الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى لما وصفهم بالذكر وثبت أن الذكر لا يكمل إلا مع الفكر ، لا جرم قال بعده : ( ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى رغب في ذكر الله ، ولما آل الأمر إلى الفكر لم يرغب في الفكر في الله ، بل رغب في الفكر في أحوال السماوات والأرض ، وعلى وفق هذه الآية قال عليه الصلاة والسلام : " تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق " ، والسبب في ذلك أن الاستدلال بالخلق على الخالق لا يمكن وقوعه على نعت المماثلة ، إنما يمكن وقوعه على نعت المخالفة ، فإذن نستدل بحدوث هذه المحسوسات على قدم خالقها ، وبكميتها وكيفيتها وشكلها على براءة خالقها عن الكمية والكيفية والشكل ، وقوله عليه الصلاة والسلام : " من عرف نفسه عرف ربه " معناه من عرف نفسه بالحدوث عرف ربه بالقدم ، ومن عرف نفسه بالإمكان عرف ربه بالوجوب ، ومن عرف نفسه بالحاجة عرف ربه بالاستغناء ، فكان التفكر في الخلق ممكنا من هذا الوجه ، أما التفكر في الخالق فهو غير ممكن البتة ، فإذن لا يتصور حقيقته إلا بالسلوب ، فنقول : إنه ليس بجوهر ولا عرض ، ولا مركب ولا مؤلف ، ولا في الجهة ، ولا شك أن حقيقته المخصوصة مغايرة لهذه السلوب ، وتلك الحقيقة المخصوصة لا سبيل للعقل إلى معرفتها ، فيصير العقل كالواله المدهوش المتحير في هذا الموقف ؛ فلهذا السبب نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التفكر في الله ، وأمر بالتفكر في المخلوقات ، فلهذه الدقيقة أمر الله في هذه الآيات بذكره ، ولما ذكر الفكر لم يأمر بالتفكر فيه ، بل أمر بالفكر في مخلوقاته .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 112 ] المسألة الثانية : اعلم أن الشيء الذي لا يمكن معرفته بحقيقته المخصوصة إنما يمكن معرفته بآثاره وأفعاله ، فكلما كانت أفعاله أشرف وأعلى كان وقوف العقل على كمال ذلك الفاعل أكمل ، ولذلك إن العامي يعظم اعتقاده في القرآن ولكنه يكون اعتقادا تقليديا إجماليا ، أما المفسر المحقق الذي لا يزال يطلع في كل آية على أسرار عجيبة ، ودقائق لطيفة ، فإنه يكون اعتقاده في عظمة القرآن أكمل .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : دلائل التوحيد محصورة في قسمين : دلائل الآفاق ودلائل الأنفس ، ولا شك أن دلائل الآفاق أجل وأعظم كما قال تعالى : ( لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ) [ غافر : 57 ] . ولما كان الأمر كذلك لا جرم أمر في هذه الآية بالفكر في خلق السماوات والأرض لأن دلالتها أعجب وشواهدها أعظم ، وكيف لا نقول ذلك ولو أن الإنسان نظر إلى ورقة صغيرة من أوراق شجرة ، رأى في تلك الورقة عرقا واحدا ممتدا في وسطها ، ثم يتشعب من ذلك العرق عروق كثيرة إلى الجانبين ، ثم يتشعب منها عروق دقيقة ، ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخر حتى تصير في الدقة بحيث لا يراها البصر ، وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكما بالغة وأسرارا عجيبة ، وأن الله تعالى أودع فيها قوى جاذبة لغذائها من قعر الأرض ، ثم إن ذلك الغذاء يجري في تلك العروق حتى يتوزع على كل جزء من أجزاء تلك الورقة جزء من أجزاء ذلك الغذاء بتقدير العزيز العليم ، ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلقة تلك الورقة وكيفية التدبير في إيجادها وإيداع القوى الغاذية والنامية فيها لعجز عنه ، فإذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلقة تلك الورقة الصغيرة ، فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السماوات مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم ، وإلى الأرض مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان ، عرف أن تلك الورقة بالنسبة إلى هذه الأشياء كالعدم ، فإذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير عرف أنه لا سبيل له البتة إلى الاطلاع على عجائب حكمة الله في خلق السماوات والأرض ، وإذا عرف بهذا البرهان النير قصور عقله وفهمه عن الإحاطة بهذا المقام ، لم يبق معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجل وأعظم من أن يحيط به وصف الواصفين ومعارف العارفين ، بل يسلم أن كل ما خلقه ففيه حكم بالغة وأسرار عظيمة ، وإن كان لا سبيل له إلى معرفتها ، فعند هذا يقول : سبحانك ! والمراد منه اشتغاله بالتسبيح والتهليل والتحميد والتعظيم ، ثم عند ذلك يشتغل بالدعاء فيقول : فقنا عذاب النار . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء وقال : أشهد أن لك ربا وخالقا ، اللهم اغفر لي ! فنظر الله إليه فغفر له " وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا عبادة كالتفكر " وقيل : الفكرة تذهب الغفلة وتجذب للقلب الخشية كما ينبت الماء الزرع . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تفضلوني على يونس بن متى فإنه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض " قالوا وكان ذلك العمل هو التفكر في معرفة الله ، لأن أحدا لا يقدر أن يعمل بجوارحه مثل عمل أهل الأرض .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية