الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) طهارة مكان الصلاة فلقوله تعالى : { أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود } .

                                                                                                                                وقال في موضع : { والقائمين والركع السجود } ، ولما ذكرنا أن الصلاة خدمة الرب - تعالى - وتعظيمه ، وخدمة المعبود المستحق للعبادة وتعظيمه بكل الممكن فرض ، وأداء الصلاة على مكان طاهر أقرب إلى التعظيم ، فكان طهارة مكان الصلاة شرطا ، وقد روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه { نهى عن الصلاة في المزبلة ، والمجزرة ، ومعاطن الإبل ، وقوارع الطريق ، والحمام ، والمقبرة ، وفوق ظهر بيت الله - تعالى - } أما معنى النهي عن الصلاة في المزبلة والمجزرة فلكونهما موضع النجاسة .

                                                                                                                                وأما معاطن الإبل فقد قيل إن معنى النهي فيها أنها لا تخلو عن النجاسات عادة ، لكن هذا يشكل بما روي من الحديث { صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل ، } مع أن المعاطن والمرابض في معنى النجاسة سواء ، وقيل : معنى النهي أن الإبل ربما تبول على المصلي فيبتلى بما يفسد صلاته ، وهذا لا يتوهم في الغنم وأما قوارع الطرق فقيل إنها لا تخلو عن الأرواث والأبوال عادة ، فعلى هذا لا فرق بين الطريق الواسع والضيق ، وقيل : معنى النهي فيها أنه يستضر به المارة ، وعلى هذا إذا كان الطريق واسعا لا يكره ، وحكى ابن سماعة أن محمدا كان يصلي على الطريق في البادية وأما الحمام فمعنى النهي فيه أنه مصب الغسالات والنجاسات عادة ، فعلى هذا لو صلى في موضع الحمامي لا يكره ، وقيل : معنى النهي فيه أن الحمام بيت الشيطان ، فعلى هذا تكره الصلاة في كل موضع منه ، سواء غسل ذلك الموضع أو لم يغسل وأما المقبرة فقيل : إنما نهي عن ذلك لما فيه من التشبيه باليهود ، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لعن الله اليهود ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، فلا تتخذوا قبري بعدي مسجدا } .

                                                                                                                                وروي أن عمر رضي الله عنه رأى رجلا يصلي بالليل إلى قبر فناداه : القبر القبر ، فظن الرجل أنه يقول : القمر القمر ، فجعل ينظر إلى السماء ، فما زال به حتى تنبه فعلى هذا تجوز الصلاة وتكره ، وقيل معنى النهي أن المقابر لا تخلو عن النجاسات ; لأن الجهال يستترون بما شرف من القبور فيبولون ويتغوطون خلفه ، فعلى هذا لا تجوز الصلاة لو كان في موضع يفعلون ذلك لانعدام طهارة المكان وأما فوق بيت الله - تعالى - فمعنى النهي عندنا أن الإنسان منهي عن الصعود على سطح الكعبة لما فيه من ترك التعظيم ، ولا يمنع جواز الصلاة عليه وعند الشافعي هذا النهي للإفساد ، حتى لو صلى على سطح الكعبة وليس بين يديه سترة لا تجوز صلاته عنده وسنذكر الكلام فيما بعد

                                                                                                                                ولو صلى في بيت فيه تماثيل فهذا على وجهين : أما إن كانت التماثيل مقطوعة الرءوس أو لم تكن مقطوعة الرءوس ، فإن كانت مقطوعة الرءوس فلا بأس بالصلاة فيه ; لأنها بالقطع خرجت من أن تكون تماثيل [ ص: 116 ] والتحقت بالنقوش ، والدليل عليه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { أهدي إليه ترس فيه تمثال طير فأصبحوا وقد محي وجهه } .

                                                                                                                                وروي أن جبريل عليه السلام استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن له فقال كيف أدخل وفي البيت قرام فيه تماثيل خيول ورجال ؟ فإما أن تقطع رءوسها أو تتخذ وسائد فتوطأ وإن لم تكن مقطوعة الرءوس فتكره الصلاة فيه ، سواء كانت في جهة القبلة أو في السقف أو عن يمين القبلة أو عن يسارها ، فأشد ذلك كراهة أن تكون في جهة القبلة ; لأنه تشبه بعبدة الأوثان ، ولو كانت في مؤخر القبلة ، أو تحت القدم لا يكره لعدم التشبه في الصلاة بعبدة الأوثان ، وكذا يكره الدخول إلى بيت فيه صور على سقفه أو حيطانه أو على الستور والأزر والوسائد العظام ; لأن جبريل عليه السلام قال : إنا لا ندخل بيتا فيه كلب أو صورة ، ولا خير في بيت لا تدخله الملائكة ، وكذا نفس التعليق لتلك الستور والأزر على الجدار ، ووضع الوسائد العظام عليه مكروه لما في هذا الصنيع من التشبيه بعباد الصور لما فيه من تعظيمها .

                                                                                                                                وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : { دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وأنا مستترة بستر فيه تماثيل ، فتغير لون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرفت الكراهة في وجهه ، فأخذه مني وهتكه بيده فجعلناه نمرقة أو نمرقتين } وإن كانت الصور على البسط والوسائد الصغار وهي تداس بالأرجل لا تكره لما فيه من إهانتها ، والدليل عليها حديث جبريل صلى الله عليه وسلم وعائشة رضي الله عنها .

                                                                                                                                ولو صلى على هذا البساط فإن كانت الصورة في موضع سجوده يكره لما فيه من التشبه بعبادة الصور والأصنام ، وكذا إذا كانت أمامه في موضع ; لأن معنى التعظيم يحصل بتقريب الوجه من الصورة ، فأما إذا كانت في موضع قدميه فلا بأس به لما فيه من الإهانة دون التعظيم ، هذا إذا كانت الصورة كبيرة ، فأما إذا كانت صغيرة لا تبدو للناظر من بعيد فلا بأس به ; لأن من يعبد الصنم لا يعبد الصغير منها جدا ، وقد روي أنه كان على خاتم أبي موسى ذبابتان .

                                                                                                                                وروي أنه لما وجد خاتم دانيال على عهد عمر رضي الله عنه كان على فصه أسدان بينهما رجل يلحسانه ، ويحتمل أن يكون ذلك في ابتداء حاله ، أو لأن التمثال في شريعة من قبلنا كان حلالا ، قال الله - تعالى - في قصة سليمان : { يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل } ، ثم ما ذكرنا من الكراهة في صورة الحيوان .

                                                                                                                                فأما صورة ما لا حياة له كالشجر ونحو ذلك فلا يوجب الكراهة ; لأن عبدة الصور لا يعبدون تمثال ما ليس بذي روح ، فلا يحصل التشبه بهم ، وكذا النهي إنما جاء عن تصوير ذي الروح لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : من صور تمثال ذي الروح كلف يوم القيامة أن ينفخ فيه الروح ، وليس بنافخ فأما لا نهي عن تصوير ما لا روح له لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه نهى مصورا عن التصوير ; فقال : كيف أصنع وهو كسبي ؟ فقال : إن لم يكن بد فعليك بتمثال الأشجار ويكره أن تكون قبلة المسجد إلى حمام أو قبر أو مخرج ; لأن جهة القبلة يجب تعظيمها ، والمساجد كذلك قال الله تعالى : { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار } ، ومعنى التعظيم لا يحصل إذا كانت قبلة المسجد إلى هذه المواضع ; لأنها لا تخلو عن الأقذار ، وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه قال : هذا في مساجد الجماعات ، فأما مسجد الرجل في بيته فلا بأس بأن يكون قبلته إلى هذه المواضع ; لأنه ليس له حرمة المساجد ، حتى يجوز بيعه ، وكذا للناس فيه بلوى بخلاف مسجد الجماعة .

                                                                                                                                ولو صلى في مثل هذا المسجد جازت صلاته عند عامة العلماء ، وعلى قول بشر بن غياث المريسي : لا تجوز ، وعلى هذا ، المصلي في أرض مغصوبة أو صلى وعليه ثوب مغصوب لا تجوز عنده .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أن العبادة لا تتأدى بما هو منهي عنه .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن النهي ليس لمعنى في الصلاة فلا يمنع جواز الصلاة ، وهذا إذا لم يكن بين المسجد وبين هذه المواضع حائل من بيت أو جدار أو نحو ذلك ، فإن كان بينهما حائل لا يكره ; لأن معنى التعظيم حاصل ، فالتحرز عنه غير ممكن ( ومنها ) ستر العورة لقوله تعالى : { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا } ، قيل في التأويل : الزينة : ما يواري العورة ، والمسجد : الصلاة ، فقد أمر بمواراة العورة في الصلاة .

                                                                                                                                وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { لا صلاة للحائض إلا بخمار } ، كنى بالحائض عن البالغة ; لأن الحيض دليل البلوغ ، فذكر الحيض وأراد به البلوغ لملازمة بينهما ، وعليه إجماع الأمة ; ولأن ستر العورة حال القيام بين يدي الله - تعالى - من باب التعظيم ، وأنه فرض عقلا وشرعا ، [ ص: 117 ] وإذا كان الستر فرضا كان الانكشاف مانعا جواز الصلاة ضرورة ، والكلام في بيان ما يكون عورة وما لا يكون موضعه كتاب الاستحسان ، وإنما الحاجة ههنا إلى بيان المقدار الذي يمنع جواز الصلاة فنقول : قليل الانكشاف لا يمنع الجواز لما فيه من الضرورة ; لأن الثياب لا تخلو عن قليل خرق عادة والكثير يمنع لعدم الضرورة ، واختلف في الحد الفاصل بين القليل والكثير فقدر أبو حنيفة ومحمد الكثير بالربع فقالا : الربع وما فوقه من العضو كثير وما دون الربع قليل وأبو يوسف جعل الأكثر من النصف كثيرا ، وما دون النصف قليلا ، واختلفت الرواية عنه في النصف ، فجعله في حكم القليل في الجامع الصغير ، وفي حكم الكثير في الأصل .

                                                                                                                                ( وجه ) قول أبي يوسف أن القليل والكثير من المتقابلات ، فإنما تظهر بالمقابلة ، فما كان مقابله أقل منه فهو كثير ، وما كان مقابله أكثر منه فهو قليل .

                                                                                                                                ( ولهما ) أن الشرع أقام الربع مقام الكل في كثير من المواضع ، كما في حلق الرأس في حق المحرم ، ومسح ربع الرأس كذا ههنا ، إذ الموضع موضع الاحتياط .

                                                                                                                                وأما قوله إن القليل والكثير من أسماء المقابلة فإنما يعرف ذلك بمقابله فنقول : الشرع قد جعل الربع كثيرا في نفسه من غير مقابلة في بعض المواضع على ما بينا ، فلزم الأخذ به في موضع الاحتياط ، ثم كثير الانكشاف يستوي فيه العضو الواحد والأعضاء المتفرقة ، حتى لو انكشف من أعضاء متفرقة ما لو جمع لكان كثيرا يمنع جواز الصلاة ، ويستوي فيه العورة الغليظة وهي القبل والدبر ، والخفيفة كالفخذ ونحوه ، ومن الناس من قدر العورة الغليظة بالدرهم تغليظا لأمرها ، وهذا غير سديد لأن العورة الغليظة كلها لا تزيد على الدرهم فتقديرها بالدرهم يكون تخفيفا لأمرها لا تغليظا له ، فتنعكس القضية ، وذكر محمد في الزيادات ما يدل على أن حكم الغليظة والخفيفة واحد ، فإنه قال في امرأة صلت فانكشف شيء من شعرها ، وشيء من ظهرها ، وشيء من فرجها ، وشيء من فخذها : أنه إن كان بحال لو جمع بلغ الربع منع أداء الصلاة ، وإن لم يبلغ لا يمنع ، فقد جمع بين العورة الغليظة والخفيفة واعتبر فيها الربع ، فثبت أن حكمها لا يختلف ، وأن الخلاف فيهما واحد وهذا في حالة القدرة فأما في حالة العجز فالانكشاف لا يمنع جواز الصلاة ، بأن حضرته الصلاة وهو عريان لا يجد ثوبا للضرورة ، ولو كان معه ثوب نجس فلا يخلو إما أن كان الربع منه طاهرا ، وإما أن كان كله نجسا فإن كان ربعه طاهرا لم يجزه أن يصلي عريانا ، بل يجب عليه أن يصلي في ذلك الثوب ; لأن الربع فما فوقه في حكم الكمال ، كما في مسح الرأس وحلق المحرم ربع الرأس ، وكما يقال : رأيت فلانا وإن عاينه من إحدى جهاته الأربع ، فجعل كأن الثوب كله طاهر وإن كان كله نجسا أو الطاهر منه أقل من الربع - فهو بالخيار في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ، إن شاء صلى عريانا ، وإن شاء مع الثوب ، لكن الصلاة في الثوب أفضل وقال محمد : لا تجزئه إلا مع الثوب .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أن ترك استعمال النجاسة فرض ، وستر العورة فرض ، إلا أن ستر العورة أهمهما وآكدهما ; لأنه فرض في الأحوال أجمع ، وفرضية ترك استعمال النجاسة مقصورة على حالة الصلاة ، فيصار إلى الأهم ، فتستر العورة ، ولا تجوز الصلاة بدونه ، ويتحمل استعمال النجاسة ; ولأنه لو صلى عريانا كان تاركا فرائض منها ستر العورة والقيام والركوع والسجود ، ولو صلى في الثوب النجس كان تاركا فرضا واحدا وهو ترك استعمال النجاسة فقط ، فكان هذا الجانب أهون .

                                                                                                                                وقد قالت عائشة رضي الله عنها : { ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين شيئين إلا اختار أهونهما } ، فمن ابتلي ببليتين فعليه أن يختار أهونهما .

                                                                                                                                ( ولهما ) أن الجانبين في الفرضية في حق الصلاة على السواء ، ألا ترى أنه كما لا تجوز الصلاة حالة الاختيار عريانا لا تجوز مع الثوب المملوء نجاسة ، ولا يمكن إقامة أحد الفرضين في هذه الحالة إلا بترك الآخر ؟ فسقطت فرضيتهما في حق الصلاة ، فيخير فيجزئه كيفما فعل ، إلا أن الصلاة في الثوب أفضل لما ذكر محمد ( ومنها ) استقبال القبلة لقوله تعالى : { فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } .

                                                                                                                                وقول النبي صلى الله عليه وسلم : { لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه ، ويستقبل القبلة ، ويقول : الله أكبر } ، وعليه إجماع الأمة ، والأصل أن استقبال القبلة للصلاة شرط زائد لا يعقل معناه ، بدليل أنه لا يجب الاستقبال فيما هو رأس العبادات وهو الإيمان ، وكذا في عامة العبادات من الزكاة والصوم والحج ، وإنما عرف شرطا في باب الصلاة شرعا فيجب اعتباره بقدر ما ورد الشرع به ، [ ص: 118 ] وفيما وراءه يرد إلى أصل القياس ، ثم جملة الكلام في هذا الشرط أن المصلي لا يخلو إما إن كان قادرا على الاستقبال أو كان عاجزا عنه فإن كان قادرا يجب عليه التوجه إلى القبلة إن كان في حال مشاهدة الكعبة فإلى عينها ، أي : أي جهة كانت من جهات الكعبة ، حتى لو كان منحرفا عنها غير متوجه إلى شيء منها لم يجز ، لقوله تعالى : { فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } ، وفي وسعه تولية الوجه إلى عينها فيجب ذلك ، وإن كان نائيا عن الكعبة غائبا عنها يجب عليه التوجه إلى جهتها ، وهي المحاريب المنصوبة بالإمارات الدالة عليها لا إلى عينها ، وتعتبر الجهة دون العين .

                                                                                                                                كذا ذكر الكرخي والرازي ، وهو قول عامة مشايخنا بما وراء النهر وقال بعضهم : المفروض إصابة عين الكعبة بالاجتهاد والتحري ، وهو قول أبي عبد الله البصري حتى قالوا : " إن نية الكعبة شرط " وجه قول هؤلاء قوله تعالى : { فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } ، من غير فصل بين حال المشاهدة والغيبة ; ولأن لزوم الاستقبال لحرمة البقعة ، وهذا المعنى في العين لا في الجهة ; ولأن قبلته لو كانت الجهة لكان ينبغي له إذا اجتهد فأخطأ الجهة يلزمه الإعادة لظهور خطئه في اجتهاده بيقين ، ومع ذلك لا تلزمه الإعادة بلا خلاف بين أصحابنا ، فدل أن قبلته في هذه الحالة عين الكعبة بالاجتهاد والتحري .

                                                                                                                                ( وجه ) قول الأولين أن المفروض هو المقدور عليه ، وإصابة العين غير مقدور عليها فلا تكون مفروضة ; ولأن قبلته لو كانت عين الكعبة في هذه الحالة بالتحري والاجتهاد لترددت صلاته بين الجواز والفساد ; لأنه إن أصاب عين الكعبة بتحريه جازت صلاته ، وإن لم يصب عين الكعبة لا تجوز صلاته ; لأنه ظهر خطؤه بيقين ، إلا أن يجعل كل مجتهد مصيبا وإنه خلاف المذهب الحق .

                                                                                                                                وقد عرف بطلانه في أصول الفقه ، أما إذا جعلت قبلته الجهة وهي المحاريب المنصوبة لا يتصور ظهور الخطأ ، فنزلت الجهة في هذه الحالة منزلة عين الكعبة في حال المشاهدة ، ولله - تعالى - أن يجعل أي جهة شاء قبلة لعباده على اختلاف الأحوال ، وإليه وقعت الإشارة في قوله تعالى : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } ; ولأنهم جعلوا عين الكعبة قبلة في هذه الحالة بالتحري ، وأنه مبني على تجرد شهادة القلب من غير أمارة ، والجهة صارت قبلة باجتهادهم المبني على الأمارات الدالة عليها من النجوم والشمس والقمر وغير ذلك ، فكان فوق الاجتهاد بالتحري ، ولهذا إن من دخل بلدة وعاين المحاريب المنصوبة فيها يجب عليه التوجه إليها ، ولا يجوز له التحري ، وكذا إذا دخل مسجدا لا محراب له وبحضرته أهل المسجد - لا يجوز له التحري ، بل يجب عليه السؤال من أهل المسجد ; لأن لهم علما بالجهة المبنية على الأمارات فكان فوق الثابت بالتحري ، وكذا لو كان في المفازة ، والسماء مصحية ، وله علم بالاستدلال بالنجوم على القبلة - لا يجوز له التحري ; لأن ذلك فوق التحري .

                                                                                                                                وبه تبين أن نية الكعبة ليست بشرط ، بل الأفضل أن لا ينوي الكعبة لاحتمال أن لا تحاذي هذه الجهة الكعبة فلا تجوز صلاته ولا حجة لهم في الآية لأنها تناولت حالة القدرة ، والقدرة حال مشاهدة الكعبة لا حال البعد عنها ، وهو الجواب عن قولهم : إن الاستقبال لحرمة البقعة ، أن ذلك حال القدرة على الاستقبال إليها دون حال العجز عنه وأما إذا كان عاجزا فلا يخلو إما أن كان عاجزا بسبب عذر من الأعذار مع العلم بالقبلة .

                                                                                                                                وأما إن كان عجزه بسبب الاشتباه ، فإن كان عاجزا لعذر مع العلم بالقبلة فله أن يصلي إلى أي جهة كانت ويسقط عنه الاستقبال ، نحو أن يخاف على نفسه من العدو في صلاة الخوف ، أو كان بحال لو استقبل القبلة يثب عليه العدو ، أو قطاع الطريق ، أو السبع ، أو كان على لوح من السفينة في البحر لو وجهه إلى القبلة يغرق غالبا ، أو كان مريضا لا يمكنه أن يتحول بنفسه إلى القبلة وليس بحضرته من يحوله إليها ، ونحو ذلك ; لأن هذا شرط زائد فيسقط عند العجز وإن كان عاجزا بسبب الاشتباه ، وهو أن يكون في المفازة في ليلة مظلمة ، أو لا علم له بالأمارات الدالة على القبلة ، فإن كان بحضرته من يسأله عنها لا يجوز له التحري لما قلنا ، بل يجب عليه السؤال ، فإن لم يسأل وتحرى وصلى فإن أصاب جاز ، وإلا فلا .

                                                                                                                                فإن لم يكن بحضرته أحد جاز له التحري ; لأن التكليف بحسب الوسع والإمكان ، وليس في وسعه إلا التحري فتجوز له الصلاة بالتحري لقوله تعالى : { فأينما تولوا فثم وجه الله } .

                                                                                                                                وروي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحروا عند الاشتباه [ ص: 119 ] وصلوا ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فدل على الجواز فإذا صلى إلى جهة من الجهات فلا يخلو إما أن صلى إلى الجهة بالتحري أو بدون التحري فإن صلى بدون التحري فلا يخلو من أوجه : أما إن كان لم يخطر بباله شيء ولم يشك في جهة القبلة ، أو خطر بباله وشك في جهة القبلة وصلى من غير تحر ، أو تحرى ووقع تحريه على جهة فصلى إلى جهة أخرى لم يقع عليها التحري أما إذا لم يخطر بباله شيء ولم يشك وصلى إلى جهة من الجهات فالأصل هو الجواز ; لأن مطلق الجهة قبلة بشرط عدم دليل يوصله إلى جهة الكعبة من السؤال أو التحري ، ولم يوجد ; لأن التحري لا يجب عليه إذا لم يكن شاكا ، فإذا مضى على هذه الحالة ولم يخطر بباله شيء صارت الجهة التي صلى إليها قبلة له ظاهرا ، فإن ظهر أنها جهة الكعبة تقرر الجواز ، فأما إذا ظهر خطؤه بيقين بأن انجلى الظلام وتبين أنه صلى إلى غير جهة الكعبة ، أو تحرى ووقع تحريه على غير الجهة التي صلى إليها إن كان بعد الفراغ من الصلاة يعيد ، وإن كان في الصلاة يستقبل ; لأن ما جعل حجة بشرط عدم الأقوى يبطل عند وجوده ، كالاجتهاد إذا ظهر نص بخلافه .

                                                                                                                                وأما إذا شك ولم يتحر وصلى إلى جهة من الجهات فالأصل هو الفساد ، فإذا ظهر أن الصواب في غير الجهة التي صلى إليها إما بيقين أو بالتحري تقرر الفساد ، وإن ظهر أن الجهة التي صلى إليها قبلة إن كان بعد الفراغ من الصلاة أجزأه ولا يعيد ; لأنه إذا شك في جهة الكعبة وبنى صلاته على الشك احتمل أن تكون الجهة التي صلى إليها قبلة واحتمل أن لا تكون ، فإن ظهر أنها لم تكن قبلة يظهر أنه صلى إلى غير القبلة ، وإن ظهر أنها كانت قبلة يظهر أنه صلى إلى القبلة فلا يحكم بالجواز في الابتداء بالشك والاحتمال ، بل يحكم بالفساد بناء على الأصل وهو العدم بحكم استصحاب الحال ، فإذا تبين أنه صلى إلى القبلة بطل الحكم باستصحاب الحال وثبت الجواز من الأصل .

                                                                                                                                وأما إذا ظهر في وسط الصلاة روي عن أبي يوسف أنه يبني على صلاته لما قلنا ، وفي ظاهر الرواية يستقبل ; لأن شروعه في الصلاة بناء على الشك ، ومتى ظهرت القبلة إما بالتحري أو بالسؤال من غيره صارت حالته هذه أقوى من الحالة الأولى ، ولو ظهرت في الابتداء لا تجوز صلاته إلا إلى هذه الجهة ، فكذا إذا ظهرت في وسط الصلاة وصار كالمومئ إذا قدر على القيام في وسط الصلاة أنه يستقبل لما ذكرنا ، كذا هذا .

                                                                                                                                وأما إذا تحرى ووقع تحريه إلى جهة فصلى إلى جهة أخرى من غير تحر فإن أخطأ لا تجزيه بالإجماع ، وإن أصاب فكذلك في ظاهر الرواية .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف أنه يجوز ، ( ووجهه ) أن المقصود من التحري هو الإصابة وقد حصل هذا المقصود فيحكم بالجواز ، كما إذا تحرى في الأواني فتوضأ بغير ما وقع عليه التحري ثم تبين أنه أصاب يجزيه ، كذا هذا .

                                                                                                                                ( وجه ) ظاهر الرواية أن القبلة حالة الاشتباه هي الجهة التي مال إليها المتحري ، فإذا ترك الإقبال إليها فقد أعرض عما هو قبلته مع القدرة عليه فلا يجوز ، كمن ترك التوجه إلى المحاريب المنصوبة مع القدرة عليه ، بخلاف الأواني ; لأن الشرط هو التوضؤ بالماء الطاهر حقيقة وقد وجد فأما إذا صلى إلى جهة من الجهات بالتحري ثم ظهر خطؤه فإن كان قبل الفراغ من الصلاة استدار إلى القبلة ، وأتم الصلاة ، لما روي أن أهل قباء لما بلغهم نسخ القبلة إلى بيت المقدس استداروا كهيئتهم وأتموا صلاتهم ، ولم يأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإعادة ; ولأن الصلاة المؤداة إلى جهة التحري مؤداة إلى القبلة ; لأنها هي القبلة حال الاشتباه ، فلا معنى لوجوب الاستقبال ; ولأن تبدل الرأي في معنى انتساخ النص ، وذا لا يوجب بطلان العمل بالمنسوخ في زمان ما قبل النسخ ، كذا هذا وإن كان بعد الفراغ من الصلاة فإن ظهر أنه صلى يمنة أو يسرة يجزيه ولا يلزمه الإعادة بلا خلاف ، وإن ظهر أنه صلى مستدبر الكعبة يجزيه عندنا ، وعند الشافعي لا يجزيه ، وعلى هذا إذا اشتبهت القبلة على قوم فتحروا وصلوا بجماعة جازت صلاة الكل عندنا إلا صلاة من تقدم على إمامه أو علم بمخالفته إياه .

                                                                                                                                ( وجه ) قول الشافعي أنه صلى إلى القبلة بالاجتهاد .

                                                                                                                                وقد ظهر خطؤه بيقين فيبطل ، كما إذا تحرى وصلى في ثوب على ظن أنه طاهر ثم تبين أنه نجس أنه لا يجزيه وتلزمه الإعادة ، كذا ههنا .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن قبلته حال الاشتباه هي الجهة التي تحرى إليها .

                                                                                                                                وقد صلى إليها فتجزيه كما إذا صلى إلى المحاريب المنصوبة ، والدليل على أن قبلته هي جهة التحري النص والمعقول أما النص فقوله تعالى : { فأينما تولوا فثم وجه الله } ، قيل في بعض وجوه التأويل : ثمة قبلة [ ص: 120 ] الله ، وقيل : ثمة رضاء الله ، وقيل : ثمة وجه الله الذي وجهكم إليه إذ لم يجئ منكم التقصير في طلب القبلة ، وأضاف التوجه إلى نفسه ; لأنهم وقعوا في ذلك بفعل الله - تعالى - بغير تقصير كان منهم في الطلب ونظيره قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن أكل ناسيا لصومه تم على صومك فإنما أطعمك الله وسقاك ، وإن وجد الأكل من الصائم حقيقة لكن لما لم يكن قاصدا فيه أضاف فعله إلى الله تعالى وصيره معذورا كأنه لم يأكل ، كذلك ههنا إذا كان توجهه إلى هذه الجهة من غير قصد منه حيث أتى بجميع ما في وسعه وإمكانه ، أضاف الرب سبحانه وتعالى ذلك إلى ذاته وجعله معذورا كأنه توجه إلى القبلة ( وأما ) المعقول فما ذكرنا أنه لا سبيل له إلى إصابة عين الكعبة ولا إلى إصابة جهتها في هذه الحالة لعدم الدلائل الموصلة إليها ، والكلام فيه ، والتكليف بالصلاة متوجه ، وتكليف ما لا يحتمله الوسع ممتنع ، وليس في وسعه إلا الصلاة إلى جهة التحري فتعينت هذه قبلة له شرعا في هذه الحالة ، فنزلت هذه الجهة حالة العجز منزلة عين الكعبة ، والمحراب حالة القدرة ، وإنما عرف التحري شرطا نصا بخلاف القياس لا لإصابة القبلة ، وبه تبين أنه ما أخطأ قبلته ; لأن قبلته جهة التحري وقد صلى إليها ، بخلاف مسألة الثوب ; لأن الشرط هناك هو الصلاة بالثوب الطاهر حقيقة لكنه أمر بإصابته بالتحري ، فإذا لم يصب انعدم الشرط فلم يجز ، أما ههنا فالشرط استقبال القبلة ، وقبلته هذه في هذه الحالة .

                                                                                                                                وقد استقبلها ، فهو الفرق والله أعلم ويخرج على ما ذكرنا الصلاة بمكة خارج الكعبة أنه إن كان في حال مشاهدة الكعبة لا تجوز صلاته إلا إلى عين الكعبة ; لأن قبلته حالة المشاهدة عين الكعبة بالنص ، ويجوز إلى أن الجهات من الكعبة شاء بعد أن كان مستقبلا لجزء منها لوجود تولية الوجه شطر الكعبة ، فإن صلى منحرفا عن الكعبة غير مواجه لشيء منها لم يجز ; لأنه ترك التوجه إلى قبلته مع القدرة عليه ، وشرائط الصلاة لا تسقط من غير عذر .

                                                                                                                                ( ثم ) إن صلوا بجماعة لا يخلو إما أن صلوا متحلقين حول الكعبة صفا بعد صف ، وإما أن صلوا إلى جهة واحدة منها مصطفين فإن صلوا إلى جهة واحدة جازت صلاتهم إذا كان كل واحد منهم مستقبلا جزءا من الكعبة ، ولا يجوز لهم أن يصطفوا زيادة على حائط الكعبة ، ولو فعلوا ذلك لا تجوز صلاة من جاوز الحائط ; لأن الواجب حالة المشاهدة استقبال عينها وإن صلوا حول الكعبة متحلقين جاز ; لأن الصلاة بمكة تؤدى هكذا من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا ، والأفضل للإمام أن يقف في مقام إبراهيم - صلوات الله عليه - ، ثم صلاة الكل جائزة سواء كانوا أقرب إلى الكعبة من الإمام أو أبعد ، إلا صلاة من كان أقرب إلى الكعبة من الإمام في الجهة التي يصلي الإمام إليها بأن كان متقدما على الإمام بحذائه فيكون ظهره إلى وجه الإمام ، أو كان على يمين الإمام أو يساره متقدما عليه من تلك الجهة ، ويكون ظهره إلى الصف الذي مع الإمام ووجهه إلى الكعبة ; لأنه إذا كان متقدما على إمامه لا يكون تابعا له فلا يصح اقتداؤه به ، بخلاف ما إذا كان أقرب إلى الكعبة من الإمام من غير الجهة التي يصلي إليها الإمام ; لأنه في حكم المقابل للإمام ، والمقابل لغيره يصلح أن يكون تابعا له بخلاف المتقدم عليه وعلى هذا إذا قامت امرأة بجنب الإمام في الجهة التي يصلي إليها الإمام ونوى الإمام إمامتها فسدت صلاة الإمام لوجود المحاذاة في صلاة مطلقة مشتركة ، وفسدت صلاة القوم بفساد صلاة الإمام ، ولو قامت في الصف في غير جهة الإمام لا تفسد صلاة الإمام ; لأنها في الحكم كأنها خلف الإمام ، وفسدت صلاة من على يمينها ويسارها ومن كان خلفها على ما يذكر في موضعه ولو كانت الكعبة منهدمة فتحلق الناس حول أرض الكعبة وصلوا هكذا ، أو صلى منفردا متوجها إلى جزء منها - جاز وقال الشافعي : لا يجوز إلا إذا كان بين يديه سترة .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أن الواجب استقبال البيت والبيت اسم للبقعة والبناء جميعا إلا إذا كان بين يديه سترة ; لأنها من توابع البيت فيكون مستقبلا لجزء من البيت معنى .

                                                                                                                                ( ولنا ) إجماع الأمة ، فإن الناس كانوا يصلون إلى البقعة حين رفع البناء في عهد ابن الزبير حين بنى البيت على قواعد الخليل صلوات الله عليه ، وفي عهد الحجاج حين أعاده إلى ما كان عليه في الجاهلية ، وكانت صلاتهم مقضية بالجواز ، وبه تبين أن الكعبة اسم للبقعة سواء كان ثمة بناء أو لم يكن ، وقد وجد التوجه إليها ، إلا أنه يكره ترك اتخاذ السترة لما فيه من استقبال الصورة [ ص: 121 ] وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك في الصلاة .

                                                                                                                                وروي أنه لما رفع البناء في عهد ابن الزبير أمر ابن عباس بتعليق الأنطاع في تلك البقعة ليكون ذلك بمنزلة السترة لهم ، وعلى هذا إذا صلى على ظهر الكعبة جازت صلاته عندنا وإن لم يكن بين يديه سترة وعند الشافعي لا تجزيه بدون السترة ، والصحيح قولنا لما ذكرنا أن الكعبة اسم للعرصة ، ولأن البناء لا حرمة له لنفسه ، بدليل أنه لو نفل إلى عرصة أخرى وصلى إليها لا يجوز ، بل كانت حرمته لاتصاله بالعرصة المحترمة ، والدليل عليه أنه من صلى على جبل أبي قبيس جازت صلاته بالإجماع ، ومعلوم أنه لا يصلي إلى البناء بل إلى الهواء ، دل أن العبرة للعرصة والهواء دون البناء ، هذا إذا صلوا خارج الكعبة فأما إذا صلوا في جوف الكعبة فالصلاة في جوف الكعبة جائزة عند عامة العلماء ، نافلة كانت أو مكتوبة .

                                                                                                                                وقال مالك : لا يجوز أداء المكتوبة في جوف الكعبة .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أن المصلي في جوف الكعبة إن كان مستقبلا جهة كان مستدبرا جهة أخرى ، والصلاة مع استدبار القبلة لا تجوز فأخذنا بالاحتياط في المكتوبات ، فأما في التطوعات فالأمر فيها أوسع وصار كالطواف في جوف الكعبة .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن الواجب استقبال جزء من الكعبة غير عين ، وإنما يتعين الجزء قبلة له بالشروع في الصلاة والتوجه إليه ، ومتى صارت قبلة فاستدبارها في الصلاة من غير ضرورة يكون مفسدا فأما الأجزاء التي لم يتوجه إليها لم تصر قبلة في حقه ، فاستدبارها لا يكون مفسدا ، وعلى هذا ينبغي أن من صلى في جوف الكعبة ركعة إلى جهة وركعة إلى جهة أخرى لا تجوز صلاته ; لأنه صار مستدبرا عن الجهة التي صارت قبلة في حقه بيقين من غير ضرورة ، والانحراف من غير ضرورة مفسد للصلاة ، بخلاف النائي عن الكعبة إذا صلى بالتحري إلى الجهات الأربع بأن صلى ركعة إلى جهة ثم تحول رأيه إلى جهة أخرى فصلى ركعة إليها هكذا جاز ; لأن هناك لم يوجد الانحراف عن القبلة بيقين ; لأن الجهة التي تحرى إليها ما صارت قبلة له بيقين بل بطريق الاجتهاد ، فحين تحول رأيه إلى جهة أخرى صارت قبلته هذه الجهة في المستقبل ، ولم يبطل ما أدى بالاجتهاد الأول ; لأن ما أمضى بالاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله ، فصار مصليا في الأحوال كلها إلى القبلة فلم يوجد الانحراف عن القبلة بيقين ، فهو الفرق ثم لا يخلو إما أن صلوا في جوف الكعبة متحلقين أو مصطفين خلف الإمام فإن صلوا بجماعة متحلقين جازت صلاة الإمام وصلاة من وجهه إلى ظهر الإمام ، أو إلى يمين الإمام ، أو إلى يساره ، أو ظهره إلى ظهر الإمام ، وكذا صلاة من وجهه إلى وجه الإمام إلا أنه يكره لما فيه من استقبال الصورة الصورة ، فينبغي أن يجعل بينه وبين الإمام سترة .

                                                                                                                                وأما صلاة من كان متقدما على الإمام وظهره إلى وجه الإمام ، وصلاة من كان مستقبلا جهة الإمام وهو أقرب إلى الحائط من الإمام فلا تجوز لما بينا ، وهذا بخلاف جماعة تحروا في ليلة مظلمة واقتدوا بالإمام حيث لا تجوز صلاة من علم أنه مخالف للإمام في جهته ; لأن هناك اعتقد الخطأ في صلاة إمامه لأن عنده أن إمامه غير مستقبل للقبلة فلم يصح اقتداؤه به .

                                                                                                                                وأما ههنا فما اعتقد الخطأ في صلاة إمامه ; لأن كل جانب من جوانب الكعبة قبلة بيقين فصح اقتداؤه به ، فهو الفرق وإن صلوا مصطفين خلف الإمام إلى جهة الإمام فلا شك أن صلاتهم جائزة ، وكذا إذا كان وجه بعضهم إلى ظهر الإمام وظهر بعضهم إلى ظهره لوجود استقبال القبلة والمتابعة ; لأنهم خلف الإمام لا أمامه ، ولهذا قلنا إن الإمام إذا نوى إمامة النساء فقامت امرأة بحذائه مقابلة له لا تفسد صلاة الإمام لأنها في الحكم كأنها خلف الإمام ، وتفسد صلاة من كان عن يمينها ويسارها وخلفها في الجهة التي هي فيها ، واختلفت الرواية في أن النبي صلى الله عليه وسلم هل صلى في الكعبة حين دخلها روى أسامة بن زيد أنه لم يصل فيها ، وروى ابن عمر أنه صلى فيها ركعتين بين الساريتين المتقدمتين ( ومنها ) الوقت لأن الوقت كما هو سبب لوجوب الصلاة فهو شرط لأدائها ، قال الله تعالى : { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } ، أي فرضا مؤقتا حتى لا يجوز أداء الفرض قبل وقته إلا صلاة العصر يوم عرفة على ما يذكر ، والكلام فيه يقع في ثلاثة مواضع : في بيان أصل أوقات الصلوات المفروضة وفي بيان حدودها بأوائلها وأواخرها وفي بيان الأوقات المستحبة منها ، وفي بيان الوقت المكروه لبعض الصلوات المفروضة .

                                                                                                                                ( أما ) الأول فأصل أوقاتها عرف بالكتاب وهو قوله تعالى : { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون }

                                                                                                                                وقوله تعالى : { وأقم الصلاة طرفي [ ص: 122 ] النهار وزلفا من الليل } ، وقوله تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا } .

                                                                                                                                وقوله تعالى : { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار } ، فهذه الآيات تشتمل على بيان فرضية هذه الصلوات ، وبيان أصل أوقاتها لما بينا فيما تقدم والله أعلم ( وأما ) بيان حدودها بأوائلها وأواخرها فإنما عرف بالأخبار أما الفجر فأول وقت صلاة الفجر حين يطلع الفجر الثاني ، وآخره حين تطلع الشمس ، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إن للصلاة أولا وآخرا ، وإن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر ، وآخره حين تطلع الشمس } ، والتقييد بالفجر الثاني لأن الفجر الأول هو البياض المستطيل يبدو في ناحية من السماء - وهو المسمى ذنب السرحان عند العرب - ثم ينكتم ، ولهذا يسمى فجرا كاذبا ; لأنه يبدو نوره ثم يخلف ويعقبه الظلام ، وهذا الفجر لا يحرم به الطعام والشراب على الصائمين ، ولا يخرج به وقت العشاء ، ولا يدخل به وقت صلاة الفجر ، والفجر الثاني وهو المستطير المعترض في الأفق لا يزال يزداد نوره حتى تطلع الشمس ، ويسمى هذا فجرا صادقا ; لأنه إذا بدأ نوره ينتشر في الأفق ولا يخلف ، وهذا الفجر يحرم به الطعام والشراب على الصائم ، ويخرج به وقت العشاء ، ويدخل به وقت الفجر ، وهكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { : الفجر فجران ، فجر مستطيل يحل به الطعام ، وتحرم فيه الصلاة ، وفجر مستطير يحرم به الطعام وتحل فيه الصلاة } ، وبه تبين أن المراد من الفجر المذكور في حديث أبي هريرة رضي الله عنه هو الفجر الثاني لا الأول .

                                                                                                                                وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا يغرنكم أذان بلال ولا الفجر المستطيل لكن الفجر المستطير في الأفق } .

                                                                                                                                وروي { لا يغرنكم الفجر المستطيل ولكن كلوا واشربوا حتى يطلع الفجر المستطير } أي المنتشر في الأفق .

                                                                                                                                وقال الفجر هكذا ومد يده عرضا لا هكذا ومد يده طولا ; ولأن المستطيل ليل في الحقيقة لتعقب الظلام إياه .

                                                                                                                                وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { وقت الفجر ما لم تطلع الشمس } .

                                                                                                                                وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها } ، فدل الحديثان أيضا على أن آخر وقت الفجر حين تطلع الشمس .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية