الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              570 - أحمد النوري

              ومنهم أبو الحسين أحمد بن محمد ، المعروف بالنوري ، أحد الأئمة ، له اللسان الجاري بالبيان الصافي في أسرار المتوجهين إلى الباري ، لقي أحمد بن أبي الحواري وصحب سريا السقطي ، يعرف بابن البغوي .

              سمعت عبد المنعم بن حيان يحكي عن أبي سعيد الأعرابي محنته وغيبته عن إخوانه ، في أيام محنة غلام الخليل وأنه أقام بالرقة سنين متخليا عن الأناس ثم عاد بعد المدة المديدة إلى بغداد وفقد أناسه وجلاسه [ ص: 250 ] وأشكاله ، وانقبض عن الكلام لضعف في بصره وانحلال في جسمه وقوته .

              حدثنا عثمان بن محمد العثماني ، ثنا أبو بكر محمد بن حمدان ، ثنا محمد بن أحمد أبي سفيان ، ومحمد بن علي القحطبي قالا : قدم أبو الحسين النوري وكان صوفيا متكلما في بعض قدماته من مكة في غير أوان الحج فخرجنا فاستقبلناه فوق بغداد ، فرأينا في وجهه تغيرا فقلنا : يا أبا الحسين تغير الأسرار من تغير الأبشار ؟ فقال : لا إن الحق تحمل كل كل وثقل عن قلوب أوليائه ، ثم أنشدني :


              أخرجني من وطني ، كما ترى صيرني ،     صيرني كما ترى
              ، أسكن قفر الدمن ،     إذا تغيبت بدا
              ، وإن بدا غيبني ،     وافقته حتى إذا
              وافقني خالفني ،     يقول لا تشهد ما
              ، تشهد أو تشهدني

              .

              سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول : رئي النوري في رجوعه من الحرم ولم يبق منه إلا خاطره ، فقال له رجل : هل يلحق الأسرار ما يلحق الصفات ؟ فقال : لا إن الحق أقبل على الأسرار فحملها وأعرض عن الصفات فمحقها ، ثم أنشأ يقول :


              هكذا صيرني ،     أزعجني عن وطني
              ، غربني شردني ،     شردني غربني
              ، حتى إذا غبت بدا ،     وإن بدا غيبني
              ، واصلني حتى إذا ،     واصلته فاصلني
              ، يقول لا تشهد ما ،     تشهد أو تشهدني

              .

              سمعت عمر البناء ، البغدادي بمكة يحكي : لما كانت محنة غلام الخليل ونسب الصوفية إلى الزندقة أمر الخليفة بالقبض عليهم فأخذ في جملة من أخذ النوري في جماعة فأدخلوا على الخليفة فأمر بضرب أعناقهم فتقدم النوري مبتدرا إلى السياف ليضرب عنقه فقال له السياف : ما دعاك إلى الابتدار إلى القتل من بين أصحابك ؟ فقال : آثرت حياتهم على حياتي هذه اللحظة ، فتوقف السياف والحاضرون عن قتله ، ورفع أمره إلى الخليفة ، فرد أمرهم إلى قاضي القضاة ، وكان يلي القضاء يومئذ إسماعيل بن إسحاق ، فقدم إليه النوري فسأله عن مسائل في العبادات والطهارة والصلاة ، فأجابه ثم قال له : [ ص: 251 ] وبعد هذا لله عباد يسمعون بالله وينظرون بالله ويصدرون بالله ويردون بالله ويأكلون بالله ويلبسون بالله ، فلما سمع إسماعيل كلامه بكى طويلا ثم دخل على الخليفة فقال : إن كان هؤلاء القوم زنادقة فليس في الأرض موحد ، فأمر بتخليتهم . وسأله السلطان يومئذ : من أين يأكلون ؟ فقال : لسنا نعرف الأسباب التي نستجلب بها الأرزاق ، نحن قوم مدبرون . وقال : من وصل إلى وده أنس بقربه ، ومن توصل بالوداد فقد اصطفاه من بين العباد .

              حدثنا أبو الفضل الهروي قال : حكي لي عن جعفر بن الزبير الهاشمي أن أبا الحسين النوري ، دخل يوما الماء فجاء لص فأخذ ثيابه فبقي في وسط الماء فلم يلبث إلا قليلا حتى رجع إليه اللص ومعه ثيابه فوضعها بين يديه وقد جفت يمينه ، فقال النوري : رب قد رد علي ثيابي فرد عليه يمينه ، فرد الله عليه يده ومضى .

              سمعت أبا الفرج الورثاني يقول : سمعت علي بن عبد الرحيم يقول : دخلت على النوري ذات يوم فرأيت رجليه منتفختين فسألته عن أمره ، فقال : طالبتني نفسي بأكل التمر فجعلت أدافعها فتأبى علي فخرجت فاشتريت فلما أن أكلت قلت لها : قومي حتى تصلي ، فأبت فقلت : لله علي وعلي إن قعدت على الأرض أربعين يوما ، فما قعدت .

              سمعت محمد بن موسى يقول : سمعت محمد بن عبد الله يقول : سمعت أبا العباس بن عطاء يقول : سمعت أبا الحسين النوري يقول : كان في نفسي من هذه الآيات شيء فأخذت من الصبيان قصبة وقمت بين زورقين وقلت : وعزتك لئن لم تخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال لأغرقن نفسي ، قال : فخرجت لي سمكة فيها ثلاثة أرطال ، قال : فبلغ ذلك الجنيد فقال : كان حكمه أن يخرج له أفعى فتلدغه .

              سمعت محمد بن موسى يقول : حكى فارس الجمال عن النوري قال : كانت المراقع غطاء على الدر فصارت مزابل على جيف .

              سمعت أبا الفضل نصر بن أبي نصر الطوسي يقول : سمعت علي بن عبد الله [ ص: 252 ] البغدادي يقول : سمعت فارسا الجمال يقول : لحق أبا الحسين النوري علة والجنيد علة ، فالجنيد أخبر عن وجده ، والنوري كتم ، فقيل للنوري : لم لم تخبر كما أخبر صاحبك ؟ فقال : ما كنا نبتلى ببلوى فنوقع عليه الشكوى ، ثم أنشأ يقول :


              إن كنت للسقم أهلا     فأنت للشكر أهلا
              عذب فلم تبق قلبا     يقول للسقم مهلا

              فأعيد على الجنيد ذلك فقال الجنيد : ما كنا شاكين ولكنا أردنا أن نكشف عن عين القدرة فينا ، ثم بدأ يقول :


              أجل ما منك يبدو ،     لأنه عنك جلا
              ، وأنت يا أنس قلبي ،     أجل من أن تجلا
              ، أفنيتني عن جميعي ،     فكيف أرعى المحلا

              .

              قال : فبلغ ذلك الشبلي فأنشأ يقول :


              محنتي فيك أنني ،     لا أبالي بمحنتي
              ، يا شفائي من السقام ،     وإن كنت علتي
              ، تبت دهرا فمذ عرفتك ،     ضيعت فيك توبتي
              ، قربكم مثل بعدكم     فمتى ، وقت راحتي

              .

              سمعت علي بن عبد الله الجهضمي يقول : سمعت علي بن عبيد الله الخياط يقول : سمعت أبا محمد المرتعش يقول : سمعت أبا الحسين النوري يقول - ويوصي بعض أصحابه - عشرة وأي عشرة احتفظ بهن واعمل عليهن جهدك ، فأولى ذلك من رأيته يدعي مع الله عز وجل حالة تخرجه عن حد علم الشرع فلا تقربن منه ، والثانية من رأيته يسكن إلى غير أبناء جنسه ويخالطهم فلا تقربن منه ، والثالثة من رأيته يسكن إلى الرئاسة والتعظيم له فلا تقربن منه ولا ترتفق به ، وإن أرفقك فلا ترج له فلاحا ، والرابعة فقير رجع إلى الدنيا إن مت جوعا فلا تقربن منه ولا ترفق به إن أرفقك ، فإن رفقه يقسي قلبك أربعين صباحا ، والخامسة من رأيته مستغنيا بعلمه فلا تأمن جهله ، والسادسة من رأيته مدعيا حالة باطنة لا يدل عليها ولا يشهد عليها حفظ ظاهره فاتهمه على دينه ، والسابعة من رأيته يرضى عن نفسه ويسكن إلى وقته فاعلم أنه مخدوع فاحذره أشد الحذر ، والثامنة مريد يسمع القصائد ويميل إلى [ ص: 253 ] الرفاهية لا ترجون خيره ، والتاسعة فقير لا تراه عند السماع حاضرا فاتهمه ، واعلم أنه منع بركة ذلك لتشويش سره وتبديد همه ، والعاشرة من رأيته مطمئنا إلى أصدقائه وإخوانه وأصحابه مدعيا لكمال الخلق بذلك فاشهد بسخافة عقله ووهن ديانته .

              سمعت أبا الحسن يقول : حدثني عبد الواحد بن بكر ، حدثني علي بن عبد الرحيم قال : رأيت أبا الحسن النوري قائما حيال الكعبة يحرك شفتيه كأنه يسأل شيئا ، ثم أنشأ يقول :


              كفى حزنا أني أناديك دائبا     كأني بعيد أو كأنك غائب
              وأسأل منك الفضل من غير رغبة     ولم أر مثلي زاهدا فيك راغب

              .

              سمعت عثمان بن محمد العثماني يقول : قرأت على أبي محمد عبد الله بن محمد الرازي بنيسابور عن أبي الحسين النوري قال : أعلى مقامات أهل الحقائق انقطاعهم عن الخلائق ، وسبيل المحبين التلذذ بمحبوبهم وسبيل الراجين التأميل لمأمولهم وسبيل الفانين الفناء في محبوبهم ومأمولهم وسبيل الباقين البقاء ببقائه ، ومن ارتفع عن الفناء والبقاء فحينئذ لا فناء ولا بقاء . وقال : إن المحبة للمحبوب تتزايد من لطائف المحبوب .

              حدثنا عثمان بن محمد العثماني قال : قرأت على أبي محمد عبد الله بن محمد الرازي قال : أنشدنا النوري :


              كادت سرائر سري أن تسر بما     أوليتني من سرور لا أسميه
              فصاح للسر سر منك يرقبه     كيف السرور بسر دون مبديه
              فظل يلحظه سرا ليلحظه     والحق يلحظني ألا أراعيه
              وأقبل السر يغني الكل عن صفتي     وأقبل الحق يغنيني ويغنيه

              .

              حدثني عثمان بن محمد قال : أخبرني أحمد بن الحسين قال : سمعت أبا الحسن القناد يقول : كتبت إلى النوري وأنا حديث :


              إذا كان كل الكل في النور فانيا     أبن لي عن أي الوجودين أخبر

              فأجابني في الحال . [ ص: 254 ]

              إذا كنت فيما ليس بالوصف فانيا     فوقتك في الأوصاف عندي تحير

              .

              حدثنا عثمان بن محمد قال : أخبرنا الحسن بن أحمد أبو علي الصوفي قال : كتب النوري إلى الجنيد يسأله عن السر ووصفه في شعره ثلاثة أوصاف :


              يناجيك سر سائل عن ثلاثة     سرائرهم كتم وإعلانهم ستر
              فتى ضاع كتم السر بين ضلوعه     عن إدراكه حتى كأن لم يكن سر
              فأسبل أستار التخفر صائنا     لكل حديث أن يكون هو السر
              فكتام سر مدرك الكتم لم ينل     سوى حد كتم السر من ظنه ذكر
              فكاتمه المكنون ثم تكاتمت     جوانحه فالكل من بثه صفر
              ضنين بما يهواه ما لاح لائح     يقاربه إلا احتمى صوبها الفكر
              ومكتتم وافى الضمائر وامتطى     لمودعه جحدا وليس به غدر
              لامهم تاج الفخار ذكرته     ومن شربه في حالة المنهل الغمر

              فقال الجنيد : والله ما رميت بسري إلى أحدهما لأفضله على الآخر إلا جذبني إليه وقد أرجأت أمرهما إلى الله .

              سمعت محمد بن الحسين يقول : سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله الرازي يقول : سمعت القناد يقول : سمعت أبا الحسين النوري يقول : رأيت غلاما جميلا ببغداد فنظرت إليه ، ثم أردت أن أردد النظر فقلت له : لم تلبسون النعال الصرارة وتمشون في الطرقات ؟ قال : أحسنت أتحسن العلم ؟ ثم أنشأ يقول :


              تأمل بعين الحق إن كنت ناظرا     إلى صفة فيها بدائع فاطر
              ولا تعط حظ النفس منها لما بها     وكن ناظرا بالحق قدرة قادر

              ومن مسانيد حديثه فيما أخبرنيه محمد بن عمر بن الفضل بن غالب في كتابه ، وقد لقيته وسمعت منه في غير شيء :

              حدثنا محمد بن عيسى الدهقان قال : كنت أمشي مع أبي الحسين أحمد بن محمد النوري المعروف بابن البغوي الصوفي فقلت له : ما الذي تحفظ عن السري السقطي فقال : ثنا السري عن معروف الكرخي ، عن ابن السماك ، عن الثوري ، [ ص: 255 ] عن الأعمش ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قضى لأخيه المسلم حاجة كان له من الأجر كمن خدم الله عمره " . قال محمد بن عيسى الدهقان : فذهبت إلى السري السقطي فسألته فقال : سمعت معروف بن فيروز يقول : خرجت إلى الكوفة فرأيت رجلا من الزهاد يقال له ابن السماك ، فقال : حدثني الثوري عن الأعمش مثله .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية