الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            مسألة : رجل اغتاب رجلا بسب أو نحوه ، أو قذفه ، أو خانه في أهله ، ثم إنه تاب بعد ذلك ، فهل يكفي في ذلك توبته ورجوعه إلى الله وكثرة ذكره وعبادته ، أم لا بد من تحلله من ذلك وذكره له ما ظلمه به إذا لم يكن علمه ؟ .

            الجواب : لا بد من تحلله من ذلك وذكره له ما ظلمه به ؛ لأن ذلك من شروط التوبة ، وما لم تصح التوبة لم يكفر الذنب المتعلق بالآدمي شيء ، وإنما لا يحتاج إلى ذلك حيث تعذر الوقوف على صاحب الحق لموت أو نحوه - هذا الذي جزمت به هو الموافق لنقل العلماء من أصحابنا وللآثار .

            أما النقل فقال الشيخ محيي الدين النووي في الأذكار ، في باب كفارة الغيبة والتوبة منها : اعلم أن كل من ارتكب معصية لزمه المبادرة إلى التوبة منها ، والتوبة من حقوق الله يشترط فيها ثلاثة أشياء : أن يقلع عن المعصية في الحال ، وأن يندم على فعلها ، وأن يعزم أن لا يعود إليها ، والتوبة من حقوق الآدميين يشترط فيها هذه الثلاثة ، ورابع وهو رد الظلامة إلى صاحبها وطلب عفوه عنها ، والإبراء منها ، فيجب على المغتاب التوبة بهذه الأمور الأربعة ؛ لأن الغيبة حق آدمي ، ولا بد من استحلاله من اغتابه ، وهل يكفيه أن يقول قد اغتبتك فاجعلني في حل ، أم لا بد أن يبين ما اغتابه به ؟

            فيه وجهان لأصحابنا : أحدهما يشترط بيانه ، فإن أبرأه من غير بيانه لم يصح كما لو أبرأه من مال مجهول ، والثاني لا يشترط ؛ لأن هذا مما لا يتسامح فيه ولا يشترط علمه بخلاف المال ، والأول أظهر ؛ لأن الإنسان قد يسمح بالعفو عن غيبة دون غيبة ، فإن كان صاحب الغيبة ميتا أو غائبا فقد تعذر تحصيل البراءة منها ، لكن قال العلماء : ينبغي أن يكثر الاستغفار له والدعاء ويكثر من الحسنات - هذا كلام النووي بحروفه ، وقال الشيخ تقي الدين السبكي في تفسيره : قد ورد في الغيبة تشديدات كثيرة حتى قيل : إنها أشد من الزنا من جهة أن الزاني يتوب فيتوب الله عليه ، والغائب لا يتاب عليه حتى يستحل من المغيب ، روي ذلك في حديث لكن سنده ضعيف ، قال : وهذا وإن كان في حقوق الآدميين كلها ، ففي الغيبة شيء آخر ، وهو هتك الأعراض وانتقاص المسلمين وإبطال الحقوق بما قد يترتب عليها ، وإيقاع الشحناء والعدوات ، ثم قال : فإن قلت : ما تقول في حديث كفارة الاغتياب أن تستغفر [ ص: 131 ] لمن اغتبته ؟ قلت : في سنده من لا يحتج به ، وقواعد الفقه تأباه ؛ لأنه حق آدمي فلا يسقط إلا بالإبراء فلا بد أن يتحلل منه ، فإن مات وتعذر ذلك قال بعض الفقهاء : يستغفر له فإما أن يكون أخذه من هذا الحديث ، وإما أن يكون المقصود أن يصل إليه من جهته حسنات عسى أن يعدل ما احتمل من سيئاته وأن يكون سببا لعفوه عنه في عرصات القيامة ، وإلا فالقياس أن لا يسقط أيضا ، نعم بالنسبة إلى الأحكام الدنيوية كقبول الشهادة ونحوها إذا تحققت منه التوبة ، وعجز عن التحلل منه بموت ونحوه ، يكفي ذلك انتهى .

            وأما الآثار فأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت ، والطبراني في الأوسط ، والأصبهاني في الترغيب ، عن جابر بن عبد الله ، وأبي سعيد الخدري قالا : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الغيبة أشد من الزنا " قيل : وكيف ؟ قال : "الرجل يزني ثم يتوب فيتوب الله عليه ، وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه " ، وأخرج ابن أبي الدنيا ، عن عطاء بن أبي رباح ، أنه سئل عن التوبة من الفرية فقال : تمشي إلى صاحبك فتقول : كذبت بما قلت لك وظلمت وأسأت ، فإن شئت أخذت بحقك وإن شئت عفوت ، وأخرج الأصبهاني عن عائشة بنت طلحة قالت : كنت عند عائشة أم المؤمنين وعندها أعرابية ، فخرجت الأعرابية تجر ذيلها فقالت بنت طلحة : ما أطول ذيلها ، فقالت عائشة : اغتبتها أدركيها تستغفر لك .

            وأما مسألة خيانة الرجل في أهله فقد روى مسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، عن بريدة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما من رجل يخلف رجلا في أهله فيخونه فيهم إلا نصب له يوم القيامة فقيل له هذا قد خانك في أهلك فخذ من حسناته ما شئت فيأخذ من حسناته ما شاء حتى يرضى أترون يدع له من حسناته شيئا " هذا لفظ الحديث ، فمن خان رجلا في أهله بزنا أو غيره ، فقد ظلم الزوج وتعلق له به حق يطالبه به في الآخرة ، لا محالة بنص هذا الحديث ، وهذا حق آدمي لا تصح التوبة منه إلا بالشروط الأربعة ، ومنها استحلاله من ذلك بعد أن يعرفه به بعينه على ما تقدم في كلام النووي ، ثم أقول : له حالان ، أحدهما : أن لا يكون على المرأة في ذلك تبعة ولا ضرر ، بأن يكون أكرهها على ذلك فهذا كما وصفنا لا شك فيه ، والثاني : أن يكون عليها في ذلك ضرر بأن تكون مطاوعة فهذا قد يتوقف فيه من حيث إنه ساع في إزالة ضرره في الآخرة بضرر المرأة في الدنيا ، والضرر لا يزال بالضرر ، فيحتمل أن لا يسوغ له في هذه الحالة إخباره به ، وإن أدى إلى بقاء ضرره [ ص: 132 ] في الآخرة ، ويحتمل أن يكون ذلك عذرا ، ويحكم بصحة توبته إذا علم الله منه حسن النية ، ويحتمل أن يكلف الإخبار به في هذه الحالة ، ولكن يذكر معه ما ينفي الضرر عنها ، بأن يذكر أنه أكرهها ، ويجوز الكذب بمثل ذلك ، وهذا فيه جمع بين المصلحتين لكن الاحتمال الأول أظهر عندي .

            ولو خاف من ذكر ذلك الضرر على نفسه دون غيره ، فالظاهر أن ذلك لا يكون عذرا ؛ لأن التخلص من عذاب الآخرة بضرر الدنيا مطلوب ، وقد أقر جماعة من السلف على أنفسهم بالزنا ليقام الحد عليهم فيطهروا ، مع أن ذلك محض حق الله والستر فيه على أنفسهم أولى فكيف في حق الآدمي ، ويحتمل أن يقال : إنه يعذر بذلك ويرجى من فضل الله أن يرضى عنه خصمه إذا علم حسن نيته ، ولو لم يرض صاحب الحق في الغيبة والزنا ونحوهما أن يعفو إلا ببذل مال فله بذله سعيا في خلاص ذمته والغبطة في ذلك له ، ثم رأيت الغزالي قال في منهاج العابدين في فضل التوبة من حقوق الآدميين : وأما الحرمة بأن خنته في أهله أو ولده أو نحوه فلا وجه للاستحلال والإظهار ؛ فإنه يولد فتنة وغيظا بل تفزع إلى الله - سبحانه - ليرضيه عنك ويجعل له خيرا كثيرا في مقابلته ، فإن أمنت الفتنة والهيج ، وهو نادر فتستحل منه ، ثم قال في آخر كلامه : وجملة الأمر أن ما أمكنك من إرضاء الخصوم عملت وما لم يمكنك راجعت الله بالتضرع [ والابتهال ] والصدق ؛ ليرضيه عنك فيكون ذلك في مشيئة الله - سبحانه - يوم القيامة والرجاء منه بفضله العظيم ، وإحسانه العميم أنه إذا علم الصدق من قلب العبد فإنه يرضي خصماءه من جزيل فضله يوم القيامة انتهى .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية