعلم وجوده ; لأنا لا ندري أنه شاء وقوع هذا الطلاق أو لم يشأ ، على معنى أن وقوع هذا الطلاق هل دخل تحت مشيئة الله تعالى أو لم يدخل ؟ فإن دخل وقع ، وإن لم يدخل لا يقع ; لأن ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فلا يقع بالشك ، وبه تبين أن هذا ليس تعليقا بأمر كائن ; ولأن دخول الوقوع تحت مشيئة الله تعالى غير معلوم ، وهذا هو تفسير تعليق الطلاق بمشيئة الله عز وجل ، ومن الناس من فرق بين الطلاق ، والعتاق فقال : لا يقع الطلاق ، ويقع العتاق ، وزعم بأنه لم توجد المشيئة في الطلاق ، ووجدت في العتاق ; لأن الطلاق مكروه الشرع ، والعتق مندوب إليه ، وهذا هو مذهبالمعتزلة أن إرادة الله تعالى تتعلق بالقرب ، والطاعات لا بالمكان ، والمعاصي ، وأن الله تعالى أراد كل خير وصلاح من العبد ثم العبد قد لا يفعله لسوء اختياره ، وبطلان مذهبهم يعرف في مسائل الكلام ثم أنهم ناقضوا حيث قالوا فيمن حلف فقال : لأصومن غدا إن شاء الله تعالى أو قال : لأصلين ركعتين أو لأقضين دين فلان فمضى الغد ، ولم يفعل شيئا من ذلك أنه لا يحنث ، ولو شاء الله تعالى كل خير لحنث ; لأن هذه الأفعال خيرات وقد شاءها عندهم ، وكذلك لو قال : أنت طالق لو شاء الله تعالى أو قال أن لو يشاء الله تعالى لما قلنا .

                                                                                                                                وكذا لو قال إلا أن يشاء الله ; لأن معناه إلا أن يشاء الله أن لا يقع وذلك غير معلوم .

                                                                                                                                وكذا لو قال : ما شاء الله تعالى ; لأن معناه الذي شاءه الله ، تعالى .

                                                                                                                                ولو قال : أنت [ ص: 158 ] طالق إن لم يشأ الله تعالى يكون المستثنى كقوله إن شاء الله تعالى ; لأن هذا في الحقيقة تعليق بعدم دخول الوقوع تحت مشيئة الله تعالى .

                                                                                                                                وذلك غير معلوم ، ولو قال : أنت طالق ، وإن شاء الله أو قال : فإن شاء الله تعالى لم يكن استثناء عند أبي يوسف ; لأنه حال بين الطلاق ، وبين الاستثناء - حرف - هو حشو - فيصير فاصلا بمنزلة السكتة فيمنع التعليق بالشرط فيقع في الحال .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية